أحاول مغالبة البكاء، لكنّ المنفيَّ لا يستطيع أن يمنح نفسه ترف الاكتئاب وهو يقرأ أخبار بلاده، لأن المحتل لن يدفع له إيجار مسكنه في المنفى. أمسك باليد التي تمتد إليّ وهي تكاد تفلت يدي وأنا غارق في غرفة مظلمة أقرأ أخبار الشيخ جراح وأتابع أعداد قتلى غزّة.
أفكر هل كان الحال ليختلف لو كنت في مصر، هل كنت لأستطيع أن أفعل أكثر مما يمكنني فعله هنا، في كولومبيا، في النصف الآخر من الأرض؟ أنا غريب في بلاد تحبطني سيطرة الخطاب الصهيوني الديني على أغلب مواطنيها سوى قلة تناصر الضعيف وصاحب الحق بسبب حكايا أجدادهم العرب أو الفلسطينيين المهاجرين أو لأنهم رغبوا في معرفة واقع الأمور بعيداً عن خطاب الكنيسة ووسائل الإعلام المناصرة لإسرائيل.
لا وجه لي إلا فلسطين
أقرر النهوض. أحاول مغالبة الصمت الذي يثقلني، ودفع عدم الرغبة في الحديث إلى العالم بلغاته التي أعرف بعضها كما أخبرني صديقي الفلسطيني. أضع صورة شيخ فلسطيني يرفع علم بلادنا في وجه المحتل وأقول:
لا وجه لي، ليس سوى فلسطين.
لا رغبة لديّ في الحديث إلى أي أحد بلغته،
ليس سوى لغة فلسطين.
أجد نفسي محاطاً بنارين متأججتين، نار الشعب الذي أعيش بينه يقوم في وجه حكامه ويقلّب عليّ مواجعي، ونار أخرى مشتعلة تأكل بيوت أهلي وهم فيها.
وأنا في الطريق إلى أول تظاهرة شاركت فيها مع صديقي المصوّر الكولومبي، أخبرته أنني متردد، فظنني خائفاً من مواجهات التظاهرات. لا يعرف كل تلك السنوات التي أتذكرها وأنا أرى شباباً يشبهوننا في الطريق إلى ميدان التحرير قبل عشر سنوات.
أنظر إلى الوجوه وأتذكر الوجوه الغائبة، الذين ماتوا أو قُتِلوا والذين في السجن لم يزالوا. أقرر في النهاية المشاركة ولا أجدني بعدها إلا يدي بيد فتاةٍ على يميني وفتى على يساري لا أعرفهم، ندافع عن نطاق حفلةٍ نظّمها شباب الجامعات ضمن أحداث الإضراب الوطني في كولومبيا، ونحمي قطعة الأرض التي اختاروا أن يغنوا فيها إلى الحياة الجديدة التي ينشدونها، والتي نشدناها يوماً.
قررت هارباً من الاكتئاب الاستناد على الموسيقى الفلسطينية، فأصبحت أكرر نسخة جِنين من ظريف الطول، والتي تنتقل بين مناطق فلسطين المختلفة من حيفا إلى رام الله. أسمعها حين أستيقظ وقبل أن أنام، وحين أستحم أرقص على أنغام "على دلعونا وعلى دلعونا"، وأُسمِعُها لصديقتي وأنا أجعل من ظهرها طبلة أدق عليها الأنغام الفلسطينية محاولاً عدم السقوط، لكنني أجد البكاء يسيطر عليّ وأنا أردد كلمات الأغنية وأعزف لحنها.
لم أرد لدموعي أن تسقط في اتجاه خاطئ فتنتبه صديقتي. غالبت البكاء، أو كتمته، بكيت في داخلي، وظللت أدق نغمات "ظريف الطول" دافعاً البكاء بلا يد تمسحه.
أحاول مغالبة الصمت الذي يثقلني، ودفع عدم الرغبة في الحديث إلى العالم بلغاته. أضع صورة شيخ فلسطيني يرفع علم بلادنا في وجه المحتل وأقول: لا وجه لي، ليس سوى فلسطين. لا رغبة لديّ في الحديث إلى أي أحد بلغته. ليس سوى لغة فلسطين
خطاب إلى ميناء المقاومة
نزلت في الصباح لأشتري العدد الأسبوعي من جريدة "المشاهد" El Espectador التي تنشر مقالات لكتاب كولومبيين كبار ولأتابع أحداث التظاهرات. قرأت مقالة لإكتور آباد فاسيولينسي، مؤلف رواية النسيان، عن تغيير النظام، ثم أتت مقالة كاتب كولومبي كبير أحبه شاعراً وروائياً يُدعى ويليام أوسبينا.
قرأت عنوان المقالة: "خطاب إلى بويرتو ريسيستينسيا (ميناء المقاومة)"، وهو ميدان صغير في مدينة كالي، في جنوب غرب كولومبيا، اجتمع فيه المتظاهرون في هذه المدينة التي نزح إليها مئات الآلاف من ضحايا النزوح القسري أثناء سنوات العنف المسلح في كولومبيا في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وهو ما يجعلها إضافة إلى أغلب سكانها الأفرو-كولومبيين (الكولومبيين السود) أحفاد الأفارقة الذين أتى بهم الإسبان عبيداً أثناء قرون الاستعمار الثلاثة.
تضمّ المدينة كذلك سكاناً من السكان الأصليين ومن مختلف أعراق ومناطق كولومبيا. الميدان الصغير الذي يُعَدّ مركزاً للمقاومة والإضراب في أنحاء كولومبيا، شمالها وجنوبها، ذكّرني باعتصاماتنا. حديث شبابه حديثنا نفسه. آمالهم آمالنا.
بدأت بقراءة خطاب ويليام أوسبينا إلى ذلك الميدان (ميناء المقاومة) ولم أعدّ دموعي، دموعي التي هزّت صوتي وأنا أقرأ بصوت مرتفع. وكأنني لا مهرب لي من البكاء. لا أذكر أنني بكيت قطُّ وأنا أقرأ مقالة في جريدةٍ، لكنني لم أتمالك نفسي وأنا أقرأ:
"كنّا معاً دائماً، لكنّنا الآن فحسبُ معاً حقّاً. لطالما عرف بعضنا البعض، لكننا بالكاد نبدأ في التعارف. مَن هنّ هؤلاء الفتيات والفتية ثابتو الأقدام هائجو القلوب الذين يتحدثون إلينا لأول مرة؟ إنهم مَن كنّا، يحلمون بما حلمنا به، ويفعلون أخيراً ما أردنا دائماً فعله. إنهم هنا منذ قرون ورغم ذلك وُلِدوا لتوّهم، وبشفاهِهم تتحدث هذه البحار، وفي أياديهم تجري هذه الأنهار، وهم من كل الألوان: الذين وُلِدوا في الوديان، وفي الجبال، وعلى السواحل، وفي المدن.
إنهم صوت بلد يكتشف كرامته، ويطالب أخيراً بما كان عليهم أن يقدّموا له منذ قرون: الوطن الذي نستحقه جميعاً، والسعادة التي سرقوها منّا، والموتى الذين حملتهم الأنهار، والخبز الذي لم يضعوه هنا سوى على بعض الموائد، والتعليم الذي جعلوه ترفاً حين كان عليهم أن يمنحوه كالحقّ الأوّلي.
ماذا يريد هؤلاء الشباب؟ ما تريده الطيور: القدرة على الطيران والغناء، وما تريده الأنهار: القدرة على إكمال طريقها، وما تحلم به كل حياة: الاحتفال بالعالم، واستحقاق مصير ما، والاستمتاع بهذا الوقت القصير الذي منحونا إياه دون أن أن نذوق مرارة الشعور بأن الأرض ليست سوى لبعض الناس، وأن الحياة الحقيقية للقليلين فقط، وأن علينا أن نترك الأفكار تموت في رؤوسنا، والموهبة في أيادينا، والحب في قلوبنا، لأن البلد ملك لأربعة مُلاك، ولأن مَن يملكون الأرض بدلاً من جعلها تنتج يحيطونها بأسلاك شائكة، ولأن مَن يظنون أنهم يمتلكون الثقافة يريدون الاحتفاظ بها في خزنة مغلقة.
تقدموا يا أبناء جيلٍ أفخر وأشجع! إنكم تستحقّون كل شيء: فلا ترضوا بالفُتات. قالت الدولة إنها ستجعل التعليم العالي مجانياً. ربما يكون قراراً جيداً، لكنه ليس كافياً. إنْ لم يستطع شباب كثيرون حتى أن ينهوا الثانوية، فكيف سيستطيعون دخول الجامعة وإنْ أعفوهم من مصاريفها؟ الكثيرون لا يملكون قوتهم في بيوتهم، والكثيرون في رقابهم صغار يعولونهم.
إن التعليم هو ما يجب أن يتغيّر الآن. لقد رأينا الكثيرين من خريجي الجامعة الذين لا يجدون لهم مكاناً في المجتمع، والكثيرون عليهم الرحيل بحثاً في مكان آخر عمّا كان على بلدهم أن يمنحهم. هنا لم تعد الشهادات كافية: نحن نحتاج بلداً يوفّر بدائل، ويقدّر الموهبة، بلداً مصنوعاً ليكبّرنا لا ليمارس ضدنا هذه المهانة اليومية.
لكن هكذا فقط تتغيّر العصور: حين يعرف كل واحد قيمته، ولا يكتفي بالطلب فحسب، بل يلزم، يقترح ويفرض التغييرات.
]...[
لم تُخترع كل المهن، فالعالم يُظهر أن هناك الكثير ليُبدَع، والكثير ليتغيّر، طريقة جديدة لنسكن الأرض، وكل ذلك ينبت، وما تفعلونه أنتم اليوم من المطالبة بشجاعة والكفاح بثبات وفرض احترامكم على أصحاب السلطة المغرورين والفاسدين في أحيان كثيرة هو جزء من هذا العالم الجديد الذي يولد.
لا: ليست كولومبيا وحدها التي تستيقظ في بويرتو ريسيستينسيا، وفي كل موانئ المقاومة في البلد: إنه عالم جديد، إنه المستقبل الذي سرقوه منّا، إنها السعادة التي حرّموها علينا، إنه التضامن الذي منعونا إياه، وهو الأمل الكبير في كوكب كان يقع منكسراً قطعاً، وربما أمامكم بعض الفتية الذين يرتدون زيّاً رسميّاً يعرفون أنهم يحتاجون المستقبل نفسه.
إنه اليقين القديم بأن صوت الشعب هو صوت الربّ، وأن الشباب أقرب إلى الطبيعة وهم أفضل حليف للحياة. إنه الدليل على أن القوّة والجمال والسعادة مواهب تمنحها الحياة للنوع الإنساني ليعرف بعثاً جديداً في أوقات الرماد، ولكي يخترع العالم من جديد مرة أخرى".
هذا مقال كُتب احتفاءً بثورة تشبه الثورة المصرية المجهضة. في 28 نيسان/ أبريل الماضي اندلعت الموجة الثانية من التظاهرات في كولومبيا، بعد موجة أولى كانت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2019 وملأت شوارع العاصمة الكولومبية بوغوتا.
أن تقرأ: "الكثيرون عليهم الرحيل بحثاً في مكان آخر عمّا كان على بلدهم أن يمنحهم. هنا لم تعد الشهادات كافية: نحن نحتاج بلداً يوفّر بدائل، ويقدّر الموهبة، بلداً مصنوعاً ليكبّرنا لا ليمارس ضدنا هذه المهانة اليومية"، في صحيفة كولومبية وأنت مصري
بدأت الموجة الأولى من التظاهرات اعتراضاً على مشاريع اقترحتها الحكومة الكولومبية لقوانين التعليم والصحة والضرائب والمعاشات، لكنها كذلك خرجت غاضبة على سياسات الرئيس إيبان دوكي الموالي للرئيس الأسبق ألبارو أوريبي المدان في قتل أبرياء خلال سنوات النزاع المسلح في كولومبيا ووصمهم بانضمامهم لجماعات مسلحة، في ما عرف بظاهرةLos falsos positivos، وهم مَن كانت ميليشيات الجيش تقتلهم وتصورهم بملابس مسلحة لتدرجهم ضمن أعداد القتلى في مواجهاتها مع قوات "الفارك".
كذلك كانت التظاهرات اعتراضاً على الإخلال باتفاق السلام الذي وقّعته حكومة الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس الحائز على جائزة نوبل للسلام بعد توقيع الاتفاق مع قوات الفارك عام 2016، فسياسات الحكومة أعادت نهج اغتيالات أعضاء الفارك القدامى والقادة الاجتماعيين، وسياساتها البيئية والاقتصادية أشعلت غضب فئات الشعب المختلفة وضمنهم مجموعات السكان الأصليين والكولومبيون ذوو الأصول الإفريقية والنقابات العمالية والطلابية وغيرها.
لم تتصدر التظاهرات المشهد الدولي وقتها لأن المتصدّر كان تظاهرات تشيلي التي نجحت هذا الأسبوع في القضاء على دستور الديكتاتور أوغوستو بينوتشيه وافتتاح حياة جديدة للشعب التشيلي الذي يضم أكبر جالية فلسطينية خارج فلسطين.
أواخر نيسان/ أبريل، عادت التظاهرات في كولومبيا، اعتراضاً على مشروع تعديلات في قانون الضرائب اقترحه وزير المالية لسد العجز بسبب جائحة كورونا، لكنه كان القشة التي قصمت ظهر البعير.
وتستمر التظاهرات في كل مدن كولومبيا منذ أكثر من ثلاثة أسابيع. وبدأ بعض المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط بالحديث عن مقاربات تربط بين هذه التظاهرات وثورات الربيع العربي، وإمكانية البدء في مرحلة جديدة في البلاد بعد ثلاثة قرون من الاستعمار الإسباني وقرنين من الصراعات السياسية التي امتلأت بالصراعات المسلحة ودفع ثمنها ملايين القتلى والمخفيين والنازحين قسراً من البسطاء.
تخبرني صديقتي أنها فكرت فيّ حين بدأت الأحداث في كولومبيا، وحدّثت نفسها بأنني تركت بلدي بكل ما فيه وجئت إلى آخر العالم، لكنني لم أفلت من الثورات والاضطرابات، لكنني بعد البكاء أبتسم، أبتسم لأن قدري يجعلني دائماً في مكان لا يستسلم فيه الضعيف للقوي أو المستقوي، مكان أستطيع أن أمسك فيه بأيدٍ لا أعرف وجوه أصحابها ونسير معاً في صفٍّ واحدٍ نحمي برعم حلمٍ في حياة جديدة يولد شيئاً فشيئاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...