"لم يبقَ لي شيء لأحفل به. كل الذين أحبهم ماتوا. في العيد أجلس وحيدة تحت شجرة الليمون المزروعة في الفناء، وأراقب المارّة". هذا ما قالته الحاجة خديجة حين سُئلت عن معنى العيد بالنسبة إليها. فهي تجلس كل عيد بسنواتها السبعين المهرولة نحو شيخوخة لا سبيل إلى اجتيازها، وتشاهد العابرين يذهبون إلى صلاة العيد، أو يعودون منها إلى عائلاتهم، بخلافها؛ فهي فقدت والديها ولم تتزوج قط. ولديها شقيق يعيش في دولة أجنبية، يمدّها بحوالة مالية بين الفينة والأخرى، وفي المناسبات الرسمية التي يُعدّ عيد الفطر واحداً منها.
انضم العيد بالنسبة إلى خديجة لقائمة المناسبات الراكدة، التي لا تعدو عن كونها احتفالاً مجمداً تقوده حفنة من الغرباء، يستعرضون فيه أطعمة جاهزة وحلويات مصنعة مشبعة بالصبغات، وكأنهم يغطون فيها نهمهم إلى الألوان، وجوعهم إلى التخمة التي فُقدت خلال شهر رمضان. وسواء أكنت أنت خديجة، أم مجرد قارئ عادي، فباستطاعتك أن تخمّن أحاسيس الخواء التي تعتريك أيام العيد. فُقدت البهجة وتحولت إلى مائدة مليئة بالأطعمة، وجيوب توزع الأموال على الأرحام من باب "السند والعزوة"، واتّباعاً لعادات وتقاليد فُرضت على مجتمعنا من دون أن يكون لها أصل في الدين.
"العيدية" مثلاً، من العادات التي توارثناها على مر الأجيال. ولم يثبت وجودها شرعاً في الدين الإسلامي. وزيارة الموتى بعد صلاة العيد بدعة مكروهة شرعاً، وفيها نوع من "جلد الذات" و"استجلاب الحزن" الذي يتناقض تماماً مع مفهوم العيد. يقولون: "عيد الله"، ولكن، هل بقي شيء من العيد ينتمي إلى العالم الفوقي؟
كيف اعتاد الفلسطينيون قضاء العيد؟
تتحول المحالّ التجارية في الأسبوع الأخير من رمضان إلى "ثكنات بشرية" لتجهيز الأطعمة وشراء الملابس، مع أن العامين الأخيرين المرافقين لكورونا، وأزمة المقاصة عام 2020 (الأزمة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل)، شهدا نوعاً من عزوف المواطنين عن المشتريات الثانوية، وبعضهم لا يزال يعاني من أثر الوباء، خاصةً الموظفين الحكوميين. إلا أن نسبة كبيرة من الفلسطينيين لا زالت تؤمن بطقوس العيد، وإن فقدت الفرحة المرتبطة بها.
ومن أبرز هذه الطقوس صلاة العيد التي تؤدى في المساجد، إذ اعتاد البعض الذهاب إلى المسجد ثم زيارة أهل القبور. فمن لديه ميت من العائلة، يذهب إلى قبره بمعية رجال العائلة الآخرين. فيما تُحرَم المرأة من الذهاب إلى صلاة العيد أو زيارة القبور. يقرأون الفاتحة أمام القبور، ثم يسلّمون على أهل موتى آخرين، جاؤوا لزيارة موتاهم، ويقرأون الفاتحة على قبورهم أيضاً. بعضهم يسأل عن اسم الميت إذا لم تكن لقبره شاهدة؛ وذلك ليصله أجر القراءة بالاسم، كما يعتقدون.
من الطقوس الغريبة أيضاً أكل "الفسيخ" على الإفطار بعد العودة من الصلاة، وهو عبارة عن سمك بوري مملح يعود إلى زمن الفراعنة
من الطقوس الغريبة أيضاً أكل "الفسيخ" على الإفطار بعد العودة من الصلاة، وهو عبارة عن سمك بوري مملح يعود إلى زمن الفراعنة، إذ أكلته العائلة الخامسة من الفراعنة عن طريق تجفيفه وتمليحه. وجاء هذا النوع من الأطعمة تقديساً للنيل، الذي ينبع من الجنة باعتقادهم. وواظبوا على أكله في الأعياد، ثم توارثته باقي الشعوب العربية حتى يومنا هذا، فأصبح مرتبطاً بشكل كبير بعيد الفطر السعيد.
أما ربّات البيوت فيصنعن الحلويات، وأشهرها الكعك المحشو بالتمر، ويكون على شكل حلقات. تجتمع نساء العائلة ويتقاسمن العمل ليلة العيد، بعضهن يُعِدّ التمر وأخريات يصنعن العجين. إلا أن للجدّات طقوساً خاصةً ترتبط بليلة العيد تحديداً. تقول الحاجة يسرى (67 عاماً)، لرصيف22: "منذ أربعين سنة أو أكثر، اعتدت أن أصبغ شعري وأطراف أصابعي بالحنّاء ليلة العيد. فنحن النساء اللواتي نشأن في بيئات محافظة، ولم يكن لديهن أي مال للتبرج أو شراء الملابس، كنا نستعيض عن هذه الزينة بالحنّاء، ونحفل بها كأنها ملابس جديدة". تُخرج من خزانتها علبة شفافة صغيرة الحجم، وتُردف: "كنا نُعدّ هذا الكحل يدوياً. أنا لم أستعمله إلا بعد زواجي، وكان عمري وقتذاك 15 عاماً. أنتن بنات اليوم ما بيعيش الكحل عندكن يومين، شوفي، هذا الكحل بعده جديد".
الحداثة التي قضت على طقوس العيد
الجدّات لا يُقمن داخل الزمان، بل يجلسن عند حذائه، ويتلمسن آثار أزمنتهن الخاصة، حين كان لهن دور أكثر فاعلية من التحديق المتواصل والانتقاد الصامت للأشخاص والأشياء. الحداثة "عصرنت" مفهوم العادات والتقاليد، فكثيرة هي التفاصيل القابلة للذوبان حتى داخل الجيل نفسه. إذا ما قارنت بين عصر الكحل والحنّاء -البديلين الوحيدين للزينة والملابس- وبين عصر الاستهلاك، حيث تغزو الملابس الجديدة عالم الكبار والصغار، بمناسبة أو من دونها، فإنها مقارنة خاسرة، بل ومجحفة أيضاً، أيهما يفوز؟ أن تهجر الزمان فتختار الحنّاء، أم تقيم فيه وتختار الاستهلاك؟
فتحية خطيب الباحثة في الموروث الثقافي عن العادات والتقاليد، تعتقد أن زحف الحداثة طال حتى التفاصيل الدقيقة، كالأغاني التي اعتاد الأطفال غناءها ليلة العيد، ومنها: "بكرا العيد وبنعيّد، بنذبح بقرة السيّد، والسيّد ماله بقرة، بنذبح بنته هالشقرا". بالإضافة إلى لعبة أولاد القرى المعروفة بـ"الشيخ رمضان" والتي يرددون فيها: "مات مات رمضان، لا والله سلامته، قامت أخته فاطمة تعيّط على قامته". وتذكر أيضاً "صندوق العجب"، أو السينما المتنقلة، وهو صندوق يلَف بشريط صور، ويتحلق الأطفال حوله ويشاهدونها".
اعتدت أن أصبغ شعري وأطراف أصابعي بالحنّاء ليلة العيد. فنحن النساء اللواتي نشأن في بيئات محافظة، ولم يكن لديهن أي مال للتبرج أو شراء الملابس، كنا نستعيض عن هذه الزينة بالحنّاء
لم تعد طفولة اليوم ميّالة إلى التحرك والانتشار، بقدر ما أصبحت مقتصرة على الزحف بكسل داخل زوايا محددة تفضي إما إلى التلفاز أو إلى الأجهزة الإلكترونية. ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة إلى المراهقات، فالفتيات لا يعترفن بقلم الكحل المصنوع يدوياً، بل يستخدمن الماكياج بغض النظر عن أعمارهن. ولا يحفلن بالحنّاء ويعتبرنه "دقة قديمة". نظراً لعدم رواجه على مواقع التواصل -الملهم الأول للغالبية العظمى منهن- في عصرنا الحالي.
أما ربّات البيوت فتركن مهنة صناعة الحلوى بأيديهن، ولجأن إلى طلبها من المحالّ التجارية، أو السيدات اللواتي يعرضن خدماتهن على مواقع التواصل. وما عزز هذه الفكرة هو ذوبان العائلة الممتدة، وازدهار العائلة النووية. فأبناء وبنات العصر الحالي لا يطيقون التجمعات العائلية، وحتى من يتزوج حديثاً يحرص على بناء منزله بعيداً عن العائلة، أو يستأجر شقةً في المدينة التي يعمل فيها.
ماذا جرى للعيدية؟
أما مفهوم "العيدية" فجرى تحويره في بعض المناطق. وعلى الرغم من عدم وجود دليل ديني يُلزم الرجال بمنح النساء كالزوجة والأخوات، مالاً بمناسبة العيد، إلا أنها عادة طغت على الشعب الفلسطيني والعربي عامةً، إلى حد أن بعضهن يرفضن استقبال أشقائهن يوم العيد إذا لم يكن بحوزتهم مال.
الحقيقة أن العيدية مفهوم نشط في عهد الدولة الفاطمية، وكانت تشمل الملابس أيضاً، لا المال فحسب. وأسماه الفاطميون "عيد الحلل". إذ كانت تقدر مبالغ الكسوة وقتذاك بـ16 ألف دينار. وكان الخليفة يوزع المال على الشعب من شرفة قصره. كما عُرفت أيام المماليك باسم "الجامكية". وتغيرت على مر العصور حتى أصبحت في عصرنا الحالي مخصصة للنساء، وبدرجة أقل للأطفال.
يقول المواطن عبد السلام (45 عاماً)، لرصيف22: "العيد للأطفال وحدهم. أحرص على إعطاء أولادي المال في كل عيد. في أعياد السنة الماضية لم نخرج في نزهة لسوء الأوضاع الاقتصادية، ولوجود كورونا. أنا موظف حكومي وأعمل في محطة للبنزين بعد الدوام الرسمي. لدي عملان وبالكاد أستطيع الاستمرار. أتعرفين كم يكون العيد مهلكاً مالياً بالنسبة إلى موظف بسيط مثلي لديه أربعة أبناء وست أخوات، ناهيك عن بناتهن المتزوجات اللواتي سيطالبنني بالعيدية أيضاً؟"
الحقيقة أن العيدية مفهوم نشط في عهد الدولة الفاطمية، وكانت تشمل الملابس أيضاً، لا المال فحسب
كوفيد 19 والاحتلال يستعمران المشهد
يستعرض المؤرخ والباحث في الموروث الثقافي الفلسطيني خالد عوض، حالة الانتقال من عصر التلفزة إلى عصر الإنترنت. فلم تعد العائلة تتحلق حول التلفاز لمتابعة المسرحيات والبرامج الثقافية، واستُبدِلَت الزيارات برسائل إلكترونية ومكالمات عبر إنستغرام وواتساب. عززت جائحة كورونا هذه الظاهرة وزادت الأعباء الأخرى متسببة في عرقلة النمو الاقتصادي والديني، فيقول لرصيف22: "أعتقد أن التكنولوجيا سيف ذو حدين؛ يمكن استخدامها لما هو مفيد ويصلح للعادات المتوارثة، ويمكن أن تكون سبباً في الابتعاد عنها، فهذا مرتبط أولاً وأخيراً بسلوكياتنا وثقافتنا المكتسبة. ولكن يلاحَظ في العقد الأخير أننا كلما انغمسنا في تطورات العصر، ابتعدنا أكثر فأكثر عن التمسك بالعادات والتقاليد المرتبطة بالعيد. أما بخصوص جائحة كورونا، فقد تسببت بخسارة الكثيرين لوظائفهم، وأصبحوا عاطلين عن العمل خاصةً في السنتين الأخيرتين، وفقد الناس الكثير من أحبتهم بسببها".
يحل العيد على الفلسطينيين هذا العام والقدس مستهدفة بصفقة القرن الأمريكية التي تسعى إلى النَيل منها وانتزاعها من محيطها العربي
صحيح أن المساجد فُتحت في شهر نيسان/ أبريل، إلا أن استهدافات الاحتلال للمواطِن الفلسطيني لم تنته، ولم تحترم خصوصية شهر رمضان؛ فالتنكيلات مستمرة بأبناء حي الشيخ جرّاح في القدس، ونحن نتحدث عن تهجير قسري لأكثر من خمسمئة فرد سيفترشون العراء في أية لحظة. يقول عوض: "يحل العيد على الفلسطينيين هذا العام والقدس مستهدفة بصفقة القرن الأمريكية التي تسعى إلى النيل منها، وانتزاعها من محيطها العربي بطرد العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جرّاح وأحياء أخرى، ومصادرة كل ما يملكه الفلسطينيون".
تصاعدت اعتداءات الاحتلال على الفلسطينيين بعد اليوم السابع من أيار/ مايو الحالي، وبلغت زهاء 612 إصابةً وأكثر في القدس حتى اللحظة، وأكثر من عشرين شهيداً من بينهم تسعة أطفال في غزة إثر الغارات الإسرائيلية. حماة أوسلو وأشباههم من الدول العربية يدّعون أنها ليست حرباً وإنما درس في الأعداد الطبيعية التي تُستخدم بشكل غير طبيعي، بدلاً من إحصاء العيدية، نُحصي أعداد الجرحى والشهداء. تركنا لكم الرياضيات يا فخامة الرئيس، فماذا تركتم لنا؟ غرفة صدئة داخل المقاطعة مكدسة بالعساكر وباعتراف يتيم قلتم فيه: "سنلغي العيد وننكّس الأعلام". لسنا طلبة في مدارسكم، خذوا العيد، خذوه بعيداً... لم نعد نرغب في تجربة الحداثة، ولا الملل، ولا التلكؤ من رتابة المائدة وسخافة العادات والتقاليد. غداً سندفن شهداءنا ونوزع الزغاريد لا الحلوى على قبورهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...