شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
شارع

شارع "زونن ألّيه" في برلين... خدع بصرية لعلاج الحنين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 1 يونيو 202110:42 ص

قد تدخل بعض الأماكن وتشعر أنك تعرفها، وأنك مررت فيها قبل ذلك. تشعر أن هناك نداء خفيّاً يهمس في أذنك ويتسلّل إلى مشاعرك، تبحث في الذاكرة عن القرائن فتفشل، تضطرب تحت إلحاح الرغبة في الوصول إلى الدليل، لكن الدليل لا يأتي، فأنت لم تمرّ.

 ربما شاهدت الشارع الذي أنت فيه مصادفة في فيلم سينمائي، أو لقطة تلفزيونية أو غيرها، وربما تفاصيل المكان وهندسته وفضاؤه، أو ما يمكن تسميته بـ"روح المكان"، تدخلك في هذه الحالة من الارتياب، فكيف إذا كنت قادماً من بلاد منكوبة، تحمل ذاكرة مثقلة بالأوجاع وعاطفة معطوبة هشّة.

بمعنى إذا كنت من ذلك الشرق البائس، عراقيّاً، فلسطينيّاً، لبنانيّاً، سوريّاً؟ والقائمة مفتوحة على وافدين جدد طالما هذه البلدان مصابة بلعنة التاريخ والجغرافيا.

تاريخ فوق جغرافيا

ليس المكان هو الحيّز المحدود الذي يحوي الأجسام من دقيقها حتى كبيرها، بل هو الأحداث التي تجري، هو الحركة، حركة أجسادنا والأجساد الأخرى حولها عبر الزمن، ما يشكّل التاريخ ويعمّر الذاكرة بتلك التوليفة العجيبة من صور ومشاهد وأصوات وروائح وتجارب وغيرها، ما يكبر معنا ونحمله من دون أن نشعر بثقله إلّا بالفقد أو الألم، فتعود الذاكرة إلى الواجهة وتفعل فعلها في مشاعرنا وعواطفنا.

هذه التجارب والأحداث المحمولة بالزمن فوق بقعة من الجغرافيا يمكن أن نسميها "وطن"، فما هو الوطن سوى تاريخ فوق جغرافيا؟ الوطن الذي يبدأ مفهومه يتشكّل من العتبات الأولى، من حميمية البيت والشعور بالأمان والسكينة فيه، الشعور بالحماية لطفل يتهجّى الحياة منذ لحظة إدراكه انفصاله عمّا حوله وأنه فرد مستقل، يشكّل رموز وعيه ويوسّع حوض معارفه، إلى خروجه من البيت إلى المدرسة أو الحارة للّعب.

ليس المكان هو الحيّز المحدود الذي يحوي الأجسام، بل هو الأحداث التي تجري، حركة أجسادنا والأجساد الأخرى حولها عبر الزمن، ما يشكّل التاريخ ويعمّر الذاكرة بتلك التوليفة العجيبة من صور ومشاهد وأصوات وروائح وتجارب وغيرها

الذاكرة التي توشم الروح بتلك التفاصيل التي قد لا ننتبه إليها إلّا بابتعادنا عنها، عندما تصبح جزءاً من الماضي، وتكون الأسئلة الكبيرة قد بدأت تتراصف في خلدنا، والقلق بدأ يتسلل إلى أرواحنا. هذه الصور المخزونة عميقاً نحملها من دون أن ندري بوجودها، فإذا بها تنهض وتتدخّل في رسم مساراتنا من جديد، فنؤسس أمكنتنا بإلحاحها.

نحاكي تلك التي غادرناها وبقيت كنسخة محمولة في جيناتنا، نلوذ بها تحت تهديد الغربة في أماكننا الجديدة.

"حي العرب في برلين"، ربّما الذين يمكن أن يضجّ هذا العنوان في خلدهم قد غادروا الحياة منذ مدة، لكن من المؤكّد أن كثيرين ممّن لديهم فضول المعرفة والنبش في التاريخ، يعرفون أو قرأوا عن الإعلامي العراقي يونس البحري، الذي ما زال لغزاً في جوانب كثيرة من حياته وشخصيته إلى اليوم، لكن اسمه ارتبط بأول إذاعة تبث باللغة العربية من برلين، بعد أن وصل إليها هارباً من العراق إثر مقتل الملك غازي فيها عام 1939.

في ألمانيا تعرف على وزير الدعاية باول جوزف غوبلز وعمل مذيعاً يبدأ خطاباته الإذاعية بهذه الجملة: "هنا برلين حيّ العرب". جمعها في كتاب أصدره في العام 1956 في كتاب بعنوان "هنا برلين".

لكن حي العرب في برلين اليوم هو في نوكولن، في شارع زونن ألّيه، أو "طريق الشمس"، فمن يدخله من العرب، خصوصاً من سوريا ولبنان وفلسطين، لن يشعر بالغربة، وسوف يألف المكان، بل سيسأل نفسه: ترى أنا هنا أم هناك؟

تاريخ في حواس

هناك، في زونن ألّيه سوف ترى الذاكرة المستعادة، ذاكرة الأمكنة، خصوصاً لمنطقة شرق المتوسط، لبنان، فلسطين، سورية، الذاكرة المتشابهة لتاريخ واحد، لهويّات متشابهة، لثقافة باتساع مروحتها، ابتداءً من الطعام وليس انتهاءً بالأزياء، حتى ليبدو الألمان وكأنهم جالية أو أقليّة فيه.

كانت الموجة الأولى من الهجرة أو اللجوء في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، من اللبنانيين واللبنانيين الفلسطينيين هرباً من الحرب الأهلية هناك، معهم وبواسطتهم بدأ يتشكّل مجتمع موازٍ راح يكبر ويتخلّق بالتدريج، وهو يشكّل أمكنته وينظّم حياته ويضع ضوابطها وفق موروثه المحمول على ذاكرة متعبة وأرواح شظّتها الحرب.

حتى إنّه كان يطلق على الشارع اسم "بيروت الصغيرة" لكثرة المحال اللبنانية. ثم تلاها اللجوء السوري مع بدايات الأزمة السورية ليبلغ ذروته في العام 2015.

حي العرب في برلين اليوم هو في نوكولن، في شارع زونن ألّيه، أو "طريق الشمس"، فمن يدخله من العرب، خصوصاً من سوريا ولبنان وفلسطين، لن يشعر بالغربة، وسوف يألف المكان، بل سيسأل نفسه: ترى أنا هنا أم هناك؟

في زونن ألّيه يمكنك أن تشمّ الزمن وتلمس الماضي أو التاريخ، تاريخك الشخصي أو بعضاً منه، ليست الصدمة البصرية هي من ستلعب بك، لكنّها ستكون بوّابة العبور إلى حواسّك مجتمعة، تستنهضها وتؤلّبها على روحك.

تشعر، كسوري، أنّك تمشي في شوارع المدن السورية، الشوارع النمطية التي تشكّل وسط المدينة ومركز حركتها التجارية، تتشابه معها كل المدن، دمشق، حمص، حلب، اللاذقية، وغيرها، كذلك الفلسطيني واللبناني، فمدن هذه الأوطان تتشابه حدّ التوأمة، حيث المحلّات التجارية متباينة الاختصاصات، كل ما يقدّم للحياة ما تحتاج، محلّات لها وظائف اجتماعية كما عاشوها في بلدانهم وبلداتهم.

تمشي وتقرأ اللافتات العربية، حتى إن معظمها لا يكتب باللغة الألمانية بالتوازي، بل بالعربية فقط: حلويات الجزيرة، ملحمة يوسف، سوبر ماركت عزام، سفريات البركة، مقهى أم كلثوم، مؤسسة بيسان للشرقيات، حلويات إدلب الخضراء، مطعم الدمشقي، إلخ...

وعلى الأرصفة تتوزّع المقاهي وتفوح رائحة النراجيل، تتوزع الكراسي والطاولات الصغيرة أمام المقاهي، غالبية شاغليها من الرجال، يمارسون هواية "البصبصة" كما لو كانوا هناك، فلا تفلت من نظراتهم امرأة أو فتاة، سفوراً كانت أم محجبّة أو منقبّة.

النساء في غالبيتهنّ يلبسن الأزياء المحافظة ذات الهوية الدينية، الحجاب بأنماطه المختلفة، من أكثرها تشدّداً إلى العصرية جدّاً، لكنك سوف تجد المرأة السافرة، والألمانية المتصالحة مع جسدها، المتبنيّة مفهوم الحرية الفردية واحترام الاختلاف، هذه نصيبها من البصبصة أوفر من دون أن تلتفت إلى هذه "الغنيمة"، إلّا إذا دخلت فيما يجرّمه القانون وتنفر منه الثقافة السائدة "التحرّش" اللفظي أو الأعلى مستوى.

الحنين "الحلال"

تضيق مساحة الحنين بفضل ما يقدّم شارع العرب للوافدين من هناك، من أطعمة وموادّ غذائية واستهلاكية متباينة وعديدة، بمذاقات الحنين والدهشة الأولى، قهوتك العربية متوفرة بمسمّيات متنوعة، بأمزجة أكثر تنوّعاً.

السمن الذي كنت تستخدمه في بلادك، الزيتون ومشتقاته، الزعتر الذي ينبش الحنين إلى المدرسة وعروسة الزعتر التي لا يكتمل يومك بدونها، ورق العنب الذي يعيدك إلى الحارة ورائحته في موسمه تفوح من كل البيوت، الباذنجان في موسم المكدوس، الحبوب والبقوليات بأشكالها، الأجبان والقريشة والشنكليش، حيث كل شيء "حلال" أو على الطريقة الإسلامية.

حتى سوائل التنظيف ومواد الجلي بعبواتها المألوفة وأغلفتها يمكن أن تأخذك إلى هناك في رحلة تذكّر مترعة بالشجن، كل شيء، كل شيء يمدّ أصابعه نحوك، يدغدغ روحك ويمنحك حضناً دافئاً، تتطلّع حولك فترتاب بالمكان، هل أنت هنا أم هناك؟

وكل شيء، من الكتابة إلى الكلام الضاج والأحاديث المرتفعة واللهجات المألوفة والوجوه التي تتعانق نظراتها وتعرف بعضها بعضاً من دون لقاء سابق أو معرفة قبلها، يمنحك الإحساس بالآن وهنا وكأنك هناك والآن.

في هذا الفضاء تشكّل مع الزمن مجتمع موازِ، تمشي حياة ساكنيه وفق ضوابط خاصة غير منظورة، مجتمع موازٍ يلعب فيه التواطؤ الخفي والمعلن دوراً رئيساً في ضبط الحياة، قوانين ظلّ بعضها كإشارات السير ينظم العلاقات والكل تقريباً يتقيّد بها، وبعضها الآخر كقوانين العصابات التي تحكم وتسيطر على المجال العام، يفرضون شروطهم ويجنون إتاواتهم وينظّمون النشاط التجاري والاقتصادي بشكل لا ينفلت من قبضتهم.

لذلك من الطبيعي أن تشهد المنطقة بين فترة وأخرى مداهمات أمنية لإلقاء القبض على بعض الأفراد الخارجين عن القانون، والذين ينتمون لعصابات الجريمة المنظمة.

في"حيّ العرب" تشكّل مع الزمن مجتمع موازِ، تمشي حياة ساكنيه وفق ضوابط غير منظورة، يلعب فيه التواطؤ الخفي والمعلن دوراً رئيساً في ضبط الحياة، قوانين ظلّ بعضها كإشارات السير ينظّم العلاقات، كقوانين العصابات التي تحكم وتسيطر على المجال العام

هم ليسوا أفراداً بالمعنى الحرفي، إنهم منتسبون إلى ما يسمّيه الإعلام الألماني بالـ "العشائر"، العشائر القابضة على مسارب الحياة التحتية، حياة الأنفاق المحفورة في فضاء البشر وليس تحت الأرض، أنفاق أو مسارب كشبكة الشرايين الحيوية لجسد هذه العشائر متنوعة الاختصاصات، حتى إن البوليس الألماني يحسب حساب مداهمة مقارّها.

هذا هو حيّ العرب في برلين، حيث يقع كل وافد من هناك البعيد، يحمل روائح عالقة ليس على ثيابه فقط بل على جلده، في غدده العرقية، يقع في ارتياب الصورة وارتياب الذاكرة وارتياب الحنين وارتياب الانتماء، يرتمي في حضن الارتياب، ومحظوظ من يستطيع الانفلات من هذا الأسر ليمدّ الجسور باتجاه العالم الجديد، عالم المجتمع المضيف، في محاولة للاندماج الحقيقي الطوعي.

في الوقت الذي بذلت الحكومة الألمانية جهداً كبيراً من أجل توفير أسباب الاندماج لهؤلاء الوافدين، الذين باتوا يشكلون نسبة لا يمكن إهمالها من مجموع السكان، في الوقت الذي عاني فيه من جاؤوا قبلهم من صعوبات الحياة وشقّوا طريقهم بالحفر في صوّان الواقع الذي لاقوه أو لاقاهم.

هذا هو زونن ألّيه، شارع العرب في برلين، نموذج بليغ التعبير عن أهمية المكان وعلاقتنا به من حيث الهوية وتشكّلها، أو سطوتها عليه وتشكيله، وقد صار كمعلم سياحي يقصده الوافدون من مدن ألمانية أخرى، ومن دول غير ألمانيا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image