الليدي إيفون سرسق كوكرن. كثيرون في لبنان ربما لم يسمعوا باسم هذه السيدة خلال حياتها، لكن الجميع تقريباً مرّ أمامهم اسم عائلة سرسق الذي ارتبط بمجموعة من الأبنية الأثرية العائدة للقرن التاسع عشر في العاصمة اللبنانية، والتي كانت من المباني الأخيرة التي حافظت على الصورة المشتهاة لبيروت بعدما خربتها الحروب المتتالية، ونَزَع جشع المستثمرين كما غياب التخطيط من أبنيتها وشوارعها الروح والهوية.
قصر سرسق
بعد 27 يوماً على إصابتها جراء انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في الرابع من آب/ أغسطس الماضي، توفيت الليدي كوكرن متأثرة بجراحها. حتى آخر حياتها التي امتدت على 98 عاماً، عاشت هذه السيدة في قصر العائلة الذي شيّده جدها موسى سرسق عام 1840 في منطقة الأشرفية، وهو القصر الذي طاله الدمار.
وتماشياً مع حياة هذه العائلة الأرستقراطية التي نسجت علاقات وطيدة مع العديد من الحكام الأجانب، وعاشت بين لبنان وفلسطين ومصر، تداخلت حياة هذه السيدة الفريدة مع أحداث مفصلية في الشرق الأوسط.
جانب من الدمار الذي طال القصر من الداخل
بعد وفاتها كتب كثيرون عن "الليدي" التي حملت ثلاث جنسيات هي البريطانية والإيطالية واللبنانية، واشتهرت بين نساء بيروت بجمعها للأعمال الفنية وبأعمالها الخيرية ودعمها لمحميات ومواقع طبيعية.
هي ابنة ألفرد بيه سرسق اللبناني الذي تزوج من الأرستقراطية الإيطالية دونّا ماريا دي كاسانو، وقد عاشت في نابولي والبيرو ولندن وإيرلندا وأماكن أخرى، لكنها قررت تمضية ما تبقى من حياتها في بيروت، حيث كان شغفها الأكبر وحيث ركّزت جهدها على العناية بالتراث المعماري والمحافظة عليه.
وبينما انشغل الإعلام العالمي بتجارب السيدة وتاريخ عائلتها، كان ثمة "تفصيل" لم يحظ باهتمام كبير مع وفاة الليدي كوكرن، أفرد له موقع "غلوبز" الإسرائيلي تحقيقاً واسعاً، عمل عليه الصحافي تال شنايدر.
الليدي كوكرن أثناء افتتاح معرض سجّاد في قصر سرسق عام 1963
تحدث التحقيق عن الوثائق التي تكشف دور عائلة سرسق في تاريخ الحركة الصهيونية في فلسطين، وكيف كانت للعائلة علاقات وثيقة مع قيادة الحركة الأولى، كما مع الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هرتزوغ.
ينطوي تحقيق شنايدر على أحكام مسبقة في قراءة الوضع اللبناني، كما يمكن القول بأن طريقة تقديمه للموضوع ليست أفضل ما كُتب عن السماسرة الصهاينة والدور الذي لعبوه في عمليات الشراء من عائلات لبنانية بشكل أساسي، لكنه يقدم تفاصيل ووثائق مهمة تُنشر للمرة الأولى حول تلك الحقبة، شكلت وفاة الليدي كوكرن مناسبة للكشف عنها.
أملاك عائلة سرسق في فلسطين
بحسب ما جاء في التحقيق، كان والد الليدي كوكرن ألفرد بيه سرسق ابن إحدى أكبر العائلات المالكة للعقارات في الشرق الأوسط ووالدتها دونّا ماريا من السلالة البابوية ومن أكبر العائلات الأرستقراطية في إيطاليا.
شمل ميراث العائلة مئات الآلاف من أفدنة الأراضي في مرج ابن عامر والجليل الغربي ووادي الحوارث (عيمق حيفر) وحيفا ويافا، ومن بين الأراضي المملوكة من العائلة في حيفا كانت تلك التي تضم ضريح الباب البهائي اليوم، وكذلك الشوارع الرئيسية في يافا ومئات الأفدنة حول ما يعرف اليوم بشارع إيلات في تل أبيب.
بدأت عائلة سرسق بالاستحواذ على الأراضي عام 1870، وذلك عندما باع العثمانيون الأراضي في فلسطين لرعايا الإمبراطورية. وقتها، اشترت العائلة ما لا يقل عن مئتي ألف فدان في فلسطين، كان بينها 50 ألف فدان في مرج ابن عامر.
في عام 1891، دخل ناشطون صهاينة في مفاوضات مع عائلة سرسق لشراء الأراضي، وهكذا تمكن قادة الحركة الصهيونية ومنهم يهوشوا هانكين ولورانس أوليفانت وآرثر روبين مع "الصندوق القومي اليهودي" و"المنظمة الصهيونية العالمية" شيئاً فشيئاً من شراء العقارات.
وبحسب ما تُظهر الوثائق، أعدت عائلة سرسق عام 1925 قائمة طويلة من معاملات البيع، وفيها مناطق مدينة حيفا السفلى، و2500 فدان في وادي بيسان، و7500 فدان في وادي الحوارث (عيمق حيفر). وهكذا، كما يرد في التحقيق، قامت مستوطنات مرحفية ومزرا وتل عدشيم وكفر يحزقيل وتل يوسف ونهلال وعين حرود وغيرها على أراض تم شراؤها من عائلة سرسق.
شمل ميراث عائلة سرسق مئات الآلاف من أفدنة الأراضي في مرج ابن عامر والجليل الغربي ووادي الحوارث وحيفا ويافا... عام 1891، دخل صهاينة في مفاوضات مع العائلة لشراء الأراضي، وفي 1925كانت هناك قائمة طويلة من معاملات البيع لمناطق في حيفا ووادي بيسان والحوارث
في ذلك الوقت، تعامل ألفرد سرسق مع يهوشوا هانكين الذي كان ملقباً بـ"مخلّص الأراضي"، نظراً لتوليه معظم عمليات الشراء للمنظمة الصهيونية العالمية. كان سرسق يلتقي هانكين في بيروت، في حين وثّقت ابنة أخت الأخير، تسيلا شوهام فاينبرغ، رحلات العمل التي كان يقوم بها خالها إلى لبنان.
يهوشوا هانكين
ومن بين ما كتبته فاينبرغ بعد رحلة رافقت فيها خالها إلى بيروت وشاهدت خلالها توقيعه على صفقة أرض إضافية: "برغم المعارضة القوية من مكونات متطرفة وقومية في العالم العربي، وبرغم التهديدات التي لاحقته، لا شك لدي أنه لولا المساعدة الكبيرة التي تلقاها يهوشوا هانكين من عائلة سرسق بمختلف الطرق، إضافة إلى بيع الأراضي، لما تمكن من الاستحواذ على المرج". وتسيلا هي شقيقة أفشالوم فاينبرغ الذي أسّس شبكة NILI السرية للتجسس، والتي ساعدت البريطانيين ضد العثمانيين بين عامي 1915 و1917.
قضية الليدي كوكرن في إسرائيل
في عام 1946، تزوجت إيفون سرسق من السير ديزموند كوكرن، وهو نبيل إيرلندي كان يشغل منصب القنصل العام لبلاده في بيروت. وبعد نكبة عام 1948 وإعلان قيام دولة إسرائيل، كان قد بقي لعائلة سرسق بعض العقارات والأراضي في يافا وحيفا، لكن السلطات الإسرائيلية وضعت اليد عليها، وووجه قرار الليدي كوكرن باسترجاع الأراضي بالرفض.
في عام 1966، كررت السيدة طلبها من دون نتيجة، كما حشدت دعم الجالية اليهودية في بريطانيا من خلال التأكيد على أن عائلتها ساعدت اليهود في الاستحواذ على الأرض وإقامة مشروعهم، لكن دون نتيجة كذلك. لم تكن الدولة الوليدة راغبة في تحقيق سابقة لقضية يحصل فيها مواطن لبناني، لديه سجل عثماني مثبت على الأرض، على اعتراف بالأرض أو حتى تعويض.
وفي أواخر الستينيات، أوكلت الليدي كوكرن القضية للمحامي حاييم هرتزوغ الذي أصبح لاحقاً رئيساً لإسرائيل.
حاييم هرتزوغ
بحسب ما أوردته الوثائق، حاول هرتزوغ التركيز على كون الليدي كوكرن مواطنة دول عدة، وعلى مسألة مساعدة عائلتها للمنظمة الصهيونية في تأسيس دولة إسرائيل.
بحث كاتب التحقيق في أرشيف مكتب محاماة هرتزوغ واسمه "فوكس أند نيمان" في تل أبيب حول القضية، وسمع من المدير الحالي في المكتب مئير لينزن أنه كان متدرباً جديداً عندما وصلت القضية إلى مكتبه.
يقول لينزن: "في اجتماع ضمّ الشركاء في مكتب المحاماة فوكس ونيمان وهرتزوغ بالطبع. قال الشريكان الأساسيان إنها قضية خاسرة ولا يمكن فعل شيء حيالها، أما هرتزوغ الذي كان يؤمن بآراء الجيل الشاب فقد دعاني للاجتماع، وعبّرت وقتها عن رأيي بأنها قضية خاصة واستثنائية لعائلة عارضت منظمة التحرير الفلسطينية، وعارضت السوريين، وهي واحدة من العائلات العربية القليلة التي تواصلت مع المشروع الصهيوني ودعمته".
في ذلك الوقت، راجع هرتزوغ وزير الخارجية الإسرائيلي حينها آبا إيبان، وكانت تجمع الاثنان علاقة مصاهرة. ضمّن المحامي الإسرائيلي طلباً بمراجعة اللجنة الخاصة بأملاك الغائبين للإفراج عن أصول السيدة كوكرن، وبحسب الوثائق يظهر أن جميع أعضاء اللجنة باستثناء ممثل وزير الخارجية صوتوا ضد الطلب، لعدم وجود سوابق إفراج عن أصول غائبين من "الرعايا الأعداء" ومن سكان دولة عربية.
كل الإجراءات التي تمّ اللجوء إليها في ذلك الوقت للإفراج عن الأصول ووجهت بالرفض، وبعدها استقالت الحكومة وتسلّم موشي ديان وزارة الخارجية في الحكومة الجديدة، فيما رفض اتخاذ موقف صريح من المسألة.
من جهته، تابع هرتزوغ الاستئناف أمام محكمة العدل العليا، واستمرّ في جمع الشهادات، كما استعان بابنه مايكل هرتزوغ لجمع معلومات عن عائلة سرسق من أكثر من عشر كتب، لإثبات أن قضية تلك العائلة ليست مجرد قضية ملكية غائبين عاديين.
وفي صندوق الوثائق الذي اطلع عليه معد التحقيق في مكتب المحاماة، كانت هناك رسالة من الرئيس اللبناني كميل شمعون بتاريخ 8 أيار/ مايو 1980 يُعبّر فيها عن دعمه لقضية الليدي كوكرن، ويقول: "إلى من يهمه الأمر، أعرف تمام المعرفة الليدي كوكرن وعائلتها، والدها ألفريد سرسق كان صاحب نفوذ كبير، ولطالما اتبعت الليدي كوكرن نهجاً وطنياً حازماً وواضحاً، الأمر الذي عرّضها للمخاطر، إذ حاربت احتلال لبنان، أكان من قبل منظمة التحرير الفلسطينية أو القوات السورية، وقامت بذلك من خلال الصحافة والإعلام".
لم يكن واضحاً من رسالة شمعون الجهة التي طُلب منه التوجه إليها تحديداً، فيما علّق رئيس الوكالة اليهودية الحالي إسحاق هرتزوغ، وهو نجل حاييم هرتزوغ، قائلاً: "هذه قصة مذهلة. متى تعاون رئيس لبناني ووزير خارجية إسرائيلي في قضية قانونية؟".
قدم هرتزوغ للمحكمة العليا حجة "الجنسية الفعالة"، مشيراً إلى أن الليدي كوكرن متزوجة من دبلوماسي إيرلندي، فتمكن من إقناع المحكمة بأن إقامتها في لبنان كانت لضرورة دبلوماسية.
بعد نكبة عام 1948، كان قد بقي لعائلة سرسق أراض في يافا وحيفا، وضعت السلطات الإسرائيلية اليد عليها... مسارٌ قانوني طويل خاضته إيفون سرسق كوكرن مع محام يهودي أصبح لاحقاً رئيساً لإسرائيل، حصلت في نهايته على تعويض مادي وشكر لمساهمات عائلتها في دعم الحركة الصهيونية
ومن بين كل التفاصيل المدهشة في القصة، حسب وصف كاتب التحقيق، كانت حقيقة قبول ادعاء السيدة كوكرن في النهاية، بعدما "قدم هرتزوغ للمحكمة العليا حجة الجنسية الفعالة، عندما يكون الشخص يحمل عدة جنسيات".
شرح لينزن حجة هرتزوغ القانونية الفائزة، قائلاً: "زوج السيدة كوكرن كان دبلوماسياً إيرلندياً. أقنع هرتزوغ المحكمة العليا بأن إقامتها في لبنان كانت لضرورة دبلوماسية، فحكمت بضرورة إعادة النظر في اللجنة الخاصة. وبعد الحكم، توصل هرتزوغ إلى اتفاق مع اللجنة على تعويض نقدي، ليتم بعده الاتصال بكوكرن من خلال مكتب محاماة في لندن".
وبشأن المبلغ الذي تقاضته كوكرن، قال لينزن إنه "كان ضئيلاً للغاية، فهذه كانت مناطق ضخمة في يافا وحيفا، وقد تم التوقيع على الاتفاقية المالية مع سلطة التنمية". أما بخصوص السبب وراء دعم عائلة سرسق للمشروع الصهيوني، فقد علّق لينزن بالقول: "كان لدى أفرادها اعتبارات تجارية. ويجب ألا نغفل أن هذا التعاون سبق مرحلة القومية الفلسطينية. كان في تلك الأراضي مزارعون فلسطينيون، وكانوا يعتقدون أن اليهودي القادم إلى إسرائيل سيكون مفيداً للمنطقة".
ينتقل كاتب التحقيق ليعلق بأن الوضع الاقتصادي والسياسي لعائلة سرسق ساعدها في الحصول على تعويض لأراضيها، متسائلاً "ماذا عن الفقراء الذين خسروا أرضهم؟"، وهنا يجيب لينزن بأن 99.99 في المئة من هؤلاء لن يحصلوا على شيء، وحتى لو حصل سلام لن يستردوا أراضيهم بل قد ينالوا تعويضاً مالياً، إذ يرتكز عمل كل المنظمات والمؤسسات في إسرائيل على عدم جواز التخلي عن الأرض.
في نهاية التحقيق، يشير كاتبه إلى أن وريث الليدي كوكرن، رودريك، عرف بوصول "غلوبز" إلى ملف قضية والدته، وقد أبدى اهتماماً بالحصول على الوثائق الأصلية الموجودة لدى شركة المحاماة، بنما قررت الأخيرة نقل الملف إلى قسم الأرشيف في منظمة "ياد حاييم هرتزوغ" لحفظه بشكل صحيح. كما يلفت الكاتب إلى أن عائلة هرتزوغ ورودريك سرسق كوكرن لا يزالان على اتصال.
رودريك سرسق
وفي نهاية التحقيق، يقول إسحاق هرتزوغ: "كان والدي قلقاً جداً بشأن هذه القضية بسبب الجوانب الصهيونية الحساسة"، معلقاً بأن والده "كان يملك إحساساً متقدماً بالعدالة، وبهذه الطريقة أراد شكر عائلة سرسق على بيع الأراضي".
ويختم "تحدّث والدي عن هذه القضية لسنوات، فقد أعادت ربطه بإيرلندا التي ولد أفراد من عائلته فيها، كما ربطت بيروت بحيفا، وجمعت بين أديان مختلفة… حتى باتت تفاصيلها تصلح لتكون حبكة فيلم شرق أوسطي جيد، أما النهاية المأساوية لإيفون، الليدي كوكرن، فهي مثال فاقع، أكثر من أي شيء آخر، على أن الشرق الأوسط لم يتغيّر".
وإن كان ما نشره موقع "غلوبز" لافتاً في سياق الدور الذي لعبته عائلة سرسق في بيع الأراضي لليهود، فقد كان لعائلات لبنانية أخرى دورٌ كذلك في تلك المرحلة، وهو دور كتب عنه الفلسطيني غسان كنفاني في كتابه "الدراسات السياسية" الذي يذكر فيه بالأسماء العائلات اللبنانية التي باعت والمساحات التي بيعت.
كما يذكر كنفاني أحوال الفلاحين الذي تشتتوا من الأراضي التي يعملون فيها بعد بيعها، ومنها أرض مرج ابن عامر التي طُرد منها أكثر من 8000 فلاح بعدما باعتها عائلة سرسق لليهود.
من جهته، يذكر الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر أنه عشية الحرب العالمية الأولى امتلك اليهود حوالي 400 ألف دونم أرض في فلسطين بينما بلغت مساحة ملكيتهم عشية النكبة 1734 ألف دونم، ومن العائلات التي باعت أراضيها كانت آل سرسق، وآل الخوري، وآل تيان، وسلام، والقباني والتويني والصباغ وكانت معظمها من مرج ابن عامر وقرى في عكا وحيفا، إضافة إلى عائلات سورية باعت أراضيها في الجولان وصفد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع