للأسبوع الثاني على التوالي، تستمر إسرائيل في استهداف قطاع غزة وارتكاب مجازر بحق المدنيين... ومع كل صاروخ يسقط يموت أمل وتتحسر عائلة وتُفجع أمهات ويسقط ضحايا أبرياء، حافرين في رؤوس المحيطين بهم ذكريات مؤلمة يصعب أن تمحيها الأيام.
"ماتوا أمام أعيننا دون أن نستطيع فعل شيء"
"كنّا نجلس في البيت، أنا وأهلي وأختي مع زوجها وأولادها، وفجأة وبدون تحذير تعرّض بيتها للقصف بالمدفعية، وبدأ الركام يتساقط فوق رؤوسنا. استشهدت أختي هي وأولادها وزوجها. جميعهم ماتوا أمام أعيننا دون أن نستطيع فعل شيء لإنقاذهم".
هذا ما ترويه الطفلة مي العطار (13 عاماً)، وهي تبكي بحرقة، لرصيف22، وتضيف: "عشنا ساعات من الرعب. منزلنا ملاصق مباشرة لمنزل أختي. يفصل بيننا سور وشبّاك، وكنّا نطمئنّ على بعضنا البعض كل دقيقة حتى رأينا بيتها ينهار فوقها وهربنا قبل انهيار منزلنا علينا".
قُتل بسبب القصف الإسرائيلي كل من لمياء العطار وزوجها محمد وأبناؤها إسلام وزين وأميرة، واضطرت مي ومَن بقوا أحياء من أسرتها لمغادرة منزل والدها حسن العطار الواقع في منطقة العطاطرة في بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، يوم الخميس، في 13 أيار/ مايو، نازحين إلى مدرسة ذكور غزة التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
وتتابع الطفلة: "وصلنا إلى المدرسة بصعوبة، والقصف مستمر، وحتى اللحظة لا نعرف ماذا ينتظرنا. نعيش أيام رعب وخوف والقصف لا يتوقف لا ليلاً ولا نهاراً ومش عارفين لقدام إيش بده يصير. إحنا خايفين ومرعوبين وصوت القصف ما بيوقف لا ليل ولا نهار".
"هدّوا الدار على بنتي وعيلتها. كانت جمبنا قاعدين في أمان الله في بيتنا. كلهم ماتوا. هربت أنا وولادي بنص الليل. جرينا حافيين لغاية ما وصلنا المدرسة واتخبينا فيها"، تروي الوالدة أم علي العطاطرة (46 عاماً) بحرقة لرصيف22.
تضرب كفاً بكف وتتساءل: "ما ذنبنا وما الجريمة التي ارتكبناها؟ نحن مدنيون عزّل تشردنا من بيوتنا وفقدنا الأمان. وصلت هنا أنا وأربعة من أبنائي وبنتي، ولا زال اثنان من أبنائي مفقودين لا أدري هل استشهدوا أو هل هربوا إلى أماكن أخرى. لا أعلم. الاتصال بهم مقطوع منذ يوم الخميس".
وتشير الأم المكلومة إلى أن زوجها أبو علي يعمل في الدفاع المدني وينقذ الناس، ولكنه لم يستطع إنقاذ ابنته من تحت الركام، ما تسبب له بصدمة نفسية من هول ما رأى.
ولكن نتيجة صعوبة الأحداث، ولأنه مؤمن بدوره في إنقاذ الناس، عاد إلى عمله مجدداً في الدفاع المدني. وتأمل الأم أن يستطيع خلال عمله الوصول إلى ابنيهما المفقودين.
"نامي يا حبيبتي. سبقتيني عالجنّة"
أنس اليازجي (25 عاماً)، والذي يعمل في إحدى شركات الدعاية والإعلام في غزة، كان يبحث عن خطيبته شيماء أبو العوف، حتى وجدها تحت الأنقاض بعدما استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي منازل في شارع الوحدة، وسط مدينة غزة، بعشرات الغارات، فجر الأحد 16 أيار/ مايو.
يقول أنس لرصيف22: "كان من المقرر أن أحتفل أنا وشيماء بزفافنا وكنّا نجهّز منزلنا ونرتب إجراءات الفرح قبل الحرب. وقبل استشهادها بدقائق أرسلتُ إليها رسالة لأطمئن عليها ثم حدث القصف على منزلهم ولم تردّ على رسالتي. اعتقدت أن الإرسال ضعيف بسبب القصف لكنّي تفاجأت بأخبار تنتشر عن استهداف منزل أبو العوف في شارع الوحدة. ذهبت مسرعاً إلى منزلها وبقينا يومين نرفع الركام مع الدفاع المدني حتى وجدتها شهيدة تحت الأنقاض... يا الله! كانت تضحك فقلت لها ‘نامي يا حبيبتي سبقتيني عالجنّة’".
"وين أهلنا؟ وين قرايبنا؟"
هيا أبو العوف (21 عاماً)، وتربطها صلة قرابة بشيماء، صديقتها المقربة، وتقطن في بناية ملاصقة للبنانية التي انهارت على شيماء، تقول لرصيف22: "أنا أسكن في شارع الوحدة الذي يُعتبر من أكثر الأماكن أمناً في غزة، حتى خلال كل الحروب السابقة، لكن فجر الأحد الماضي تحوّل إلى ساحة حرب بمعنى الكلمة بعدما قُصف بعشرات الصواريخ. انهارت المنازل ودُمّر الشارع وبأعجوبة كنّا كالمجانين لا نعرف أين الضرب أو ماذا يستهدفون حتى سمعنا فجأة أصوات حجارة المنزل تهوي علينا وزجاج الشبابيك يتكسر".
"ذهبت مسرعاً إلى منزلها وبقينا يومين نرفع الركام مع الدفاع المدني حتى وجدتها شهيدة تحت الأنقاض... يا الله! كانت تضحك فقلت لها ‘نامي يا حبيبتي سبقتيني عالجنّة’"
وتضيف الشابة التي تدرس تخصص تغذية علاجية، مصدومةً من هول الحدث: "شعرنا أن البيت سيقع علينا فنزلنا بسرعة ونحن نبكي ولا نستطيع التنفس بسبب الغبار والأدخنة التي انتشرت داخله، وعندما أصبحنا في الشارع تفرقنا من هول المنظر. ضِعنا أنا وأخوتي عن بعضنا البعض وصدمنا مشهد الركام والدماء المنتشرة في كل مكان وشاهدت منزل أقاربنا حيث تسكن صديقتي شيماء. كان منهاراً تماماً على الأرض. حالة من الرعب ومن الخوف، حالة من الرهبة كانت مسيطرة علينا".
ظلت هيا وبعض أفراد عائلتها في الشارع تائهين لا يعرفون ماذا يجب أن يفعلوا، حتى استطاعت اللحاق ببقية العائلة التي هربت إلى مستشفى الشفاء القريبة.
وتقول: "أول ما طلع الصبح رجعنا ندوّر على قرايبنا. شفنا الدمار كأنه ما كان في بيوت ولا حارة ولا محلات. كل شي تساوى بالأرض. صرت أصرخ وأدوّر على شيماء. سألت بابا ‘وين شيماء؟ وين أهلنا؟ وين قرايبنا؟’. شفت العجز بعيونه وما قدر يرد. بقيت أبحث عن شيماء وبعد يوم كامل وجدوا جثتها تحت الركام والأنقاض".
قضت شيماء بصحبة 47 ضحية آخرين في هذا القصف، تاركة عائلتها وأصدقائها وخطيبها وجامعتها التي تدرس فيها الطب.
"بطّلنا نشوف إشي"
لم يتوقف القصف على قطاع غزة منذ 10 أيار/ مايو. تستهدفه الطائرات الحربية الإسرائيلية والبوارج والمدفعية يومياً بمئات الصواريخ والقذائف التي تتساقط على منازل مدنيين وشوارع رئيسية محدثة دماراً هائلاً.
تروي آسيا العطار (17 عاماً)، وهي طالبة ثانوية عامة، تفاصيل ما حدث في منزلها في منطقة العطاطرة، بعد تعرّضها لقصف عنيف فجر الخميس الماضي أجبر مئات السكان على الفرار من منازلهم والتوجه إلى مدرسة ذكور غزة التابعة لوكالة الأونروا.
"سألت بابا ‘وين شيماء؟ وين أهلنا؟ وين قرايبنا؟’. شفت العجز بعيونه وما قدر يرد. بقيت أبحث عن شيماء وبعد يوم كامل وجدوا جثتها تحت الركام والأنقاض"
تقول لرصيف22: "كنّا قاعدين في البيت. بدأ الطراد يخبط فينا بالقذائف لأكثر من ساعتين وإحنا محاصرين داخل البيت. بعدها الصواريخ صارت تنزل أكتر واشتد الضرب. كنّا نسمع أصوات البيوت تتفجر وفجأة زجاج الشبابيك نزل زي المطر علينا وبطلنا نشوف إشي بعيوننا. كل الحارة صارت تجري بالشارع وما لقينا غير المدرسة نتخبى فيها".
"نفسيتنا تدمرت من الخوف"
بصعوبة بالغة، تحدث معاذ السلطان (16 عاماً)، وهو أحد سكان منطقة السلاطين غرب بيت لاهيا، لرصيف22، راوياً: "مذ بدء الحرب والوضع المعيشي صعب. نفد غاز الطهي من منزلنا ولا يستطيع الموردون الوصول إلى مركز التعبئة بسبب صعوبة الوضع. فقررت التوجه إلى أقرب محطة تعبئة للحصول على غاز الطهي، ولم أغب عن المنزل سوى نصف ساعة وأهلي كانوا متواجدين في المنزل، مدنيين آمنين، بعيدين عن المواقع العسكرية والأمنية".
ويضيف: "فجأة سمعت أصوات القصف وعرفت أنها قريبة من منزل عائلتي. ركضت مسرعاً حتى وجدت المنزل منهاراً عليهم، وبصعوبة استطاع الدفاع المدني إخراجهم ووضعهم على أجهزة التنفس الصناعي بسبب اختناقهم من رائحة الفسفور الأبيض الذي تطلقه الطائرات".
وبحسرة يصف حال عائلته: "الحمد لله. صحيح هم بخير بس للأسف نفسيتنا تدمرت من الخوف. وبيتنا لا يصلح للسكن وبطل في أي مكان يؤوينا".
"شو ذنب هالطفلة؟"
ريما، طفلة بعمر الزهور، لم تتجاوز الثلاث سنوات، أصابتها شظية في قدمها خلال رحلة الهروب من القذائف التي أطلقت عشوائياً يوم الخميس على منازل بيت لاهيا. تروي والدتها أم أحمد أبو حليمة (30 عاماً) لرصيف22: "وإحنا بنشرد من بيوتنا وقعت البنت وإجتها شظية من صاروخ أطلق على بيت جيرانا المقابل. جريت في بنتي. صارت تبكي. جريت فيها بلا ما آخذ أغراضي المهمة من ورق وشهادات لغاية ما شفت إسعاف قدامنا وذهبنا إلى المستشفى الإندونيسي شمال قطاع غزة".
خرجت أم أحمد بطلفتها وذهبت إلى بقية العائلة التي نزحت إلى مدرسة الشاطئ للاجئين. وتتساءل: "شو ذنب هالطفلة؟ شو الجريمة يلي ارتكبتها حتى تصيبها شظية وتتهجر من بيتها؟ بنتي لغاية الآن بتبكي مش بكاء وجع ولكن بكاء خوف ورعب".
42 ألف نازح في مدارس الأونروا
أمام هول المشهد وحجم المعاناة الإنسانية، أعلنت الأونروا في 15 أيار/ مايو عن البدء في تحويل مدارسها المجهزة في غزة إلى ملاجئ تستوعب مَن تضررت منازلهم من جراء القصف الإسرائيلي، مع وصول عدد النازحين إلى أكثر من 42 ألف نازح فلسطيني.
يقول محمد الشنطي، منسق لجنة الطوارئ المحلية في الشاطئ، وهي لجنة شعبية، لرصيف22: "أنا أتابع نزوح المواطنين في ثلاثة مراكز للإيواء في مدارس الشاطئ الجنوبي. عدد النازحين فقط في هذه المدارس الثلاثة 2700 نازح وصلوا بملابسهم فقط، إذ هربوا من تحت القصف مشياً على الأقدام".
ويضيف: "مَن يمتلك سيارة أحضر معه بعض الأغراض الخاصة من فُرُش وغيره، لكن الأغلبية بدون فرش ولا ملابس. وإلى حد هذا الوقت، لم تقدّم الأونروا المساعدة لأي مدرسة، لا تموينية ولا غيره. ما يصلنا يأتي من الجمعيات الخيرية ومن تبرعات شخصية وهو عبارة عن مساعدات عاجلة مكونة من مواد غذائية أساسية، لكنها لا تكفي للعائلات خصوصاً مع وجود أطفال بحاجة إلى حليب وحفاضات وملابس".
في كل صف من صفوف المدارس الثلاثة، يحتمي نحو 35 شخصاً في مساحة لا تتجاوز خمسة أمتار، وأغلب النازحين هربوا من القصف العشوائي في منطقة العطاطرة شمال القطاع والشجاعية شرق غزة.
ويقول الناطق باسم الأونروا عدنان أبو حسنة لرصيف22: "العائلات الفلسطينية التي تشردت بعد هدم منازلها جراء القصف الإسرائيلي لجأت إلى مدارس الأونروا هرباً من العمليات العسكرية الإسرائيلية على غزة، ووصل عدد إجمالي النازحين إلى 42 ألفاً، تركوا منازلهم بسبب الغارات الإسرائيلية المتواصلة ولجأوا إلى 50 مدرسة في مختلف أنحاء قطاع غزة".
ويضيف أن "الأونروا وضعت خططاً للطوارئ للتعامل مع الوضع القائم، وسوف يتم التحرك سريعاً لإنقاذ العائلات النازحة إلى المدارس بهدف توفير الاحتياجات الأساسية وإرسال مشرفين ومرشدين نفسيين للتخفيف من حدة التوتر لدى النازحين جراء العنف والقتل والدمار الذي شهدوه".
ويشير إلى أن استمرار العملية العسكرية يعني المزيد من النازحين، ما يجعل الوكالة غير قادرة على مواجهة نتائج العدوان الإسرائيلي ومتطلبات النازحين، لذلك هي بحاجة إلى دعم عاجل لمساعدة الفلسطينيين في غزة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 16 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...