لعقود من الزمن، قايضت حكومة رومانيا، جنوب شرقي أوروبا، اليهود المحليين بالحيوانات والسيارات والأسلحة. هذا هو مضمون مؤلّف جديد للسفير الروماني لدى إسرائيل، رادو يوانيد، يستند إلى الوثائق السرية المتصلة بهذه المعاملات التي حصدت منها بوخارست مئات الملايين من الدولارات.
وقبل بضع سنوات، رُفعت السرية عن العديد من الوثائق والمبادلات الرسمية التي تكشف عن "يهود مقابل خنازير"، بحسب الصحافي والكاتب في "هآرتس" الإسرائيلية، يوسي ميلمان.
في مؤلّف السفير الروماني، الذي يُنشر في وقت لاحق من العام الجاري بالولايات المتحدة، يتم سرد القصة المثيرة التي طالما تواطأت الحكومتان الرومانية والإسرائيلية للتعتيم عليها: أربعة عقود من الاتجار بالبشر برعاية "سكيوريتات"، جهاز المخابرات الروماني السيئ السمعة خلال فترة النظام الشيوعي.
في إحدى المراسلات، التي انطلقت من المقر الرئيسي لـ"سكيوريتات"في بوخارست، نوّه ضابط روماني بالتوصل إلى اتفاق بشأن شراء خمسة خنازير من الدنمارك مقابل "السماح للأشخاص التالية أسماؤهم بالمغادرة"، مع قائمة ملحقة تحتوي على عشرات اليهود من رومانيا.
تمت مبادلة اليهود الرومانيين، علاوة على الخنازير، بالمئات من الثيران، والحيوانات المنوية لها لتعزيز السلالة عن طريق التلقيح الاصطناعي، وعشرات الآلاف من رؤوس الماشية والأغنام، وأطنان من الأعلاف الحيوانية، والآلات الزراعية، ومعدات الحفر للبحث عن النفط، وأموال على هيئة شيكات ونقد.
ويلفت ميلمان في هذا الصدد إلى أن مقايضة اليهود بالأموال أو الخدمات أو البضائع كانت سمةً لهجرة اليهود من بلدان أخرى اضطهدتهم فيها الأنظمة، ضارباً المثل بهجرة يهود اليمن بعد قيام إسرائيل، ويهود العراق حتى أثناء حكم الرئيس الراحل صدام حسين، وأيضاً يخود سوريا وإثيوبيا.
وسبق أن نشر يوانيد مؤلفاً بعنوان: "فدية اليهود: قصة الصفقة السرية غير العادية بين رومانيا وإسرائيل" عام 2005. لكنه يعتزم نشر العديد من الوثائق التي لم تكن في المتناول آنذاك في كتابه الجديد الذي يدور في نفس الفلك.
خمسة خنازير دنماركية مقابل عشرات اليهود... وثائق رسمية تكشف متاجرة دولة أوروبية بيهودها والسماح لهم بالهجرة لأرض فلسطين المحتلة مقابل مئات ملايين الدولارات وحيوانات وأسلحة وسيارات
موجات الهجرة والإتجار
وجرت هجرة اليهود من رومانيا على أربع مراحل. أولاها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى قيام إسرائيل، وذلك عقب مقتل نحو نصف الجالية اليهودية هناك، أي نحو 400 ألف، وفق متحف الهولوكوست (ياد فاشيم)، في ظل أنظمة الحكم المتعاونة مع النازيين.
غادر بضع عشرات الآلاف من يهود رومانيا أو تم تهريبهم إلى خارج البلاد دون أي تعويض مالي أو مقابل آخر ليصلوا إلى فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني.
أشرفت منظمة "الموساد لعلية بيت" السرية، التابعة لعصابات الهاغاناه، على هذه الهجرة، قبل حلها وإعادة تأسيس منظمة "نتيف" أو "مكتب الاتصال" الذي رعى هجرة اليهود من الكتلة الشيوعية لإسرائيل.
المراحل الثلاث الأخرى لهجرة يهود رومانيا أُجريت في إطار مقايضة كاملة، وقد بدأت بقيام إسرائيل حتى العام 1952 بعد أن أذِن الحاكم السوفياتي جوزيف ستالين لليهود من بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا بالهجرة إلى إسرائيل.
وفيما كان خروج اليهود من الكتلة الشيوعية حراً ظاهرياً، فُرِض دفع نحو 120 دولاراً عن كل يهودي يهاجر إلى إسرائيل. بلغت عائدات بيع اليهود من 1948 إلى 1952 قرابة 15 مليون دولار، وهو مبلغ ضخم آنذاك.
"المعدات والأنابيب كانت أكثر أهمية بالنسبة للرومانيين من قلة من اليهود"... فيما كان خروج اليهود من الكتلة الشيوعية حراً ظاهرياً، وُضعت تسعيرة لكل يهودي يغادر إلى إسرائيل. تختلف التسعيرة من شخص لآخر. فهناك تسعيرة للعاطل والمتعلم والمسن وهكذا
لم تقتصر الصفقات على الأموال إذ طُلب من إسرائيل شراء معدات حفر وجرارات لصناعة النفط الرومانية التي تضررت بشدة إبّان الحرب. دفع الرومانيون جزءاً من ثمن الآلات نقداً وجزءاً آخر استُبدل بـ"بيع" عشرات الآلاف من اليهود. كتب أحد المسؤولين الإسرائيليين المعنيين بتلك الصفقات في مذكراته: "المعدات والأنابيب كانت أكثر أهمية بالنسبة للرومانيين من قلة من اليهود".
وأُغلفت أبواب الهجرة في رومانيا وباقي دول الكتلة الشرقية عام 1953، قبل أن يُسمح على مدار السنوات الخمس التالية لـ1657 يهودياً رومانياً بالهجرة إلى إسرائيل، تحت بند "لم شمل الأسرة لأسباب إنسانية".
وبدأت المرحلة الرابعة من هجرة اليهود من رومانيا عام 1958 عقب محاولة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف فتح قنوات حوار مع الغرب لدعم الاقتصاد المتعثر.
حيوانات وبضائع وخدمات أخرى
وساهم رجال أعمال يهود في هذه الخطوة مقابل تسهيل هجرة اليهود لإسرائيل. وتُظهر الوثائق كيف سجّل ضباط المخابرات الرومانية أسماء اليهود وبجانبهم عدد الماشية أو الخنازير المطلوب استبدالها بهم. بين عامي 1958 و1962، جرى تهجير 31 ألف يهودي روماني بهذه الطريقة إلى الغرب، وارتحلت أعداد منهم إلى إسرائيل لاحقاً.
عام 1959، طالبت المخابرات الرومانية باستبدال اليهود بخنازير دنماركية كبيرة، لأن لحمها كان أغنى وأكثر ثراءاً من السلالات البريطانية. في المقابل، أصدرت الحكومة الرومانية تأشيرات خروج لليهود إلى أي بلد يرغبون فيه بشرط ألا يقل عمر الواحد منهم عن 50 عاماً، وأن يكون متقاعداً وليست لديه مهارات مهنية.
مقايضة اليهود بالأموال أو الخدمات أو البضائع كانت سمةً في هجرة اليهود من بلدان أخرى مثل اليمن والعراق وسوريا وإثيوبيا
لكن آخرين طُلبت مقابل هجرتهم مبالغ تراوحت بين مئات وبضعة آلاف الدولارات للفرد. إحدى الشهادات الواردة في الكتاب الجديد أشارت إلى دفع 5000 دولار أو 8000 أحياناً عن يهودي وصف بأنه "سجين سياسي" أو ارتكب جرائم مالية. اختلفت "التسعيرة" بين يهودي وآخر، فكان هناك مقابل للعاطل وآخر للمتعلم وثالث للمسن وهكذا.
وثيقة سرية للمخابرات الرومانية من عام 1978 تنص على أنه حتى الآن، تم تلقي 31 مليون دولار، أُنفق منها 18 مليوناً على شراء طائرة بوينغ 707 للرئيس الروماني آنذاك نيكولاي تشاوشيسكو وعائلته في رحلاتهم العالمية.
كما نظمت إسرائيل قروضاً بنحو 100 مليون دولار من البنوك الدولية للحكومة الرومانية، مع استيعاب تكاليف الفائدة المرتفعة. علاوة على شراء البضائع من رومانيا، مثل مربى الفاكهة وسيارات داسيا، رغم عدم وجود سوق للسيارات في إسرائيل وقتذاك. تُضاف إلى ذلك الأسلحة والعناية العسكرية.
في نهاية المطاف، جرى نقل 100000 يهودي بالطائرة مباشرة من بوخارست إلى إسرائيل ليصل إجمالي اليهود الذين هاجروا من رومانيا إلى إسرائيل بين عامي 1946 و1989 إلى 300000.
ومنذ انتهاء المرحلة الرابعة، عام 1989 حين أُطيح النظام الشيوعي في رومانيا، ظلت "الصلة الإسرائيلية" - صفقات مبادلة اليهود- سرية للغاية ولا يعلم بها سوى ستة من كبار ضباط المخابرات الرومانية. وقد رفعت السرية عن المراسلات أخيراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...