ابتداء من عام 1838، بدأت الدول الأوروبية في تعيين قناصل لها في القدس، حيث لعبوا دوراً كبيراً في تسهيل دخول اليهود إلى فلسطين وحمايتهم وتوطينهم على أراضيها.
وتذكر الدكتور نائلة الوعري في كتابها "دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين: 1840- 1914"، أنه لا يمكن فصل هذا الدور الذي قام به القناصل عن الأطماع الاستعمارية الأوروبية في الشام وفلسطين، في نهاية القرن التاسع، عشر لنيل جزء من كعكة الدولة العثمانية، والتي أخذت قوتها تتراجع وتضمحل بتأثير الضربات العسكرية التي أخذت تحل بها في أوروبا، واضطرارها إلى توقيع اتفاقيات ومعاهدات مذلّة مع بعض الدول.
كانت الدولة العثمانية قد أصدرت قوانين وتشريعات للحيلولة دون تدفق اليهود والأجانب إلى فلسطين، كما أقرّت إجراءات إدارية لصالح اليهود الأصليين من سكان فلسطين مكّنتهم من تصريف شؤونهم دينياً واجتماعياً ومعيشياً ومنحتهم الجنسية العثمانية.
أما اليهود الأوربيون، فاستفادوا من حق الحماية والرعاية الدولية لهم، واستطاعوا عبر الجنسيات التي مُنحت لهم عن طريق البعثات القنصلية الأوروبية في القدس من الوصول إلى فلسطين والاستقرار فيها، وتنظيم أحوالهم المعيشية، وإقامة المزارع والمستوطنات الزراعية، والتمهيد لبناء دولة إسرائيل وإقامة وطن قومي لهم. وتفاوتت هذه الأدوار وفقاً لسياسة كل دولة ومصالحها الحيوية وأطماعها التوسعية.
بريطانيا... تنقيب عن الآثار لخدمة مزاعم اليهود
في تموز/ يوليو من عام 1838، أعلنت بريطانيا افتتاح أول قنصلية لها في القدس، بهدف رعاية مصالحها في فلسطين، وكان من ضمنها تقديم الحماية لليهود هناك عامة، وهو ما أصبح عملاً رئيسياً لهذه القنصلية لمدة طويلة، بل ولفروعها التي افتتحت لاحقاً في حيفا ويافا وعكا.
ويذكر أمين عبد الله محمود، في كتابه "مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى"، أن هدف تقديم الحماية لليهود استخدمته بريطانيا ذريعة تستطيع بموجبها التدخل في شؤون فلسطين الداخلية وتقوية مركزها أسوة بفرنسا التي كانت حامية للكاثوليك آنذاك. ومن ثم تمكن القناصل الإنكليز من إيجاد رعايا لبريطانيا في فلسطين، من خلال الاستجابة بسهولة إلى طلبات مَنح الحماية التي كان يتقدم بها بعض اليهود من حين لآخر، خصوصاً أولئك الذين فقدوا، لسبب ما، حماية دولتهم الأصلية.
وبحسب محمود، كان اللورد فيسكونت بالميرستون من أشد المتحمسين لفكرة توطين اليهود في فلسطين منذ توليه وزارة الخارجية وحتى بعد تسلمه رئاسة الوزارة في ما بعد، إذ عبّر مراراً عن اعتقاده بأن "بعث الأمة اليهودية سيعطي القوة للسياسة الإنكليزية"، لذا أصدر عام 1839 تعليماته إلى أول قنصل بريطاني في القدس وهو وليام يونغ بمنح اليهود في فلسطين الحماية البريطانية لضمان سلامتهم وحماية ممتلكاتهم وأموالهم.
اللورد فيسكونت بالميرستون
وبناء على هذا التكليف، أخذت القنصلية البريطانية تحول دون التصدي لليهود أو التدخل في شؤونهم، واستفاد اليهود كثيراً من هذه الميزة، حتى أن "يونغ" كتب رسالة إلى قاضي مدينة القدس يؤكد فيها أن القنصلية البريطانية هي المسؤولة عسكرياً وسياسياً عن حماية رعاياها من اليهود في فلسطين، وأن عليه، أي القاضي الشرعي، أن يأخذ ذلك بالحسبان رسمياً في معاملاته وتصرفاته، حسبما ذكرت الوعري.
ونشط قناصل بريطانيا أيضاً في مجال بيع الأراضي لليهود، فتدخل القنصل تمبل مور (Temple Moore)، خلال فترة عمله من 1863 إلى 1890، لتثبيت ملكية جمعية "مرسلي الكنيسة الإنكليزية في فلسطين"، والتي كان من أهدافها مساعدة اليهود على شراء الأراضي من الفلسطينيين.
تمبل مور
كما كانت عمليات البيع بين اليهود بعضهم البعض تتم عن طريق القنصلية البريطانية في يافا مباشرة. وتبين من خلال وثائق القنصلية البريطانية في يافا أنها تملكت أكثر من قطعة أرض بغرض بيعها إلى أشخاص معظمهم من الأجانب اليهود.
أكثر من ذلك، تحوّل بعض القناصل إلى تجار وملاك أراض، ومقرضي أموال للأهالي، مثل نائب القنصل البريطاني بترو شيلي في حيفا الذي أقام علاقات وطيدة مع الفلاحين من خلال إقراضهم المال بالتسليف وأخذ المستندات اللازمة عليهم. وترتب على هذا الأمر نقل ملكية مساحات كبيرة من الأراضي إلى اليهود.
غير أن أبرز ما قامت به بريطانيا من خلال قنصليتها في القدس وبمساعدة قنصلها "مور" كان إقامة "جمعية التنقيب عن الآثار في فلسطين"، والتي قامت بمهام صبّت جميعها في مصلحة اليهود ووجودهم في فلسطين.
ابتداء من عام 1838، بدأت الدول الأوروبية في تعيين قناصل لها في القدس، حيث لعبوا دوراً كبيراً في تسهيل دخول اليهود إلى فلسطين وحمايتهم وتوطينهم على أراضيها
وبحسب الوعري، سمح قناصل بريطانيا للطوائف الدينية اليهودية بالاستفادة من حق الحماية البريطانية، وسهلوا لهم ضمانات وحصانات قانونية، وأن يحاكموا أمام محكمة قنصلية، وأن يُعفوا من الضرائب كذلك.
وكشفت بعض الوثائق التاريخية الموجودة لدى محكمة القدس الشرعية ومحكمة نابلس الشرعية، عن قيام القنصل البريطاني العام في القدس بتقديم اقتراح إلى السلطان العثماني يطلب فيه السماح لليهود بعرض تظلمهم إلى السلطات عبر القناصل البريطانيين.
ورغم رفض هذا المطلب في حينه، إلا أن القنصلية البريطانية بقيت تعمل من أجل حماية رعاياها من اليهود في فلسطين، وكذلك مَن لجأوا إليها لمنحهم جوازات سفر بريطانية ومساعدتهم على المجيء إلى "الأراضي المقدسة".
فرنسا... تمرير الأراضي لليهود عبر وسطاء
بعد القنصلية البريطانية في القدس، توالى افتتاح مزيد من قنصليات الدول الغربية، ومنها القنصلية الفرنسية عام 1843، والتي أسدت خدمات جليلة لليهود، وساعدتهم على شراء الأراضي بحجج واهية، من أبرزها ما أشارت إليه سجلات المحاكم الشرعية في كل من القدس ويافا.
وتروي الوعري أن قناصل فرنسا اشتروا أراض بأسمائهم، وبحجة أن عدداً من الرعايا الفرنسيين بحاجة إلى شراء أراض لإقامة مصالح اقتصادية ودينية (بناء كنائس) عليها، ثم سُربت هذه الأراضي إلى اليهود.
من ذلك ما فعله قنصل فرنسا في يافا "فليير"، والذي كان وكيلاً لشركة سفن فرنسية، إذ اشترى من الفلاحين سُدس قرية "الخضيرة"، وباعها ليهود عام 1879، وهي الأراضي التي أصبحت جزءاً من مستوطنة "الخضيرة" في ما بعد.
ألمانيا.. مؤسسات صحية ومدارس ونقل خبرات
عام 1842، أعلنت ألمانيا (التي كانت تعرف آنذاك باسم بروسيا) تأسيس قنصلية لها في فلسطين، وعيّنت أول وكيل للقنصلية ويدعى إرنست شولتز (Ernest Gustav Schultz)، وسرعان ما رُقي هذا الوكيل إلى مرتبة قنصل، وجعل على رأس أولوياته مساعدة اليهود بشكل واسع خلال فترة عمله بين عامي 1842 و1851.
Plan of Jerusalem from the book by Schultz 1845
وخلال الفترة بين 1851 و1866، اتجه القنصل العام الثاني الألماني جورج روز (George Rose) إلى مساعدة اليهود، فسخّر أنشطة القنصلية لخدمتهم وتأمين حاجاتهم المعيشية، مقيماً مؤسسات صحية وبانياً مدارس للبنات اليتيمات ومقراً لإيواء الحجاج الألمان، فضلاً عن تقديمه مساعدات كبيرة لليهود في زمن القحط الذي عصف بفلسطين عام 1866، حسبما روت الوعري.
استخدمت بريطانيا هدف تقديم الحماية لليهود ذريعة تستطيع بموجبها التدخل في شؤون فلسطين الداخلية وتقوية مركزها أسوة بفرنسا التي كانت حامية للكاثوليك آنذاك
وبدءاً من عام 1868، شجع القناصل الألمان أعضاء جماعة الهيكل المسيحية على إنشاء مستعمرات دينية. ويذكر الدكتور علي محافظة في كتابه "العلاقات الألمانية الفلسطينية من إنشاء مطرانية القدس البروتستانتية وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية: 1841- 1954"، أن "جماعة الهيكل" هي حركة دينية إصلاحية في الكنيسة الإنجيلية ظهرت في ألمانيا في القرن السابع عشر، وسعت لإقامة مملكة الرب في فلسطين تمهيداً لعودة المسيح، وفي سبيل ذلك أقامت مستعمرات حملت أسماء "حيفا" و"سارونا" و"ريفايم" و"فالهالا" و"فليهلما".
وقدّم قناصل ألمانيا خدمات واسعة لليهود من خلال السماح بإقامة علاقات طيبة مع المستعمرين الألمان، وبحسب محافظة، كانت هذه التجربة الاستعمارية ذات فائدة كبيرة للمهاجرين الصهاينة، فأقبلوا عليها يدرسونها ويحاولون الإفادة من إنجازاتها وأخطائها، وحاولوا إقامة صلات طيبة مع المستعمرات الألمانية تمهيداً لنشوء المستعمرات اليهودية على شاكلتها.
وبحسب الوعري، نالت الحركة الصهيونية قسطاً وافراً من رعاية واهتمام قناصل ألمانيا في فلسطين في مجالات عدة، وليس أدل على هذا من دعم القنصل فردريش روزن (Friedrish Rozen) لإنشاء جمعية "إغاثة اليهود الألمان" على يد التاجر اليهودي الألماني جيمس سيمون والدكتور باول ناثان عام 1901.
Friedrish Rozen
ونجح اليهود، بعد أخذ ورد حول آليات عمل الجمعيات، في أن تكون لغة التعليم في المدرسة التي أقامتها الجمعية باللغة العبرية، بينما دُرّست المواد العلمية بالألمانية.
واللافت أن هذه الجمعية كبرت وتعاظمت بدعم قنصلي ألماني، إذ أدارت شبكة من المدارس اليهودية، وكان أحد أشكال هذا الدعم قيام الجمعية، بمساعدة المنظمة الصهيونية العالمية في إنشاء معهد عالٍ للعلوم التطبيقية في حيفا يدعى "تيخنيون".
أمريكا... مستوطنات المبشرين برعاية القناصل
بالرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تعلن باستمرار التزامها بسياسة "مبدأ مونرو" الانعزالي الذي أعلنه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو عام 1823، إلا أن عدوى الأطماع الاستعمارية امتدت إليها، وإنْ كانت قد أحاطتها بهالة دينية إنسانية.
ويذكر أمين عبد الله محمود، في كتابه المذكور آنفاً، أن القنصلية الأمريكية لعبت دوراً مهماً في حماية اليهود من ملاحقة المسؤولين العثمانيين لهم، نظراً لكونهم دخلوا البلاد خلسة، وكانت إقامتهم فيها غير شرعية.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد أنشأ القنصل الأمريكي في القدس واردر كريسون عام 1852 مستعمرة زراعية يهودية لتدريب المهاجرين اليهود على شؤون الزراعة، إذ كان مقتنعاً بأن الله خلق الولايات المتحدة لإنقاذ ودعم اليهود، وبأن النسر الأمريكي سيحقق نبوءة الإنجيل وسيغطي فلسطين بجناحيه، وبأن خلاص اليهود سيتحقق بقدومهم إلى إسرائيل، حسبما ذكر مايكل بي. أورين في كتابه "القوة والإيمان والخيال: أمريكا في الشرق الأوسط منذ 1776 حتى اليوم".
وفي أوائل عام 1867، منح نائب القنصل الأمريكي هيرمان لوفنتال مجموعة مستوطنين مكوّنة من 156 أمريكيا عشرة أفدنة من الأرض الصالحة للزراعة خارج نطاق مدينة القدس، وكانت خطة قائدهم القس جورج آدامز هي إنشاء مدينة على النمط الأمريكي فيها كنائس وفنادق وكليتان إضافة إلى إعادة بناء الهيكل.
وبحسب أورين، تنبأ آدامز بالعودة الثانية للمسيح أثناء عصر الإخاء والازدهار المالي، وكان شرط ظهور هذا العصر الذهبي من وجهة نظره هو إعادة اليهود إلى فلسطين.
النمسا... مساعدة اليهود في إقامة مستوطنات
أقامت النمسا أول قنصلية لها في القدس عام 1878، ونشط قناصلها في عمليات تمرير الأراضي لليهود بعد شرائها من الفلسطينيين، وإقامة مستوطنات عليها. وذكر محمود في كتابه أن مجموعة من يهود القدس اشترت 3375 دونماً من أراضي قرية "ملبس" التي كان يمتلكها أحد تجار يافا من عائلة "آل قصار"، وتم تسجيل الأرض باسم يوئيل سلومون النمساوي الجنسية الذي كان يتمتع بحق الحماية من القنصلية.
وفي العام التالي، وضع اليهود أيديهم بالطريقة نفسها على قطعة أرض مجاورة، بلغت مساحتها عشرة آلاف دونم.
وأقام اليهود على هاتين القطعتين من الأرض مستوطنة "بتيح تيكفا" أو "باب الأمل"، والتي أطلق عليها لقب "أم المستوطنات".
روسيا... تخلٍّ عن حماية اليهود لصالح قناصل بريطانيا
عام 1858، افتتحت روسيا قنصلية لها في مدينة القدس، وكان أول من تولى أمورها القنصل كيريل (Cyril)، وتوالى بعده عدد من القناصل الذين حاولوا رعاية المصالح الروسية، وفق البروتوكول الموقع مع الدولة العثمانية، وقاموا بنشاط تبشيري اجتماعي واقتصادي وتجاري، ولم يزد نشاطهم في ما يتعلق باليهود عن إصدار شهادات لرعاياهم مقابل رسوم محددة.
لذا، نافست بريطانيا روسيا في حماية مصالح اليهود الروس الوافدين إلى فلسطين وساعدتهم في التنقل بحرية، بينما تقاعست القنصلية الروسية نفسها عن هذا الدور، لذلك فضل هؤلاء الروس الحماية البريطانية، بحسب الوعري.
وظلت بريطانيا تهتم حتى نهاية عام 1893 برعاية اليهود الروس، فقد كتب القنصل البريطاني جاك ديكسون (Dickson J.) إلى وزير خارجية بريطانيا آرثر نيكلسون (Arther Neckelson)، في 11 تموز/ يوليو 1893، أنه أصبح لديه سجل كامل لليهود الروس الذين يتمتعون بالحماية البريطانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...