الحكاية رقم 1:
في أحد الأيام، سألت جورج عتيق عن عمره فضحك وقال 23 سنة. ابتسمت وقلت: أخبرني الحقيقة لأني سأكتب عنك قصة قصيرة وأريد أن أذكر فيها عمرك. بدا السرور على وجهه ولكنه رفض أن يخبرني بعمره الحقيقي واكتفى بالقول: يمكنك أن تكتب أن عمري في السبعين.
العم جورج يعمل في مجال النجارة الفنية: براويز لوحات، مراسم للفنانين، مكتبات منزلية وما شابه. وسامته وجاذبيته بالنسبة إلى رجل في السبعين تدلّ على أنه كان في شبابه يمتلك جمالاً يسلب قلوب الفتيات. رغم ذلك لم يتزوج.
حاولتُ أكثر من مرة بطريقة غير مباشرة استدراجه للحديث عن قصص الحب التي عاشها لكنّي لم أنجح، وحين طلبت منه بشكل مباشر أن يحدّثني عن حبيباته القديمات ضحك ورفع كأس الفودكا عالياً قائلاً: "بصحتك". ابتسمت له ورفعتُ كأس المتة قائلاً: "بحصتك أبو جريج".
المقرّبون من جورج يعلمون أنه حساس ورقيق للغاية، وأي كلمة جارحة قد تجعله حزيناً لأيام طويلة، ويعرفون أنه أمضى ثلاثين عاماً من حياته يعتني بأمه المريضة إلى أن فارقت الحياة.
منذ افتتاح مقهى قصيدة نثر عام 2007، وحتى الآن، لم يغب جورج يوماً واحداً عن الحضور إلى المقهى إلا إنْ كان هناك سبب طارئ. في كل مساء يجلس على الطاولة ذاتها يشرب البيرة أو كأساً من الفودكا، ويطلب منّا أن نضع أغنية لأم كلثوم ونرفع الصوت عالياً. أبو جريج صديق لكل رواد المقهى تقريباً يؤنسهم بأحاديثه ويخففون عنه وحدته، كل يوم بين الساعة الخامسة والسادسة مساءً إنْ لم يأتِ يسألني العديد من الأشخاص عنه والبعض منهم يقومون بالاتصال به ليطمئنّوا عليه.
مع بداية الأحداث في سوريا خيّم الخوف على المدينة ولم يعد الناس يغادرون منازلهم إلا للضرورة القصوى، فأغلقتُ المقهى لمدة شهر تقريباً. بعد عدة أيام اتصل بي أبو جريج وأخبرني أنه ما زال يأتي إلى المقهى بالموعد نفسه، يجلس لوحده على عتبة الباب المغلق يشرب البيرة ويعود إلى منزله. في تلك الفترة أصبح جورج بلا أصدقاء باستثناء مقهى قصيدة نثر المغلق. الصداقة تضاعف الفرح وتقسم الحزن على اثنين.
الحكاية رقم 2:
في شتاء 2016، اتصل بي أحد الأصدقاء وأخبرني أن الأستاذ توفيق دبانة أصيب بنوبة قلبية. معظم سكان المدينة يعرفون الأستاذ توفيق ليس لأنه الأفضل في تدريس مادة الرياضيات بل لإنسانيته وأخلاقه، فقد كان يعطي دروساً خصوصية بدون مقابل للفقراء، وعلمتُ بالمصادفة أنه كان يخصص رواتب شهرية لعدة عائلات فقيرة.
بعد أن تعافى الأستاذ توفيق من النوبة القلبية اتصلتُ به ودعوته لشرب فنجان قهوة في المقهى، فشكرني واعتذر عن المجيء لأن المقهى فيه تدخين وهذا يضره، فقلت له: سأجعل الجميع يتوقفون عن التدخين عند مجيئك. ضحك وقال: لا أريد إحراجك. قلت: لا تهتم سأتدبر الأمر، فسألني: كيف؟ أجبته: سأقول للموجودين بأنك قادم وأشرح لهم وضعك الصحي وإنْ تذمّروا سأخبرهم بأن مشروباتهم كلها على حسابي وعليهم المغادرة عند مجيئك، وفي حال غادر الجميع سأضع ورقة على الباب أكتب عليها "المكان محجوز"، أو "سنعود كالفرح بعد قليل ونستقبلكم أيها الأصدقاء"، أو عبارة "مغلق من أجل الصيانة إننا نعمل لأجلكم". ضحك وقال: سأزورك قريباً.
بعد عدة أيام اتصل بي وقال: أنا قادم! كان المقهى ممتلئاً تقريباً ودخان السجائر كالسحاب، وقفت في مكان يمكن للجميع أن يروني فيه وقلت بصوتٍ عال: "لو سمحتم أيها الأحبة، لو سمحتم، أعيروني انتباهكم قليلاً"، وحين التفت الجميع إليّ أخبرتهم بأنّي وعدت الأستاذ توفيق بإيقاف التدخين في المقهى حين يأتي لزيارتي، وشرحت لهم وضعه الصحي، وبلطف قلت: مَن لا يريد منكم التوقف عن التدخين أرجو منه أن يغادر ومشروباته على حسابي، لأن الأستاذ توفيق على وشك أن يصل. كان في المقهى أشخاص لا يعرفونه رغم ذلك وافقوا على الفكرة ولم يغادر أحد.
"أخبرتني أنها عاشقة، فقلت لها: في المرة القادمة تعالي برفقة حبيبك فلدي مشروب مخصص للعشاق. ابتسمت وقالت: سأخبرك بأمر... منذ مدة قررتُ أن أفصح عن هذا الأمر بغض النظر عن ردود أفعال الآخرين، أنا لزبيان.. قلت لها: المشروب المخصص للعشاق بانتظاركما"
حين لمحته قادماً من بعيد قلت لهم: لقد وصل! فقام الجميع من أماكنهم ووقفوا قرب الباب ليسلّموا عليه باليد ويهنئونه بالسلامة. حين انتهى من مصافحتهم وجلس على الطاولة تناول منديلاً ومسح دموعه.
كان قلب الأستاذ توفيق المتعب من التدخين والكحول وهموم الحياة يخذله بين الحين والآخر فيدخل المستشفى لعدة أيام ثم يعود إلى الحياة بشغف، وفي ليالي السهر كان الأستاذ يرفع كأس الكحول قائلاً: نصف قلبي معطل ولكن النصف الثاني لا زال شاباً وراغباً بالحياة... بصحتكم جميعاً! عام 2018 وبشكل مفاجئ قرر نصف قلبه الشاب أن يتخلى عن هذه الحياة.
حكاية رقم 3:
هناك مقولة تقول: "عدم التفكير في الموت هو عدم التفكير في العيش". السوريون وبسبب الحرب كانوا يشعرون بأنهم قد يفقدون حياتهم في أية لحظة بسبب رصاصة طائشة أو انفجار ما، وهذا ما جعلهم يعيشون كل يوم بيومه دون أن يؤجلوا شيئاً للمستقبل، وأيضاً دفع البعض منهم لمواجهة أعراف المجتمع وتقاليده وأخلاقياته التي لا ينسجمون معها.
في أحد الأيام، بينما كنت أجلس بمفردي، اقتربت فتاة في بداية الثلاثينات من العمر وألقت التحية عليّ وجلسَت. كانت هذه الفتاة من رواد المقهى وفجأة غابت عنه، فسألتها عن أخبارها وسبب غيابها! قالت إنها كانت خارج البلاد. ومن خلال الحديث أخبرتني أنها عاشقة، فقلت لها: في المرة القادمة تعالي برفقة حبيبك فلدي مشروب مخصص للعشاق سأقدمه لكما. ابتسمت وقالت: سأخبرك بأمر ربما يجعلك تأخذ موقفاً منّي وتغيّر رأيك بخصوص مشروب العشاق، منذ مدة قررتُ أن أفصح عن هذا الأمر بغض النظر عن ردود أفعال الآخرين، أنا "لزبيان" (مثلية) وحبيبي هو فتاة أحبها منذ عامين. قلت لها: المشروب المخصص للعشاق بانتظاركما.
يوماً ما، على إحدى طاولات مقهى قصيدة نثر، ستجلس فتاة جميلة وسيقوم أحدهم بخمس محاولات عن بعد للفت انتباهها ولكن دون جدوى، قلبه الصغير سيخفق بشدة وسيشعر بألم خفيف في معدته وهو يقترب من طاولتها
بعدها بعدة أشهر، أخبرني أحد الشبان الذين يرتادون المقهى أنه يكره والده الذي ينادي بالحريات وتقبّل الآخر لأنه قام بضربه وطرده من المنزل حين علم أنه مثلي.
حكاية بلا رقم لأنها ستحدث في المستقبل
حين تُعجب بفتاة تحاول بكل ما لديك من مهارات وخبرات لفت انتباهها بنظرة أو كلمة وتكون مستعداً لفعل ما لا يخطر على البال من أجل ذلك، ولكن عليك أن تكون حذراً للغاية فربما يكون أسلوبك غير محبب وثقيل. افعل أي شيء يخطر ببالك باستثناء أن تقترب منها وتقول: "في لمعة حزن بعيونك".
يوماً ما، على إحدى طاولات مقهى قصيدة نثر، ستجلس فتاة جميلة وسيقوم أحدهم بخمس محاولات عن بعد للفت انتباهها ولكن دون جدوى، قلبه الصغير سيخفق بشدة وسيشعر بألم خفيف في معدته وهو يقترب من طاولتها حاملاً كأس ماء بيده وقبل أن يصل بخطوتين سيُفلتهُ عمداً ليقع على الأرض، صوت انكسار الكأس سيجعلها تنظر نحوه، لحظتها سيبتسم ويقول لها: صوت الكاسة لما تنكسر صعب نتجاهلو لأن بيرجّعنا لأيام الطفولة لما كانوا أهلنا يعاقبونا إذا كسرنا كاسة. إنْ ابتسمَت سيكمل: لمّا كبرت اشتريت كاسات وكسرتها وحسيت بشعور حلو إنو ما حدا عاقبني.
ولكن إنْ لم تبتسم سيقول لها: هناك فيلم إيطالي بعنوان "الفتاة التي لم تبتسم لانكسار الكأس" حاولي أن تشاهديه على الـEgy Best. لحظتها إنْ بقيت تنظر إليه دون أي ردة فعل فسيكون كل ما فعله بالنسبة إليها ثقيلاً وغير محببٍ ومشابهاً لعبارة "في لمعة حزن بعيونك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين