بعد 26 عاماً عاشتها "بلا جنسية" أو جواز سفر لدولة تعترف بها، عدا وثيقة سفر لبنانية تحددها كـ"لاجئة فلسطينية"، خاضت هبة نبيل إسكندراني "رحلة مثيرة" في جذورها وتاريخ أسلافها لتكتشف الفتاة العربية المسلمة أنها من نسل اليهود السفارديم المنحدرين أصلاً من شبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا والبرتغال).
هبة التي ولدت وعاشت القسط الأكبر من حياتها في دبي، قبل أن تنتقل إلى بريطانيا لاستكمال دراساتها العليا، وتصف نفسها بأنها "حسابياً، ¾ لبنانية و1/4 فلسطينية"، عانت طويلاً "الصراع مع هويتها" في ظل عدم اعتراف الدولة اللبنانية بها، أو سماح إسرائيل، التي احتلت أرض أجدادها وهجرتهم إبان النكبة، لها بالعودة إلى مدينتها يافا.
في المنشور الذي أعلنت فيه قصتها عبر فيسبوك، في 12 أيلول/ سبتمبر، كتبت: "كنت دائماً في صراع مع هويتي، دون أي إحساس بالانتماء أو الحق في أي بلد... فقط لأنني نتاج لأم لبنانية وأب فلسطيني (...) ومع ذلك، ليس لدي أي بلد من الناحية القانونية أنتمي إليه".
ولفتت إلى أنها "لطالما كانت لدي هذه الكراهية العميقة تجاه الوثيقة التي تعرّفني بأني ‘لاجئة فلسطينية في لبنان‘، والإنكار المستمر لجذوري اللبنانية، والإنكار التام لوجودي في إسرائيل على الأرض التي يجب أن تكون موطني، والافتقار إلى حقوق الإنسان الأساسية، والتمييز المستمر الذي أواجهه من البلدين اللذين أنتمي لهما ومن العالم الذي يعرّفني بأنني عديمة الجنسية، كل ذلك بسبب الاضطهاد العرقي والديني…".
"رحلة الوجود الذاتي"
عن بداية رحلتها التي وصفتها بأنها "رحلة من أجل الوجود الذاتي"، قالت هبة لرصيف22: "بدأت الأسئلة حول كيفية التخلص من وثيقة لاجئة تراودني في سن المراهقة إذ بدأت أشعر بنوع من الاضطهاد كلما سافرت إلى لبنان مع العائلة. كانت أمي تجتاز الأمن العام (اللبناني) سريعاً مع جنسيتها اللبنانية ونقف أنا ووالدي وإخوتي بانتظار التدقيق في وثيقتنا".
وشددت: "لم أكن أتوقع من هذا الجهد سوى الحصول على بلد يعترف بوجودي كإنسانة".
بعد 26 عاماً "بلا جنسية"، لاجئة فلسطينية نصف لبنانية ولدت بالإمارات وتقيم في بريطانيا تُظهر أصولها أنها تنحدر من نسل اليهود السفارديم لتحصل أخيراً على الجنسية الإسبانية
وأردفت: "عندما أتممت دراستي الجامعية وذهبت إلى بريطانيا لاستكمال الماجستير، أوقفوني في المطار أكثر من ساعة لأجل الاستفسار عن وثيقة السفر التي أحملها. كان من بين الأسئلة: هذه لبنانية أم فلسطينية؟ لكن أنتِ مولودة في دبي؟ وخلصت النتيجة إلى أني سُجلت بدون وطن!".
من بريطانيا، بدأت الشابة، التي درست الهندسة المعمارية، البحث عن أصول لقبها، "اسكندراني"، وذلك منذ أكثر من ثلاث سنوات، لتجد منشوراً شائعاً على غوغل يحيلها إلى أصول إسبانية وتبدأ رحلة جديدة لإثبات هذه الأصول.
في مقابلات عديدة سابقة، أوضحت هبة أنها أجرت اختبار الحمض النووي الذي أظهر أنها تنحدر من أصول شمال أفريقية وأيبيرية. علماء الأنساب أكدوا لها أن اسم عائلتها يمكن أن يعود إلى اليهود الإسبان. لكنها كانت لا تزال بحاجة إلى وثيقة تثبت الهوية اليهودية لجدة أبيها، لطيفة الجربي، التي تشي كنيتها إلى جزيرة "جربة" (جنوب شرقي تونس) حيث كان يعيش العديد من اليهود السفارديم ذات يوم.
تمكنت هبة من العثور على بطاقة هوية قديمة لجدتها الكبرى في بيروت ضمن مجموعة من الوثائق التي احتفظت بها العائلة لعقود رغم كثرة تنقلها بسبب التوترات والحروب التي شهدها لبنان.
"كان من حسن حظي أن جدي أبقى دائماً جميع المستندات الممكنة في صندوق ببيروت وطلب من جدتي ألا تضيعها، لأنها قد تكون مفيدة يوماً ما"، قالت في مقابلة.
صدمة من سخرية القدر
لم يكن سهلاً أن تتقبل أسرة هبة، المحاضرة الزائرة وطالبة الدكتوراه في جامعة برمنغهام البريطانية، أن تكون جذورها "يهودية" بينما أحد أسباب تشريدها هو إسرائيل التي تزعم أنها "وطن اليهود". لكنها بدأت ربط ما توصلت إليه بحقيقة أن أسماء غالبية أفراد العائلة القدامى تبدو غير عربية وهي أكثر تشابهاً مع أسماء اليهود مثل: موسى وروبن وزكريا ويعقوب وداود.
الإنكار المبني على "اليقين المشترك الوحيد بأننا كلنا فلسطينيون وطردنا من هناك بعد سنوات عديدة بفعل النكبة" لأي أصول يهودية محتملة لم يدم طويلاً إذ بدأ والد هبة يتفاعل مع محاولتها لإثبات جذورها.
قالت هبة لرصيف22: "والدي أصبح الداعم الأكبر لي لأنه عانى 67 عاماً من ‘اللجوء المتوارث والعنصرية‘". في حين تنسب الكثير من الفضل في تكليل رحلتها بالنجاح إلى محاميها في إسبانيا إذ تعامل مع قضيتها "كقضية إنسانية بعيداً عن كل المتاهات الدينية والعرقية"، بالإضافة إلى باحث مختص في أمريكا.
بعد سنوات من البحث، وصلت هبة إلى منشأ جدها السابع في إسبانيا، تحديداً برشلونة في شارع كالي دي كال، وذلك خلال القرن الخامس عشر، أي قبل نحو 600 عام.
تبين لها أيضاً أن جدها السابع نفي قسراً من إسبانيا إلى الشرق الأوسط إبان فترة محاكم التفتيش الإسبانية، عام 1492، في ظل الملكية الكاثوليكية. المفارقة، أنه نُفي آنذاك لكونه يهودي.
خلال حكم الملكة إيزابيل الأولى، قُتِل كل من اعتنق اليهودية أو نُفي قسراً إلى الشرق الأوسط أو أمريكا اللاتينية. كان جد هبة أحد المنفيين، إذ يعتقد أنه على مدار السنوات الـ600 الماضية، تنقل هذا النسل عبر الشرق الأوسط من المغرب إلى مدينة الإسكندرية في مصر، مع التحول إلى الإسلام، ثم الاستقرار في يافا بفلسطين التي كانت تحت الحكم العثماني في القرن الـ19.
هنا الكثير من الأمور العجيبة وربما المثيرة للدهشة والسخرية في الوقت ذاته لأن التاريخ يعيد نفسه مع هذه العائلة: نُفي الجد السابع وشرد لاعتناقه اليهودية قبل 600 عام، ليتم تهجير جيل لاحق وتشريده بسبب اعتناق الإسلام ومن دولة تزعم أنها "وطن اليهود".
وقد عبّرت هبة عن هذه المفارقة في منشوراتها بالقول: "هل يمكنك أن تتخيل؟ أنا عربية وفلسطينية وفجأة قرأت أن أصل اسمي يهودي، في حين أن أصل مشكلتي هو أن إسرائيل كانت دائماً معادية للفلسطينيين". وأيضاً: "من كان يعرف أن اللاجئة الفلسطينية المسلمة هي أيضاً من عائلة يهودية إسبانية بارزة".
اعتزاز بعروبتها
هبة، التي تحضّر الدكتوراه في بريطانيا حول كيفية إعادة إعمار المدن المنكوبة جراء الحروب في الدول العربية، تشدد باستمرار في منشوراتها على "اعتزازها وفخرها بتراثها الفلسطيني" وتعبر عن حبها العميق ليافا التي لم تزرها يوماً. كما أنها ممتنة لدولة الإمارات التي نشأت فيها و"عاملتني ككل الوافدين على أرضها ولم تنظر إلي كلاجئة أسوةً بدول الجوار التزاماً بوثيقة معاملة اللاجئين على أراضيها معاملة الوافدين دون تفرقة".
وهي في الوقت نفسه ورغم "العنصرية والفوقية والاضطهاد" التي عانتها في لبنان، تحدثت عن اعتزازها بجذورها اللبنانية وعن عشقها لبيروت.
وفي هذا الصدد، تؤكد لرصيف22: "أصول جدي السابع الذي يعود إلى اليهودية تاريخ مثله مثل تاريخنا جميعاً. وكما ذكر في القرآن الكريم (إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم صدق الله العظيم)، والخلاصة أننا جميعاً متساوون أمام الله والعبرة في العمل والأخلاق".
مع ذلك، تلفت هبة إلى أن تجربتها "غيرت نظرتي لوجودي وحقوقي كإنسان بانتمائي إلى وطن يؤمن لي الاحترام والحقوق أينما وجدت".
لام البعض في تناوله لقصة هبة ما عده إشارة إلى أن الحل أو "الخلاص" في قضية اللاجئين الفلسطينيين المشردين بين الدول في جميع أنحاء العالم قد يكون "فردياً" لا بالإصرار على "حق العودة" و"إنهاء الاحتلال" للأراضي الفلسطينية كما دأب الفلسطينيون طوال عقود.
قبل 600 عام، إبان محاكم التفتيش الإسبانية، هُجر الجد إلى الشرق الأوسط لاعتناقه اليهودية، لتأتي إسرائيل التي تزعم أنها "وطن اليهود" وتُشرِد أحفاده المسلمين في إطار تمييزها العنصري ضد أصحاب الأرض... للفاشية وجوه عديدة
لكنها قالت لرصيف22: "لم أذهب إلى هذا الحد في تفكيري. لكن من الممكن أن منشوري قد يساعد في الإضاءة على معاناة الشعب الفلسطيني ويكون حلقة وصل لتلاقي الشعوب بعيداً عن انتمائهم الديني أو العرقي أو السياسي".
أما عن تزامن الإعلان عن قصتها مع التطبيع الإماراتي مع إسرائيل وسط مناداة الأصوات العربية بـ"التعايش" و"نبذ التعصب العرقي والديني"، لا سيما أنها تقيم في دبي، فقد أبرزت: "حصولي على الجنسية مع التطبيع كان محض صدفة. البحث بدأ قبل نحو أربع سنوات كما قلت وتمت الموافقة على طلبي في أوائل شهر تموز/ يوليو الماضي، وانتهت الإجراءات خلال شهرين ولا أدري سبب الربط بين قصتي وما يحصل الآن".
وتابعت: "أما السؤال اللغم عن الأصول الفلسطينية اليهودية، فلم يساورني بتاتاً"، مصيفةً: "كوجهة نظر شخصية منحدرة من الإسلام، أصبحت أكيدة أن العالم كله يجمع على أننا أبناء النبي إبراهيم عليه السلام". وهي ترى أن قصتها تؤكد أنه في "كل معاناة يأتي الفرج من حيث لا تعلمون".
امتنان لإسبانيا
تجد هبة أن النتيجة التي وصلت إليها "تستحق طبعاً" كل هذه المشقة التي تكبدتها خلال سنوات البحث عن أصولها وإثباتها. لكنها تشعر بـ"امتنان عميق وخاص" لدولة إسبانيا.
حصلت هبة على الجنسية الإسبانية مستفيدةً من قانون سنته عام 2015 ويتعلق بتجنيس أي شخص فر أسلافه اليهود من محاكم التفتيش الإسبانية. ويعتقد أنها واحدة من أكثر من 43000 من غير اليهود (من جملة 150 ألف شخص) الذين حصلوا على الجنسية الإسبانية بموجب هذا القانون الذي تم تبنيه للتكفير عن اضطهاد إسبانيا ونفيها القسري لمجتمعها اليهودي في القرن الخامس عشر.
أحد أشقاء هبة ينتظر حصوله على الجنسية الإسبانية التي حصلت عليها بالفعل شقيقتها أخيراً. في الشأن نفسه، اختار والدها وشقيقة أخرى لها تقديم طلب للحصول على الجنسية البرتغالية إذ إن قانوناً سن في العام 2013، يمنح أحفاد اليهود الذين هجروا إبان محاكم التفتيش الحق في الحصول على جنسية البرتغال التي كانت خاضعة للحكم نفسه.
لا تخطط هبة إلى رفع دعاوى قضائية للحصول على تعويض من الحكومة الإسبانية أو من الحكومة البرتغالية عن سنوات التهجير التي عانتها هي وأسرتها، فقد كان الحصول على الجنسية "أقصى ما تحلم به"، على حد قولها.
وعن أثر التغيير الذي أحدثته الجنسية الإسبانية عليها، قالت: "لقد تغيرت حياتي بدءاً من عدم إحساسي بالدونية التي طالما شعرت بها (كلاجئة) وصولاً إلى سفري بحريه حيثما أردت، انتهاءً بمساندتي كل من يشعر بالاضطهاد عن طريق الأمم المتحدة إن استطعت".
وسبق أن ذكرت في منشور لها مخاطبةً لبنان وإسرائيل: "أشكركما جزيل الشكر على إنكار وجودي، كما أنني أشعر بالشفقة عليكما، فأنتما عنصريان ومتعجرفان (...)"، معتبرةً أن مغزى قصتها "أننا كلنا جنس واحد والحدود لا تحددنا ولا الأرض، أو العرق أو الدين أو الثروة أو اللون... هذه مؤلفات من الانقسام والسلطة والكراهية والتصنيف. لقد خلقنا الله جميعاً متساوين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...