"كنت أعمل وسط حقل ألغام"، بهذه العبارة يصف الصحافي حمزة هادي (اسم مستعار) مهنته السابقة. ترك هادي الصحافة واختار بيع الكتب في محافظته بسبب المخاطر التي تعرّض لها، وهو ما يجعله يقول: "أسير الآن بحرية، لا ألتفت حولي كثيراً، لا تُرعبني السيارات المظللة أو تلك التي لا تحمل لوحات، وباتت علاقتي جيدة مع أصحاب الدراجات حتى الملثمين منهم، فيما كان منظرهم يرعبني عندما كنت صحافياً".
يقول هادي لرصيف22: "كنت مراسلاً لعدد من المواقع الإخبارية في محافظتي، بالإضافة لتعاوني مع مواقع عديدة أخرى، لكنني اضطررت لترك المهنة التي أحبها بعد سلسلة مصاعب وتهديدات"، موضحاً "كان عليّ العمل بطريقة مُدجّنة أو أن أهاجر، عدا ذلك يكون مصيري التصفية أو التغييب، لا سيما وأنني تعرضت لتهديدات وملاحقات بسبب العمل على ملفات أزعجت جهات متنفذة في المحافظة".
بنظر هادي، لم تكن الملفات التي عمل عليها سابقاً حساسة بالمعنى الصحافي إلى حد كبير، إذ أنها لم تتعدَّ فكرة تسليط الضوء على مشاريع متلكئة أو الحديث عن شبهات فساد في ملف ما، لكنه يعلل رد فعل تلك الجهات القاسي وتهديدها له بـ"قلة الصحافيين في المحافظات غالباً، ما يدفع بأي ملف إلى الواجهة، ويُزعج الأشخاص المقصودين".
من جهته، يعتبر الصحافي فاضل النشمي الحديث عن التحديات والمخاطر الجدية التي يواجهها الصحافيون العراقيون بديهياً للغاية، خاصة مع وجود إحصائية تشير إلى أن ما لا يقل عن 450 صحفياً فقدوا حياتهم منذ عام 2003.
يقول النشمي لرصيف22: "بعد عام 2003، وسقوط الحكم الشمولي في العراق، كان يُنتظر أن يحظى العمل الصحافي بقدر عالٍ من الانفتاح والاستقرار، لكن ذلك لم يحصل رغم عملية ′الانفلات′ التي أدت إلى ظهور مئات الصحف والقنوات التلفزيونية في بداية الأمر، لأن الأمر اقتصر على بضعة صحف ′مستقلة′ بالكاد تُواصل عملها، في مقابل قنوات ومنصات مختلفة يملؤها المال السياسي، المحلي والإقليمي".
"ورطة" العمل
تُشكّل المؤسسات الصحافية المستقلة نسبة ضئيلة جداً وسط المؤسسات الإعلامية العاملة في العراق من قنوات تلفزيونية وصحف ومواقع إلكترونية يتجاوز عددها المئة، وتعود ملكيتها لجهات سياسية وحزبية، فضلاً عن جماعات مسلحة، ولذلك يجد الصحافي نفسه وسط حقل ألغام، فيصل به الأمر أحياناً حد مواجهة التحريض ضده والدعوات لاختطافه أو تصفيته.
من هؤلاء الصحافية أفراح شوقي التي عملت كمراسلة في العراق لصحيفة "الشرق الأوسط". في 26 كانون الأول/ ديسمبر عام 2016، اختطف مسلحون مجهولون يرتدون زياً عسكرياً شوقي من منزلها، جنوبي العاصمة بغداد، ثم عادوا وأطلقوا سراحها بعد تسعة أيام.
تقول شوقي: "أعمل صحافية منذ 20 عاماً. عملتُ قبل 2003 في صحف ومجلات عراقية، وبعدها في مواقع إلكترونية ومراسلة لصحيفة الشرق الأوسط للشأن المحلي والثقافي والاجتماعي. بدأ التحريض ضدي عبر وسائل التواصل الاجتماعي عندما أجريت استطلاعاً حول ردود أفعال العراقيين على اللافتات المنتشرة في الشوارع للترويج للجماعات السياسية"، موضحة أنها لم تهتم في البداية بالحملة، لكنها بدأت تتضاعف خاصة بعد تقرير آخر لها في صحيفة "الشرق الأوسط"، إلى أن اتخذت مساراً ممنهجاً ظهر أن جيوشاً إلكترونية تديره.
حول عملية اختطافها، تُخبر شوقي: "خلال اختطافي، تعرضت لتحقيق بشكل يومي يمتد لخمس ساعات. اتهمني الخاطفون بالعمالة، وسألوني عن الصحافيين وبعض السياسيين، وعن دوري في الاحتجاجات، وعلاقتي ببعض الناشطين من أصدقائي الفاعلين في ساحة التحرير، والدعم اللوجستي للفعاليات التي ننظمها"، لافتة إلى ما جرى بعد إطلاق سراحها حيث انطلقت حملة سوّقت إلى أن الاختطاف مفتعل وكان هدفه مساعدتها على تقديم طلب لجوء.
"لا تُرعبني السيارات المظللة أو تلك التي لا تحمل لوحات، وباتت علاقتي جيدة مع أصحاب الدراجات حتى الملثمين منهم، فيما كان منظرهم يرعبني عندما كنت صحافياً"... بعض الصحافيين في العراق تركوا المهنة بسبب مخاطرها، فيما يواجه كثر غيرهم خطر الخطف والتصفية
تتابع شوقي بالقول: "الثقافة المجتمعية تُلصق توجهات الصحافي وانتماءاته بتوجه المؤسسة التي يعمل لحسابها، كما تعمل شبكات إعلامية على الترويج لهذا الموضوع، لكن الواقع قد لا يكون كذلك بالضرورة، إذ لا تفرض كل المؤسسات المملوكة من جهات معيّنة على الصحافي توجهاً أو رأياً".
خيارات مُرة وقانون عاجز
تشير شوقي إلى أن التهديدات والضغوط التي يتعرض لها الصحافيون جعلتهم يختارون العمل على مواضيع هادئة لا تمس بجهة متنفذة، أو الهجرة إلى إقليم كردستان أو خارج البلاد، فضلاً عن خيار ترك العمل، أو النشر بأسماء مستعارة، بالرغم من عملهم في مؤسسات عربية وعالمية رصينة.
وحول دور السلطات، تقول شوقي إن "الحكومة غير قادرة على مواجهة الخطر الذي يهدد حياة الجميع، والصحافي بالخصوص، والقانون عاجز عن الوقوف بوجه ما يسمى بـ′الدولة العميقة′، لأن الأخيرة تمتلك إمكانيات لوجستية تتفوق على الدولة".
من جهته، قرّر الصحافي حيدر ناشي مغادرة البلاد لأكثر من عام، بعد اختطافه مع 6 من الناشطين المدنيين.
يقول ناشي لرصيف22: "تعرضنا للتحقيق أكثر من مرة، وأنا بالتحديد ركزوا علي، وسألوني عن عملي الصحافي ومُموّل المؤسسة التي كنت أعمل فيها، ودورنا في احتجاجات 2011 و2015 بالتحديد، خاصة وأن شقتنا كانت مقراً لاستراحة الناشطين المدنيين والصحافيين لقربها من ساحة التحرير، كما أنني عُذبت بوحشية".
لم يتخلص الناشي من الضغوط رغم المدة التي قضاها خارج البلاد، إذ واجه بعد عودته خمس دعاوى في المحاكم، آخرها كان بتهمة الطعن بالرموز، وفق المادة 372 من قانون العقوبات.
ويشير ناشي إلى أنه لا يزال يتعرض للضغوط والتهديد خاصة بعد أي منشور على صفحته في فيسبوك، حتى أنه تعرض قبل فترة لمحاولة اغتيال استخدم فيها سلاحه الشخصي للدفاع عن نفسه، على حد قوله.
على خط موازٍ، يواجه صحافيون يعملون في مؤسسات حكومية ضغوطات بسبب آرائهم ومواقفهم من الحكومة، كما أن بعضهم فُصل لهذا السبب. من هؤلاء، الكاتب والصحافي أحمد عبد الحسين الذي تعرض للفصل أكثر من مرة، كان أولها عام 2009، وذلك بعد نشره مقالاً حول سرقة مصرف الزوية في الكرادة، وكانت الشبهات وقتها تحوم حول عادل عبد المهدي الذي كان حينها نائباً لرئيس الجمهورية، وأصبح في ما بعد رئيساً للوزراء.
يقول عبد الحسين لرصيف22: "كان الضغط عليّ من جهتين، سياسية ودينية، السياسية هي التي أوصت بفصلي وتتمثل بالأحزاب المشتركة في الحكم، والدينية كان يمثلها إمام وخطيب جامع براثا الشيخ جلال الدين الصغير، وكان مسؤولاً في المجلس الإسلامي الأعلى آنذاك، وفي إحدى خطبه يوم الجمعة، وبالتحديد في الجمعة التي أعقبت مقالي، سماني كافراً لا أصل لي ولا فصل، وكانت هذه الكلمات كافية لهدر دمي".
"كان الضغط من جهتين، سياسية تتمثل بالأحزاب المشتركة في الحكم، ودينية بإمام وخطيب جامع براثا الذي سماني كافراً لا أصل لي ولا فصل، وكانت كلماته كافية لهدر دمي"... يواجه صحافيون يعملون في مؤسسات حكومية عراقية ضغوطات بسبب آرائهم حول الحكومة، كما فُصل بعضهم لهذا السبب
ويتابع عبد الحسين: "المرة الثانية فصلني مدير شبكة الإعلام محمد عبد الجبار الشبوط بأوامر من رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، وذلك بعد اشتراكي في تظاهرات 2011، والمرة الثالثة فصلني رئيس الشبكة مجاهد أبو الهيل بسبب منشور لي على فيسبوك ينتقد رئيس الوزراء وقتها حيدر العبادي وحزبه"، مبيناً أن "التضييق على الإعلاميين بسبب آرائهم ومواقفهم هو السمة العامة لكل الأحزاب الدينية، وموظفيها الذين تعينهم هذه الأحزاب، وليس الشبوط ولا أبو الهيل سوى مثالين صغيرين على الذمم التي اشترتها الأحزاب".
المساحة تتقلص
الخطوط الحمراء واضحة لجميع المشتغلين في حقل الصحافة، والجميع يعي المناطق المحظورة، ما يجعل الصحافي يختار العمل ضمن المساحة الخضراء أو الرمادية، لكن احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر عام 2018، وضعت الصحافة في دائرة خطر، وجعلت الجميع هدفاً للاغتيال أو الخطف.
وفي 7 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، تعرضت ست قنوات فضائية، محلية وعربية، لقصف صاروخي، وهجمات، وتهديدات وإغلاق، على يد مسلحين مجهولين ، بحسب رئيس "المرصد العراقي للحريات الصحافية" هادي جلو مرعي.
بالعودة للكلام مع شوقي، فهي تعزو ازدياد التضييق على حرية الصحافة بعد الاحتجاجات إلى"تعاظم دور الصحافة بعد تشرين الأول/ أكتوبر خاصة، حيث أدرك الجميع حجم تأثير الإعلام والأصوات الحرة، ما جعلهم يعملون على إغلاق المؤسسات المهنية، وإتاحة الساحة لمؤسساتهم الحزبية التي تنشر الشائعات للتأثير في المزاج العام".
"باتت المخاطر تحيط بالصحافيين العراقيين البعيدين عن حلقة تأثير الجماعات المسلحة، في مقابل شعور الصحافيين العاملين داخل تلك الحلقة بالأمان".
من جهته، يعتقد النشمي أن "جذر التضييق يعود إلى عام 2014، خاصة وأن ما قبل ذلك العام كانت المخاطر التي تواجه الصحافيين ناجمة عن القوى والجماعات المسلحة والإرهابية المناهضة للعملية السياسية الجديدة (تنظيم القاعدة، داعش...)، وكان صحافيون كثر يواجهون المخاطر ذاتها، أما بعد ذلك التاريخ، أي بعد الحرب ضد داعش والانتصار عليها عسكرياً، برزت جماعات مسلحة تسعى إلى فرض وجهة نظر أحادية في المجتمع العراقي. وهذا الاتجاه يسعى إلى قمع الأصوات الصحافية، بالتهديد والوعيد وعبر جيوش الكترونية يُسخّرها لهذا الغرض".
وبرأي النشمي، باتت المخاطر تحيط بالصحافيين العراقيين البعيدين عن حلقة تأثير الجماعات المسلحة، في مقابل شعور الصحافيين العاملين داخل تلك الحلقة بالأمان، ويقول: "أعرف مجموعة غير قليلة من الصحافيين اضطروا لمغادرة بغداد في ذروة الاحتجاجات الشعبية مطلع تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، بعد أن تعرضوا للتهديد العلني، لأنهم أعلنوا مواقف داعمة لحراك تشرين، ولم يعد بعضهم إلى بغداد حتى الآن لخشيته من الاغتيال والتصفية الجسدية، مثلما حدث لصحافيين آخرين، من أمثال أحمد عبد الصمد في البصرة ورفيقه المصور الصحافي".
ويرى النشمي أن المال السياسي وصراع النفوذ الإقليمي ألقيا بظلالهما القاتمة على أوضاع الصحافة وحرية التعبير في العراق، مرجحاً استمرار هذا التأثير في ظل عدم إمكانية نجاح أي عمل صحافي أو إعلامي من دون هذين العاملين.
خارطة الصعوبات
يوجز رئيس تحرير صحيفة "العالم الجديد" منتظر ناصر، في حديثه لرصيف22، الصعوبات التي يرى أنها تواجه العمل الصحافي في العراق.
يبدأ ناصر كلامه بالإشارة إلى التحدي الأمني الذي بدأ منذ عام 2003 ومستمر لغاية الآن، فيقول: "مرّ العامل الأمني بتحولات عدة، بدءاً من استهداف الجماعات التكفيرية إلى مراوغة العبوات الناسفة والسيارات المفخخة، وصولاً إلى عمليات الخطف والاغتيال المباشر على أيدي جماعات خارجة على القانون والدولة".
ينتقل ناصر للحديث عن التحدي التشريعي حيث لا يزال الصحافي العراقي يناضل من أجل التخلص من قوانين تعود إلى عهود الديكتاتورية، ومن شأنها أن تُدخله إلى السجن أو تُعرضه للغرامة ظلماً، فضلاً عن مطالبته بقوانين وتشريعات جديدة من قبيل حق الحصول على المعلومة، وكل ذلك دون جدوى.
والتحدي الثالث، وفق ناصر، هو السياسي خاصة بعد عام 2003 عندما "دخل العراق مناخ التعددية والانفتاح من أوسع أبوابه، ولأول مرة منذ تولي صدام للسلطة بشكل رسمي عام 1979، فبرزت ظاهرة جديدة هي الإعلام الحزبي الذي سحب الكثير من الصحافيين والإعلاميين وعمل على تدجينهم بعيداً عن دورهم النقدي المنشود، فاستمر شراء الذمم و إنشاء وسائل الإعلام الموالية حتى يومنا هذا، ما شكّل خطراً أكبر من خطر الاغتيال والخطف والسجن، لأنه اغتال الكثير من الضمائر التي تُعتبر بمثابة رأس المال للصحافي الحقيقي".
وفي هذا السياق، برزت كذلك ظاهرة أخرى هي الجيوش الإلكترونية التي أسستها جماعات و أحزاب وشخصيات تطلق الهاشتاغات والأخبار المزيفة وتحمل أجندات سياسية خاصة، وباتت تسبب مشاكل كبرى أمام الصحافة المستقلة والصحافيين المستقلين الذين لا يشكلون سوى أعداد قليلة، وفق رئيس تحرير "العالم الجديد".
ويظهر كذلك، حسب ناصر، التحدي المالي الذي يظل عامل تكبيل للصحافة الحرة والمستقلة، لعدم تمكنها من المنافسة بشكل قوي مع مؤسسات إعلامية ممولة.
وفي ختام كلامه، يستشهد ناصر بتجربة صحيفة "العالم الجديد" التي يرأس تحريرها، فيقول: "خضنا كل تلك التحديات منذ تأسيسها في 30 حزيران/ يونيو عام 2013، فقد واجهتنا ضغوط السياسة، والملاحقات الأمنية والقضائية، بالإضافة إلى التحدي المالي الذي يمنعنا من تحقيق مقتضى طموحنا في تطوير وتنويع عملنا، لكن ذلك لم يقف عائقاً أمام استمرارنا والخروج بقصص وتقارير ووثائق ومعلومات حصرية أوجدت لصحيفتنا اسماً بين أبرز الصحف المحلية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.