تسير نور في أسواق مدينة اللاذقية، تجوب بعينيها واجهات محالّ الألبسة، تلقي نظرة خاطفة على جسدها، الذي تنعكس صورته عبر زجاج الواجهات، يبدو قاتماً، ممتلئاً كجسم فيل، لا ترتدي سوى اللون الأسود منذ ولادة ابنها كريم، الذي بلغ من العمر تسع سنوات.
تقول نور (39 عاماً) لرصيف22: "ازداد وزني خلال مرحلة الحمل والولادة 17 كيلوغراماً، أصبح الآن 92 كيلوغراماً، لم أخسر سوى ثلاثة كيلوغرامات فقط، بينما لا يتجاوز طولي 163 سنتيمتراً. ما زلت إلى الآن أعاني من الوزن الزائد، وأختبئ بارتداء اللون الأسود، رغم حرارة الجو المرتفعة، التي تزيد من ثقل اللون الأسود على جسدي".
"الأسود ملك الألوان"
تتعرض نور يومياً للتنمّر من دائرتها المقرّبة، إلى الدرجة التي دفعتها لارتداء السواد، تقول: "مرّة تذمرتُ من انقطاع الكهرباء، وصعوبة الصعود إلى الطابق الخامس على القدمين، في ظل توقف المصعد عن العمل، سمعت جارنا يقول، ضاحكاً: "رياضة رياضة"، كنت وقتها أرتدي سروال جينز، وسترة بيضاء، شعرتُ بالخجل بسبب جسدي، عدتُ لارتداء اللون الأسود، عله يخفي تفاصيل جسدي المكتنز".
"بمجرد دخولي إلى مكتبي، أسمعهم يهمسون: أجت البطوطة".
رغم ملازمتها للون الأسود، تشعر نور أنه لا يحميها من السخرية، تقول: "رغم سواد ملابسي، بمجرد دخولي إلى مكتبي، أسمعهم يهمسون: "أجت البطوطة"، لكني اعتدت على ارتدائه، أصبحت خزانتي عبارة عن كتلة من السواد، حتى الأدوات التي أستخدمها لونها أسود، كفنجان الشاي، وهاتفي المحمول، وحقائبي، وأحذيتي".
ترفض نور جسدها بشدة، تجد أن لا مكان لذوات الوزن الزائد في هذه الحياة، وترى أن المجتمع يُكرس عادة ارتداء اللون الأسود للنساء البدينات، تقول: "عندما أزور الخياطة تنصحني دائماً باللون الأسود لإخفاء عيوب جسدي، أيضاً والدتي تخفف عني، وتقول: الأسود ملك الألوان".
بدأت نور مؤخراً تشعر أن لون بشرتها تغير. تضحك وتقول: "أحس أحياناً أن لون بشرتي تحوّل إلى الأسود، رغم أنني حنطية اللون، عندما أرتدي فستان نوم أحمر أو أبيض يضحك ابني ويقول: ماما أنتِ كتير سمينة".
ترفض نور نشر أي صورة لها على شبكة الإنترنت، تشعر بالخجل، لذلك تبقي جميع صور مناسبات الأعياد والاحتفالات مخبأة في ذاكرة هاتفها، تقول: "الأسود لا يُجدي نفعاً مع الصور، لن يستطيع إخفاء 14 كيلوغراماً متكدساً في جسدي".
"بدانتي سبب عزوبيتي"
تقضي لميس يومياً عدة ساعات على شبكة الإنترنت، باحثةً عن حلول للتخلص من الوزن الزائد، أو خلطات للتنحيف، أو حبوب دوائية تقطع الشهية عن الطعام، تقول لرصيف22: "أشعر أنني عندما أتخلص من بدانتي، سألتقي بشريك حياتي مباشرة".
"أحس أحياناً أن لون بشرتي تحوّل إلى الأسود، بسبب لون ملابسي، وحقيبتي، وهاتفي المحمول، رغم أنني حنطية اللون، وعندما أرتدي فستان نوم أحمر أو أبيض يضحك ابني ويقول: ماما أنتِ كتير سمينة"
ترى لميس (31 عاماً) أن وزنها الزائد سبب رئيسي في عزوبيتها، تقول: "يبلغ وزني مئة كيلوغرام، بينما لا يتجاوز طولي167 سم، تتركز الدهون في منطقة الأرداف والبطن، لذلك أرتدي السراويل السوداء لإخفائها، أيضاً أرتدي السترات القاتمة، لأن أي زخرفة بسيطة في السترة تساعد على بروز صدري الكبير".
تعاني لميس من الوزن الزائد منذ كانت طفلة، تقول: "جميعنا في المنزل نعاني من البدانة، أسمع من وقت لآخر أن الجيران يطلقون علينا لقب "عائلة البوالين"، يزعجني ذلك، خاصة أن بدانتنا مرض وراثي، وكذلك حُبنا للطعام. لإخفاء بدانتنا نرتدي جميعاً اللون الأسود. إنه الحل الوحيد".
هل يرفضك المجتمع؟ تجيب لميس: "نعم بشكل ما، الدليل عدم وجود محال تبيع ألبسة نسائية بمقاسات كبيرة، بحثت كثيراً في دمشق، لم أجد سوى محل واحد يعرض ملابس نسائية غاية في البشاعة والقِدم، يطغى عليها الأسود، والكحلي، والخمري الداكن، أما الموديلات فقديمة جداً لا تواكب الموضة، حتى البالة لا تبيع ملابس بمقاسات كبيرة".
تؤكد لميس أن هناك الكثير من الخيارات أمام السيدة البدينة غير اللون الأسود، تقول: "يمكن لأي سيدة الذهاب إلى مُصممة أزياء، تساعدها على اختيار الألوان والموديلات المناسبة لجسدها، لكن ذلك يتطلب الكثير من المال الذي لا نملكه، ولا نقوى على دفعه".
هل تحبين جسدك؟ ترد: "أشعر أن جسدي عبء يرافقني أينما ذهبت، يعرضني للتنمّر والسخرية، اللون الأسود يخفف من وطأة المعاناة، يُبعد الأنظار عن أردافي العريضة، في أعماقي أتمنى ارتداء فستاناً ملوّناً أو سترة بيضاء مكشوفة، لكنها ستظهر ذراعي المترهلتين، أما الأسود فيخفيهما ويريحني".
تمتلئ خزانة لميس بالسراويل السوداء إلى درجة أنها لا تفرّق بينها، تقول: "جميع ملابسي يشبه بعضها بعضاً، أحاول كسر حدة السواد بوضع القليل من المكياج على وجهي، أو حمل حقيبة ملوّنة، رغم ذلك لا أنجو من التعليقات، مرّة يقولون: ليش هيك لابسة شو جاية على عزاء؟ ومرة أخرى: شكلك مثل الشبح. أصدقائي الشبان يلقبونني بسيدة الظلام".
"يحبون المكتنزة"
وهذه ميرنا (27 عاماً) المهووسة بشابة من مدينتها دمشق، تنشر صور قوامها الرشيق وملابسها الزاهية على تطبيق انستغرام، تقول لرصيف22: "أتمنى أن أكون مثلها، لكن وزني يزيد وزنها مرتين".
يبلغ وزن ميرنا 86 كيلوغراماً، وطولها 170 سم، تحلم أن تخسر 20 كيلوغراماً، وتتخلص من ارتداء اللون الأسود لإخفاء بطنها المترهل، تقول: "زرت مرّةً شيخ يصنع أعشاباً لخسارة الوزن، طلب أن أتوقف عن ارتداء اللون الأسود، لأنه يرتبط بالظلام، وهو لون الليل وينذر بالموت وما يعقبه من حالة الحداد".
تناولت ميرنا وصفة الأعشاب، وتوقفت عن ارتداء السراويل السوداء، لكنها لم تتوقف عن ارتداء السترات القاتمة، تقول: "إن ارتديت ألواناً زاهية، فسيظهر بطني المتدلي، وسأكون عرضة للسخرية حتى من عائلتي، لذلك لن أتخلى عن اللون الأسود إلى أن يصبح جسدي برشاقة عارضات الأزياء".
يرى أيهم، زوج ميرنا، أن جسد زوجته ممتلئ وجميل، ولا تحتاج لخسارة الكثير من الوزن، لكن ميرنا ترفض رأيه، تقول: "جميع الرجال يحبون الفتاة المكتنزة، يهتمون فقط برغباتهم الجنسية، لا يكترثون بما نحب، أو كيف نبدو أمام الناس".
7 أشكال لجسدك
"هناك سبعة أشكال للجسم، تنتمي إليها جميع النساء في العالم، وهي الساعة الرملية المثالية، الساعة الرملية الممتلئة، المثلث المقلوب، المستطيل، الإجاصة، التفاحة، النحيف عموديّاً"، تقول مصممة الأزياء عفاف قدسي.
وتختلف هذه الأشكال من سيدة إلى أخرى، تضيف قدسي لرصيف22: "تزورني سيدات لهن صدر كبير مع خصر صغير وأرداف بارزة، نسميه شكل الساعة الرميلة المثالية، ومنهن لا يمتلكن تفاصيل في أجسادهن، نسمي هذا الشكل بالتفاحة، لذلك اللون الأسود ليس الحل لجميع الأجساد، إنما الحل يكمن بالموديل والقصات ونوعية القماش".
تحاول قدسي أن تقدم أفضل ما لديها، تقول: "بالنسبة للأجساد التي لا تمتلك تفاصيل، أركز على اللون الأسود والبني والخمري، لكن أُدخل بعض الزخرفات، كالنجوم أو الأزهار أو الأشكال الهندسية، لأخفف من سواد الملابس".
أما في ما يتعلق بالأجساد التي تمتلك خصراً صغيراً مع أرداف بارزة، فتركز قدسي على القصات الواسعة، تسميها "إيفازي" أو "ربع كلوش"، ولا تهتم باللون، إذ من الممكن اختيار أي لون تفضله السيدة، أما السيدات اللواتي يعانين من بروز البطن، فتفضل لهن القصات الواسعة المزمومة عند الخصر، لإخفاء الوزن الزائد دون الاهتمام بلون محدد.
ما أكثر الألوان التي تفضلها السيدات البدينات؟ تجيب: "الألوان الداكنة، كالأسود والخمري والبني، ويرفض معظمهن الأبيض أو الأزرق أو الأحمر، لخوفهن من نظرة المجتمع لهن، وبعضهن لا يمتلكن الجرأة على ارتداء ألوان فاتحة، والخروج بها إلى الشارع، خاصة ذوات المؤخرات الكبيرة".
"اللون الأسود يُبعد الأنظار عن أردافي العريضة، في أعماقي أتمنى ارتداء فستاناً ملوّناً أو سترة بيضاء مكشوفة، لكنها ستظهر ذراعي المترهلتين، الشبان باتوا يلقبونني بسيدة الظلام"
وترى قدسي أن المجتمع بشكل خاص، وعالم الإنترنت بشكل عام فرضا معايير صارمة خاصة بجمال المرأة، وأصبحت معظم السيدات يتمنين القوام الأوروبي، والخصر النحيف مع الصدر البارز، لكي يقبلهن المجتمع كسيدات جميلات، ويتخلصن من الرفض.
وتعاني السيدات البدينات من عدم وجود مقاسات تناسبهن في الأسواق، فيلجأن إلى الخياطة أو تفصيل الملابس، أما الميسورات الحال فيفضلن مصممي أو مصممات الأزياء، تقول مقدسي: "يمكن لأي سيدة بدينة متابعة بعض الورشات على الإنترنت، فتتعلّم من خلالها ما هي الألوان والقصات المناسبة لجسدها، ولا تبقى محاصرة باللون الأسود طوال حياتها، ويجب أن تحب نفسها وترى جمال جسدها بكل تفاصيله".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...