يقدم رصيف22 هذه المقالة ضمن سلسلة تغطي ثلاث حملات تسلّط الضوء على أبرز الانتهاكات التي يتعرّض لها أفراد المجتمع الكويري في العالم العربي، وقد عملت عليها مجموعات مختلفة من منظمات عربية بارزة، بعد المشاركة في دورة تدريبية من تنظيم معهد صحافة الحرب والسلام IWPR.
نتيجة جائحة كورونا وضرورات الإغلاق وحظر التجوال الذي تفرضه العديد من الدول، تتنامى حاجة الوصول إلى خدمات الصحة النفسية، وتزداد مطالب التركيز على ضرورة تذليل العديد من العقبات، بما في ذلك نظرة المجتمع السلبية للخدمات النفسية، و"وصمة العار" المرتبطة غالباً بمن يتلقون العلاج النفسي، بالإضافة إلى الممارسات الخاطئة المبنية على أفكار مغلوطة، والتي تؤثر سلباً على عملية الحصول على الرعاية النفسية، لا سيما بالنسبة للأفراد المنتمين إلى المجتمع الكويري، حيث تبدو مشقّة وصولهم لتلقي الرعاية النفسية مضاعفة.
لا عيب في طلب الرعاية النفسية
في الواقع، غالباً ما تتحوّل مواقف التمييز التي تطال المجتمع الكويري إلى مشاريع عمل للإيذاء وتخريب الصحة النفسية.
تتحدث ملاب، الناشطة في مجال الحقوق الكويرية في السودان، عن حادثة في السوق العربي في الخرطوم. تصمت قليلاً، ثم تشرع في سرد الحدث الذي يضغط على قلبها كلما أُعيد في ذاكرتها: "شخصان بمظهر غير نمطي لما يعتبره المجتمع المنظر المتوقع 'للذكور' في المدينة، أحدهما يصبغ كفيه بحناء. لقد أنزلوهما من الباص، وشرعوا في ضربهما وإهانتهما، لا لشيء. كانا مختلفين بقدر هو ليس شيئاً أصلاً، قدر لا تعرف المجاميع العشوائية كيف تحتمله".
غالباً ما تتحوّل مواقف التمييز التي تطال المجتمع الكويري إلى مشاريع عمل للإيذاء وتخريب الصحة النفسية
ترى ملاب (23 عاماً)، رفقة زميلاتها وزملائها في منظمة "ظلال الأبنوس"، ضرورة العمل المنظم لدعم قضايا الأفراد الكويريين، ونقل هذا الحوار إلى الفضاء العام.
وعليه، تجتمع بناشطات وناشطين من تونس ومصر ولبنان والأردن، فيتشارك الجميع رؤى متكاملة بالخصوص.
تبدأ الورشة التي ينظّمها معهد صحافة الحرب والسلام IWPR، بطرح موضوع عام متمثل في الأمان والرفاه في أرض الواقع وعلى وسائل التواصل الرقمي، تستمر الأفكار في التوارد، وفي طريق الانتقال من العام إلى الخاص، تبدأ ملامح المشكلة الأكثر تحديداً - واشتراكاً بين الجميع – تتضح: إنها الصحة النفسية وعقبات وصول أفراد المجتمع الكويري إلى حقهم في هذه الخدمات.
تعليقاً على هذه النقطة، تقول ملاب لرصيف22: "تتركّز الحاجة إلى خدمات الصحة النفسية في ظل الإغلاق الناتج عن الجائحة والاضطرابات السياسية في المنطقة، وما يترتب عنها من إشكالات اقتصادية وأمنية واجتماعية. مشكلة المجتمع الكويري تبدو هنا مضاعفة؛ إذ بالإضافة إلى عقبات الوصول إلى خدمات الصحة النفسية في العموم؛ يعاني المنتمون/يات إلى المجتمع الكويري من مواقف التمييز التي تحرمهم/هنّ من هذا الحق الإنساني".
اعتداءات متكررة
"ثمة أحداث يمكن النظر إليها على أنها مؤشرات لعمق المشكلة"، هذا ما تقوله ملاب التي تستمر في الحديث عن الرهاب الهستيري في سياقات مختلفة. إنه الحماس الذي يتجاوز الطرائق الحادة في التعليقات على مواقع التواصل الرقمي ضد أي شيء مختلف.
تحيلنا ملاب إلى "الحماس" منقطع النظير نحو الإيذاء الجسدي والمعنوي ضد أي مظهر خارجي لا يتماشى مع الفكر السائد: "أحدهم يسير بسلام على طول الشارع مرتدياً بنطالاً 'بمبي'. قد لا يمر مشهد كهذا بسلام، فالمجتمع يتصرف بهلع تجاه هذه المظاهر التي لا تتماشى مع المعايير السائدة للنوع الاجتماعي/ الجندر".
"بالإضافة إلى عقبات الوصول إلى خدمات الصحة النفسية في العموم؛ يعاني المنتمون/يات إلى المجتمع الكويري من مواقف التمييز التي تحرمهم/هنّ من هذا الحق الإنساني"
"حكاية أخرى في مدينة (أبو حمد) الكائنة بولاية نهر النيل"، بهذه الكلمات، تحملنا ملاب إلى السودان ثانية، هذه المرة إلى سوق الطواحين للمعدنيين التقليديين: "تقتحم مجموعة من الغاضبين تجمّعاً للمثليين، وكما هو متوقع كان التقريع من نصيبهم، ثم الإيذاء الجسدي الذي فاق الاحتمال وخرج عن السيطرة".
أدت هذه الأحداث، حسب بيان متداول في شبكات التواصل منسوب إلى الشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة، إلى وفاة أحدهم، إصابة اثنين، حرق 17 مقهى وإيقاف السلطات لـ 80 مشاركاً في أحداث العنف. كما اعترض أهالي المدينة على دفن الضحية بمقبرة أبو حمد.
وصمة عار
فريق حملة "ما عيب"، المكوّن من خمس منظمات هي دمج (تونس)، م مُسلم (مصر)، موزايك (لبنان)، منظمة أردنيّة، وظلال الأبنوس (السودان)، يرى بأهمية العمل الـمُنسّق باتجاه التوعية بتأمين السلامة الجسدية والنفسية، والحدّ من الاعتداءات المتكررة في الفضاء العام والرقمي، وأن خطاب الكراهية والصورة النمطية التي تحول دون وصول المجتمع الكويري إلى حق خدمات الصحة النفسية، يزيد الحاجة لتضافر الجهود وتذليل هذه العقبات.
تقول ملاب: "ثمة حاجة ماسّة إلى منظّمات تقدم خدمات خاصة في هذا الشأن، هنا وهناك، قد نقف على قوائم متداولة في تونس أو لبنان، لمختصين/ات منخرطين/ات في فهم ظروف المجتمع الكويري، لكن هذه القوائم في الواقع تعرّض الأطباء أنفسهم/هن إلى متاعب شتى".
تستمر ملاب في الحديث عن عقبتين أساسيتين تحولان دون وصول المجتمع الكويري إلى الخدمات الصحية، والتي خلص المشاركون/ات إليهما وباتت مرتكز حملة المناصرة: "العقبة الأولى عامة، متمثلة في نظرة المجتمع السلبية للجوء إلى العلاج النفسي، إذ إن العلاج النفسي مقرون بوصمة عار، يحاول الأغلبية تجنبها".
وتشير الناشطة إلى تنامي الوعي المجتمعي تدريجياً بالحاجة إلى الخدمات الصحية النفسانية، لكن هذا الوعي ما يزال في بدايته وما يزال مقيداً بوصمة العار التي تجعل اللجوء إلى العلاج النفسي خياراً مرهقاً.
تمييز في تقديم الخدمات
العقبة الثانية، وفق ما تشرح ملاب، خاصة بالمجتمع الكويري: "كثيراً ما يعاني تمييزاً واضحاً في تلقي هذه الخدمات، ونادراً ما يجد خدمات مناسبة لوضعه الخاص، إذ إن الخيارات محدودة جداً، مع ضعف دراية مقدمي هذه الخدمات بأحوال المجتمع الكويري وظروفهم/هنّ، وكثيراً ما يقف الأفراد عند أطباء لهم/هنّ انحيازات شخصية وأفكار سابقة سلبية ومغلوطة تجاه المجتمع الكويري".
هذا تحديداً منطلق حملة "ما عيب" التي تسعى بالدرجة الأولى إلى إخراط أكبر قدر ممكن من الأطباء النفسيين/ات، ومقدمي/ات هذه الخدمات من مختصين/ات في معرفة أحوال المجتمع الكويري وحاجاتهم/هنّ، بما يضمن تجديد معلوماتهم/هنّ وتلافي التشويش والأحكام المسبقة المضللة.
وترى الحملة أن أحد المسالك هو الربط المباشر بين المختصين/ات من جهة وأفراد المجتمع الكويري من جهة أخرى، وهو الأمر المحفوف ببعض التحديات، بحسب ملاب: "من المتوقع أن يرفض كثير من المختصين والمختصات أية إملاءات بهذا الخصوص، ولهذا تقترح الحملة مسلكاً إضافياً، يتمثل في ربط العناصر الطبيّة المختصة من مستهدفين/ات بزملائهم/هنّ ممن يملكون الأدوات المعرفية والدراية الكافية التي يمكن من خلالها طرح الإشكال من زاوية اختصاص".
حملة "ما عيب" تسعى إلى إخراط أكبر قدر ممكن من الأطباء النفسيين/ات، ومقدمي/ات هذه الخدمات من مختصين/ات في معرفة أحوال المجتمع الكويري وحاجاتهم/هنّ، بما يضمن تجديد معلوماتهم/هنّ وتلافي التشويش والأحكام المسبقة المضللة
في هذا السياق، يقترح فريق الحملة خطة استراتيجية، ترى بضرورة التفكير في الأهداف بعيدة المدى، أهداف تعمل على ترميم وعي المجتمع الذي عانى من هشاشة تصوراته وتقاليده الفكرية لعقود، مجتمع يفتقر إلى الموارد والمعارف ومواد قراءة مُعدّة بعناية من قبل مختصين/ات وخطاب إعلامي متزن ومسؤول.
تجدر الإشارة إلى أن معهد صحافة الحرب والسلام (IWPR)، وهو منظمة غير حكومية، تعطي صوتاً للناس في الخطوط الأمامية للصراع لمساعدتهم على دفع دفة التغيير ودعم المجتمع المدني وتنمية مهارات الصحافة المحلية في بؤر النزاع والتوتر، كان قد أعدّ ورشة تدريبية أثمرت عنها حملة "ما عيب"، بالإضافة إلى حملتين متزامنتين، في سياق تسليط الضوء على أبرز الانتهاكات التي تستهدف المجتمع الكويري: خطاب الكراهية في وسائل الإعلام وانتهاكات السلطات الرسمية التي تفرض الفحص الشرجي القسري في بعض البلدان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...