شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"فلسطين المصرية"... قصة مشروع توطين اليهود الفاشل في سيناء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 6 يونيو 201906:07 م

في 22 أكتوبر 1902، التقى زعيم المنظمة الصهيونية العالمية تيودور هرتزل بوزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرلين، ودار حديث بينهما حول إمكانية توطين اليهود في إحدى المستعمرات البريطانية، ومنها العريش وسيناء في مصر.

وظهرت فكرة اختيار سيناء أثناء المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في بازل السويسرية عام 1897، والذي بحث فكرة تأسيس وطن قومي لليهود، استناداً إلى الكتاب الذي وضعه هرتزل عام 1896 ومنحه اسم "دولة اليهود"، حسبما يذكر أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور عاصم الدسوقي لرصيف22.

وبحسب الدسوقي، شكّل المؤتمر لجنة ظلت في حالة انعقاد بين عامي 1898 و1905. وخلال هذه الفترة طُرح اسم أكثر من مكان لتوطين اليهود مثل كندا وأستراليا وأوغندا إضافة إلى شبه جزيرة سيناء.

أسباب دينية وجغرافية وسياسية

نظر هرتزل إلى سيناء كمنطقة يمكن أن تمثل منطلقاً لمشروع إقامة دولة صهيونية، وبعد الاستيطان فيها يمكن التوسع لاحقاً إلى فلسطين القريبة. ولقربها مما يعتبره اليهود "أرض الميعاد"، فهي تمثل حلاً أمثل من التجمع في دول بعيدة كالأرجنتين وأوغندا، حسبما يشرح أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور محمد عفيفي لرصيف22.

وبحسب عفيفي، وقفت وراء اختيار هرتزل لسيناء أسباب عدّة منها ما هو ديني، فهي أرض مقدسة لأن الله كلم النبي موسى فيها، ومن خلالها خرج اليهود من مصر وهي كذلك الأرض التي عاش اليهود فيها 40 سنة بالتيه، بحسب التوراة.

بيد أن أسباباً جغرافية وقفت وراء الاختيار أيضاً، فسيناء قريبة من مصر التي فيها نهر النيل وحياة زراعية وصناعية، وقريبة أيضاً من فلسطين.

وفي سبيل إقناع صُناع القرار البريطاني بمشروعه، لم يكتفِ هرتزل بمقابلة تشمبرلين، فقدم مذكرة إلى وزير الخارجية البريطاني الماركيز أوف لانسداون شرح فيها خطته وعرض الفائدة التي تعود على المصالح البريطانية إذا تحققت، خاصة ما يتعلق بكسب بريطانيا ولاء عشرة ملايين يهودي سيكونون رهن إشارة منها لكي يضحوا من أجلها، حسبما ذكر الدكتور أمين عبد الله محمود في كتابه "مشاريع الاسيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى".

ويذكر الدكتور إسماعيل أحمد ياغي، في كتابه "الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث"، أن هرتزل أطلق على سيناء اسماً معبّراً هو "فلسطين المصرية"، ليتخذ منها في المستقبل نقطة وثوب إلى فلسطين الآسيوية.

وبحسب ياغي، اقتنع الوزيران البريطانيان تشمبرلين ولانسداون بمشروع هرتزل لإقامة دولة يهودية في سيناء تتمتع بالحكم الذاتي في نطاق الإمبراطورية البريطانية، لأنه يحقق لبريطانيا أهدافاً استراتيجية منها ضمان حماية شرق قناة السويس، وعزل مصر عن الولايات العربية في غرب آسيا، وإضعاف الدولة العثمانية، وإقامة دولة موالية لبريطانيا.

بعثة استكشافية

لم تنتظر المنظمة كثيراً، وأرسلت أحد أعضائها وكان صحافياً يُدعى ليوبولد غرينبرغ إلى القاهرة، وهناك قابل المندوب السامي البريطاني اللورد كرومر (إفيلين بارينغ) وعدداً من المسؤولين المصريين، وأرسل في أعقاب ذلك تقريراً أولياً إلى هرتزل ذكر فيه أن كرومر يرى إمكانية تنفيذ المشروع شريطة قيام عدد من الخبراء المختصين بدراسة طبيعة المنطقة المقترحة لتوطين اليهود قبل البت بالأمر نهائياً، يروي محمود.

تلقف هرتزل شرط كرومر وسارع في منتصف يناير 1903 إلى تأليف لجنة من الخبراء برئاسة المهندس ليوبولد كسلر، أحد رواد الحركة الصهيونية في جنوب إفريقيا وأحد وجوه المنظمة الصهيونية العالمية البارزين، وضمت في عضويتها الكولونيل البريطاني ألبرت غولدسميد الذي تولى مهمة الاتصال باليهود المصريين والعمل على كسب دعمهم وتأييدهم للمشروع.

وتحددت مهمة اللجنة في "دراسة إمكانية الاستيطان في القسم الشمالي من شبه جزيرة سيناء، والبحث في الوسائل والإمكانيات التي تسمح باستعمار المناطق الواقعة على البحر المتوسط بين قناة السويس والحدود التركية على الساحل"، إضافة إلى البحث في أفضل السبل لري الصحراء ودراسة إمكانية ضخ مياه النيل عبر قناة السويس أو تحتها وتقدير مدى تكلفة المشروع، يوضح محمود.

غير أن هرتزل أوصى أعضاء اللجنة باللجوء إلى الكتمان في عملهم، وعدم نشر أي خبر يتعلق بالمهام المنوطة بهم، خوفاً من أية ردود فعل مصرية أو عثمانية من الممكن أن تعيق سير العملية.

وبحسب محمود، غادرت اللجنة مدينة تريستا الإيطالية متوجهة إلى العريش في مطلع فبراير 1903، وبقيت هناك حتى منتصف أبريل من نفس العام، وقدّم كرومر كل التسهيلات الممكنة لأعضاء اللجنة لدراسة مدى إمكانية نجاح المشروع من الوجهة الفنية.

مصاعب عدّة

يبدو أن السرية التي نصح بها هرتزل لم يُحافظ عليها. وبمجرد وصول البعثة بدأت تعترض المشروع مصاعب رئيسية أهمها معارضة الدولة العثمانية له، إذ اعتبرته تهديداً مباشراً لممتلكاتها في فلسطين والحجاز، كما أن الحركة الوطنية المصرية لم تكن لترضى بأيّة حال بوجود استعمار ثانٍ يتخذ من العريش وسيناء منطلقاً له.

وبمرور الوقت، فقد كرومر حماسه للمشروع، وأخذ يبدي تحفظات حول فكرة ري صحراء سيناء بمياه النيل، واعتبر هذه الفكرة مستحيلة التنفيذ، يروي محمود.

كما أصدر وزير خارجية مصر آنذاك بطرس باشا غالي بياناً أعلن فيه رفض حكومته الصريح للمشروع، وذكر أن "الخديوي (عباس حلمي الثاني) لا يمكنه تحت أي مبرر وضغوط التخلي عن أي من الحقوق الخاصة بالسيادة المصرية، ولهذا فإن فكرة الاتفاق يجب أن تستبعد رسمياً".

ورغم ذلك، أبدت الحكومة على لسان وزير خارجيتها عدم معارضتها لقدوم عدد من المهاجرين اليهود إلى مصر، واستعدادها لمنحهم امتيازات خاصة من حيث الضرائب والأراضي شريطة أن يصبحوا من رعايا الدولة المحليين.

توصيل مياه النيل

إزاء هذه الأنباء غير المشجعة، بادر هرتزل فوراً بالسفر إلى مصر، أواخر مارس 1903، واجتمع بكرومر مرتين لاستطلاع حقيقة موقفه وموقف الحكومة المصرية من المشروع، وكان واضحاً أن ردود فعل كرومر كانت فاترة وغير مشجعة، بحسب محمود.

لكن كرومر عرض على هرتزل إعطاء اليهود قطعاً من الأراضي المتفرقة، إلا أنه أبدى استحالة إعطائهم أرضاً متصلة بالشكل الذي توقعه الصهيونيون في بادئ الأمر، وأوضح كرومر بأن هذا هو أقصى ما يمكن لليهود الحصول عليه في "الوقت الحاضر".

يروي محمود أنه في أثناء وجوده في القاهرة، اطّلع هرتزل على مسودة النتائج التي توصلت إليها اللجنة، وكان مما رود فيها أن "المنطقة بوضعها الحالي غير ملائمة إطلاقاً لسكن مستوطنين من الدول الأوروبية". وبضغط من الأعضاء الصهاينة على ما يبدو وافقت اللجنة على إضافة "غير أن هذه المنطقة الصحراوية لو توفرت فيها المياه الكافية، فشروط التربة والمناخ فيها يمكنها من استيعاب عدد لا بأس به من السكان".

هرتزل في الإسكندرية، عام 1898


ويذكر محمود أن هرتزل استغل هذه الإضافة لإقناع المسؤولين البريطانيين بإمكانية جرّ جزء من مياه النيل لري المنطقة.

ولكن التقديرات المذهلة لكمية المياه التي تحتاجها سيناء والبالغة خمسة أضعاف التقديرات الأولية التي قدرها الخبراء اليهود، بالإضافة إلى عدم استعداد البريطانيين لإغلاق قناة السويس لفترة طويلة ليتسنى جرّ الجزء المطلوب من مياه النيل، أديا إلى مزيد من التردد والفتور لدى الجانب البريطاني.

أطلق عليها تيودور هرتزل اسماً معبّراً هو "فلسطين المصرية"، وفكّر في أن يتخذ منها في المستقبل نقطة وثوب إلى فلسطين الآسيوية... عن المشاريع الصهيونية في سيناء

نظر إليها هرتزل كمنطقة يمكن أن تمثل منطلقاً لمشروع إقامة دولة صهيونية، فبعد الاستيطان فيها يمكن التوسع بسهولة أكبر إلى فلسطين... عن المشاريع الصهيونية في سيناء

وأمام كل هذه الأبواب المغلقة، يشير محمود إلى أن هرتزل اتصل، أثناء وجوده في مصر، ببعض زعماء الحركة الوطنية فيها، بغية كسب تأييدهم عن طريق كيل الوعود لهم بالمساعدات المالية في أعقاب تأسيس دولة يهودية في المنطقة، ولكنه فشل في مسعاه الذي جلب عليه بالإضافة إلى ذلك استياء كل من كرومر وأعضاء الحكومة المصرية، فلم يجد مفراً من مغادرة مصر قبل أن يعدّ الخبراء تقريرهم النهائي.

رفض رسمي

في السادس من مايو 1903، تلقى هرتزل برقية من غولدسميد يخبره فيها رفض كرومر والحكومة المصرية للمشروع، بحجة تعذّر تأمين كمية المياه اللازمة للمشروع، فضلاً عن أن نصب المضخات على القناة يقتضي إيقاف سير السفن فيها لعدة أسابيع.

وفي نفس الفترة، كتب كرومر إلى كل من لانسداون وتشمبرلين يقول: "توصلت الآن إلى قناعة بأنه يتحتم علينا التخلي عن المشروع نهائياً. لقد توصل عدد من الباحثين الإنكليز والمصريين إلى نتيجة مفادها أن المشروع غير عملي، ولذا فليس هناك أي مبرر لتنفيذ مشروع فاشل من جهة وعالي النفقات من جهة أخرى".

وذكر كرومر أن عدداً من الساسة المصريين أكدوا أن إنشاء مراكز تجمع يهودية ذات مطامح سياسية يتعارض مع المصالح العليا للباب العالي الذي كان لا يزال يتمتع بحق السيادة على مصر. كما أن "تنفيذ هذا المشروع يضاعف المصاعب المادية الي تواجهها مصر، ولا يمكن التكهن بما سيتمخض عن ذلك من نتائج".

وبحسب محمود، فإن التفسير الحقيقي للتحول المفاجئ في موقف البريطانيين تجاه المشروع كان يكمن في تخوفهم من قيام ثورة عارمة ضدهم في مصر، فقد ثبت أن المشروع بحاجة إلى مقادير هائلة من مياه النيل التي هي بمثابة شريان الحياة الرئيسي للفلاح المصري الذي لن يقبل بأي حال من الأحوال التخلي عن قطرة منها.

لكن الدسوقي، يقدّم تفسيراً آخر يتمثل أن تنفيذ المشروع كان يعني إنشاء كيان استعماري داخل مستعمرة بريطانية، وهذا ما لم يكن يسمح به البريطانيون في تلك الفترة.

أما عفيفي فيرى أن إنكلترا مارست ضغوطات كبيرة على الحكومة المصرية لتوطين اليهود في سيناء، لكن الأخيرة رفضت، ما ترتب عليه سحب البريطانيين دعمهم المشروع.

محاولة أخرى فاشلة

لم تمرّ خمس سنوات على فشل مشروع هرتزل، حتى شهدت سيناء محاولة أخرى. روى عفيفي، أن وكيل القنصل البريطاني في غزة وكان يهودياً يدعى ألكسندر كنيزيفيتش اتجه عام 1908 لشراء الأراضي في سيناء لتوطين اليهود فيها، وحاول الحصول على دعم السلطات البريطانية.

لكن الحكومة المصرية تنبهت لهذا الأمر وأبلغت بريطانيا اعتراضها، وبناء على ذلك طلب المندوب السامي البريطاني إلدون غورست من كنيزيفيتش وقف مشروعه حتى لا يتسبب لبلاده بمشاكل.

وبحسب عفيفي، لم يحظَ مشروع كنيزيفيتش بتأييد يهودي كبير، نظراً لأن المنظمة الصهيونية كانت في ذلك الوقت قد حددت هدفها بتوطين اليهود في فلسطين وراحت تسعى إلى تنفيذه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image