شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من جيمس بوند وشرلوك هولمز إلى قناع فنديتا... هل يطرح أبطالُ الثقافة الشعبية أسئلةً فلسفية؟

من جيمس بوند وشرلوك هولمز إلى قناع فنديتا... هل يطرح أبطالُ الثقافة الشعبية أسئلةً فلسفية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 24 سبتمبر 201903:25 م

تمتلك الشخصيات المُتخيّلة قدرةً على تحريك التفكير الفلسفي، وتشكّل مرجعية لمحاكمة بعض الأفكار، وأحياناً توليدها، هذه القدرة تنطبق عادة على الشخصيات "الكبرى"، التراجيدية والكوميدية وغيرها من أبطال الأدب، الذين يؤخذون على محمل الجدّ دوماً، بوصفهم "شخصيات خالدة" وغيرها من الصفات التي تجعلهم نموذجاً للسلوك الإنساني والنفس البشرية.

لكن، بعيداً عن هذه الاعتبارات المفرطة في "أدبيّتها"، هذه الشخصيات ظهرت في سياق "الترفيه"، أوديب مسرحية قدمت في المسابقات العلنية، التي يتنافس الكتاب والمؤدون على أفضلها، هاملت كانت تعرض أيضاً في مسرح الغلوب بغرض الترفيه.

أهميّة الشخصيات المتخيّلة تكمن في امتلاكها أثراً أدائياً علينا كأفراد، هي ترسم احتمالات جديدة للعالم، وتأخذنا أبعد مما نحن عليه، أو تعمّق وجودنا في العالم، كاشفة عن العطب الذي يحويه أو الذي يحرّكنا، طارحةً تساؤلات "عميقة" من وجهة نظر الفلاسفة.

لا نرى الجدية السابقة أثناء التعامل مع شخصيات الثقافة الشعبية، أو تلك "الدُنيا"، كونها حسب بعض التصنيفات تحضر فقط في سياق الترفيه والصناعة الثقافية الإيديولوجية، وتستخدم في الدراسات الثقافية والجندرية، بوصفها شكلاً من أشكال تمثيل أنساق وديناميكيات القوّة، وكأنها "أقلّ" من أن تدخل ضمن بانثيون الشخصيات التي تستحق أن تنطق فلسفة أو تمارسها، كدون كيخوتة، ومدام بوفاري.

ثنائية "سطحية" و"عميقة" تنفي أن الشخصيات التي نشاهدها في "صناعة الترفيه" تعكس تساؤلات زمننا وأفكارنا، وتُسائل السياقات التي نختبرها، بل ويمكن لها أن تكون "فلسفية"، ضمن ما يُسمى "فلسفة البوب" التي أشار لها جيل دولوز، الذي يرى في الثقافة الشعبية ماكينة تُصدر علامات ومفاهيم فلسفية، فكما شغل سؤال هاملت: "أكون أو لا أكون؟" عقول الفلاسفة، سؤال ميراندا بريستلي: "أين هي الأحزمة المناسبة لهذا الثوب؟" الذي طرحته في فيلم "الشيطان يرتدي برادا"، قادر على أن يكون فلسفياً وذا أبعاد تخاطب تكويننا الثقافي والنفسي.

جيمس بوند... المثالي اللاأخلاقي

تمثل شخصية جيمس بوند، سواء في سلسلة الروايات التي ألّفها أيان فلامنغ في الخمسينيات أو الأفلام المقتبسة عنها، نموذجاً عن العلاقة بين اللذة والواجب، فبوند صاحب الذوق الرفيع، الجريء، المفرط في ذكورته، ينساق دوماً وراء ملذّاته الشخصية، لكنه في ذات الوقت يقوم بواجباته، أي ينجز مهمته على أكمل وجه.

هو مثال على الاختلاف والتوازن بين "اللذّة" كهدف شخصي وبين "الواجب" لتحقيق "الخير" الجمعي، حتى لو كان هذا الواجب يتطلب القتل في سبيل إنجازه، فمهما تنقل بوند بين أجساد عشيقاته، يبقى ولاؤه للـ"ملكة"، هو مستعد للتضحية بلذاته في سبيلها، بل ونراه واعياً بالحدّ الذي يمكن أن تصل إليه هذه الملذات، هو لا يكمل كأس الويسكي حتى النهاية، لا يقضي الصباح بأكمله في سرير من أغواها، عليه أن يبقى دوماً متيقظاً لنداء الواجب، سلوكيات بوند "المُنحلة" لا تعميه عن مهمته، مع ذلك هو ضحية نفسه: استعراضي، لا يخفي اسمه، ذو مهارات متعددة ويمتلك "ألعاباً" قاتلة، هناك نشوة "خطرة" تعتليه حين يندفع وراء ملذّاته، لكنها تتلاشى بمجرد بدئه بالعمل، ذاك الذي لابد من إنجازه.

"تمثل شخصية جيمس بوند، سواء في سلسلة الروايات التي ألّفها أيان فلامنغ في الخمسينيات أو الأفلام المقتبسة عنها، نموذجاً عن العلاقة بين اللذة والواجب، فبوند صاحب الذوق الرفيع، الجريء، المفرط في ذكورته، ينساق دوماً وراء ملذّاته الشخصية، لكنه في ذات الوقت يقوم بواجباته، أي ينجز مهمّته على أكمل وجه"

من جيمس بوند وشرلوك هولمز إلى قناع V... كيف تؤثر شخصيات الثقافة الشعبية في سلوكنا ومعتقداتنا؟  

ديانا... الحب مُنقذاً للعالم

تختلف ديانا، الأميرة الأمازونية عن باقي الأميرات التقليديات، هي لا تحتاج لمنقذ لها، يُقبّلها لتصحو من غفوتها، أو يتسلق شعرها إلى أعلى البرج، ولا تكمن أهميتها بوصفها امرأة قوية ومحاربة، بل بنموذج العدالة الذي تقدمه، هي تختلف عن أنتيغون التي ترى العدالة في دفن أخيها، فديانا وبعد إنقاذ النقيب الطيار ستيف تريفور، تخرج من عالم "الأسطورة" نحو "العالم الحقيقي" لتدخل التاريخ وتغيراته لأجل من تحب، الذي لا يتمثل فقط بتريفور، بل بالإنسانية بأكملها، بوصفها سمة مشتركة بين الجميع.

هي تريد تحقيق "العدالة" التي تُحارب لأجلها عبر "الحقيقة"، التي تستخرجها بسوطها، صحيح هي تمثل صورة "Femme Fatal"، لكنها بعكس الآلهة اليونانية للعدالة، مُبصرة، لا تعاقب بالسيف فقط، بل تؤدّب بالسوط، هي لا تشك بالإنسانية ولا ترى فيها عطباً جوهرياً، بل تؤمن بها، وترى الحرب شكلاً من أشكال الحب المنحرف، فديانا تدعو لعدالة عالمية قائمة على الحب بلا مقابل، الحب كقيمة عليا بحد ذاته.

شرلوك هولمز... انتصار العقلانية

لا يمتلك المحقق البريطاني الشهير أي قوى خارقة، هو فقط وحيد، مدمن كوكائين، وشديد الذكاء، بكلمات أخرى، هو مهووس بالعلاقات السببية والاستنتاج اللذين يشكلان سلاحه السحري. ذكاؤه المتقد قائم على أساس الملاحظة وإيجاد علاقات بين مكونات العالم، آخذاً بعين الاعتبار أن كل شيء قابل للتفسير ويتحرك بين سبب ونتيجة. لا شيء مجّاني، فهناك أثر خفي يتركه أي حدث في العالم.

عقلانية هولمز المفرطة تحيلنا إلى مفهوم الحقيقية التجريبية، بوصفها مجموعة من الاختبارات ذات المقدمات والنتائج الحاسمة، فهولمز يجد علاقات أحادية بين الأشياء ويبني على أساسها الحقيقة، تلك التي لا تقبل الجدل كونها تجريبية، تنتمي للعالم النيوتوني المحسوس، لا احتمالات خفية أو متغيرة في حال "قسناها"، هي ثابتة بمجرد تعيينها، وكأن هولمز عقلاني تقليدي أو شديد التدين، يرى في العالم مجرد سلسلة من الأغراض لأصل واحد، ثابت، حرك العالم لأول مرة، ومازال أثر حركته مستمراً حتى الآن.

روكي بالبوا... ما بعد الألم

حتى لو تلاشى وجه روكي بالبوا من شدّة اللكمات، إلا أنه يبقى واقفاً ويقاتل حتى الانتصار، وكأنه في معركة مع قدرته الذاتية على الاحتمال، لا مع خصم خارجي، فروكي يرسم بوضوح الخط بين ما نستطيع تحدّيه، وهو مهارتنا الذاتية، وبين ذاك الخارجي الذي لا نستطيع التحكم به، فمعركة روكي الأهم هي ضد ذاته، حرفياً مع جسده وقدرته على الاحتمال، وهنا يظهر الألم بوصفه مجرد عتبة لا بد من تجاوزها، فالحكمة والانتصار يكمنان بعد الألم الذي يشكل جزءاً من المعركة ضد الخوف الداخلي.

جسد بالبوا جهاز ذو مهارة تزداد كلما أزداد صراعها مع ذاتها، سواء كان هذا الصراع جسدياً أو نفسياً، الألم ليس محرّكاً بل واحداً من المراحل، ولابد لهذا الجهاز أن ينصاع بالنهاية لرغبة صاحبه، فلا حدود لاستطاعته، وعليه أن يكون "الأفضل"، ما يعني تغير هذه الحدود مع الزمن، بالتالي هناك عمل دائم ومستمر لتطوير هذا الجهاز فلا صيغة نهائية له، هو بلا "نهاية" واضحة، يُجرح ويلتئم دوماً ويتغير شكله، كتلة من الإرادة تتحرك دوماً نحو الانتصار.

بافي سومرز... الإنسان ليس مركز العالم

تدافع بافي، المراهقة وقاتلة مصاصي الدماء، عن الخصائص الإنسانية لا الإنسان فقط، بل أي كيان يحمل صفات الإنسانية، كصديقها أنجيل مصاص الدماء، والآخر المستذئب، وصديقتها الساحرة، معركة بافي ضد "الشر" ليس لها شكل واحد، لكن ما نتيقن منه هو دفاعها عن "الخير" الذي يحمله أي كائن، هي تتجاوز الشكل والتكوين البشري نحو "الخير" بوصفه قيمة أعلى من الكائنات، التي تتبناه وتقتبس منه.

الأهم، الخير الذي تسعى بافي للدفاع عنه، لا يتعامل مع الإنسانية ومستقبلها، بل موجود في الحياة اليومية وضمن العلاقات الإنسانية، هو لا يشابه ذاك "المُطلق" الذي يدافع عنه الأبطال الخارقون، هو قيمة تتعلق بها شخصياً كصديقةٍ وابنةٍ وحبيبة ومراهقة تذهب للمدرسة.

الشخصيات السابقة، على اختلاف المساحات الترفيهيّة التي ظهرت ضمنها، تشكّل أيقوناتٍ من الثقافة الشعبية التي تتزايد كل يوم، و تتحوّل أشكالها، هي تعكس ديناميكية العصر، فكما تحول أوديب مثلاً بين عددٍ من النصوص المسرحية، وفي كل منها كان يمثل شرطاً سياسياً وثقافياً، هذه الشخصيات أيضاً تتحرّك ضمن أشكالٍ متعدّدة، إذ نقتبس منها في كلامنا، نتنكّر بأزيائها، ونستخدم كلماتها ومصطلحاتها في حياتنا اليومية، أو رسائلنا القصيرة، ببساطة، ألم يتنكر متظاهرون في إسبانيا بأقنعة دالي تيمناً بمسلسل "casa de papel" وقبلها وإلى الآن ما زال قناع "V"حاضراً ضمن الحركة الاحتجاجية والأناركية، هذه "الاقتباسات" شديدة الجدية، علامات على أثر "الترفيه" على الواقع السياسي، ودور هذه الشخصيات لا في التغيير، لكن برسم احتمالات جدية له.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image