قبل أسبوعين من حلول شهر رمضان، طرح رئيس مجلس إدارة والعضو المنتدب لشركة إعلام المصريين ومؤسس شركة سينرجي للإنتاج الفني تامر مرسي، المقطع الدعائي لمسلسل "الملك"، الذي يتناول قصة الملك المصري القديم أحمس "قاهر الهكسوس" ومحرر مصر، مأخوذاً من رواية "كفاح طيبة" للأديب المصري الأشهر نجيب محفوظ، والصادرة عام 1944.
بمجرد طرحه، قوبل المقطع الدعائي "البرومو"، باستهجان وانتقاد شعبي ونخبوي كاسح. حيث ساعد في تزكية هذه الروح حفل نقل المومياوات الملكية المصرية الـ22 إلى متحف الحضارة، الذي أشاد به العالم لما فيه من محاكاة فنية بارعة لملامح العصر المصري القديم، وكأن المصريين "صعب عليهم" أن يصلوا لهذا المستوى من الإتقان في تجسيد الحياة المصرية القديمة. ثم يتراجعون بين ليلة وضحاها، ليجدوا عملاً عن حقبة مصر القديمة مليئاً بـ"عيوب جوهرية" في المحاكاة. ويبدو أن هذا ما لمسه صناع العمل، فقرروا وقف عرضه، وتشكيل لجنة عاجلة من المتخصصين لمراجعته, بينما كشفت جريدة "الاتحاد" الإماراتية استئناف تصوير المشاهد التي لا يشارك بها بطل العمل عمرو يوسف وبعض الممثلين الكبار.
حين تكون بنية الرواية الأساسية مؤسسة على أحداث تاريخية، ولا نية لصنع مفارقة ساخرة أو درامية مع سياق هذا العصر، فلا مفر من الالتزام التام بملامح العصر
"أردت بذلك أن أقول إنه مثلما نجح الشعب المصري في تحقيق استقلاله في العصور الغابرة، فإنه سينجح أيضاً في العصر الحديث"، تعليق مبسط من نجيب محفوظ على مشروعه الروائي الأول الذي ضم ثلاث روايات هي "عبث الأقدار" و"رادوبيس" و"كفاح طيبة". هو الذي واكب فترة الاحتلال الإنجليزي لمصر، فقرر إسقاط الماضي على الواقع بحبكة أدبية لتوصيل رسالة معينة شرحها في جملته السابقة.
يبدو أن الرواية تختلف عن العمل الدرامي المأخوذ عنها. لكن حين تكون بنية الرواية الأساسية مؤسسة على أحداث تاريخية، ولا نية لصنع مفارقة ساخرة أو درامية مع سياق هذا العصر، فلا مفر من الالتزام التام بملامح العصر، حتى لا ينصرف المشاهد عن الهدف الدرامي، إلى الجري وراء مبرر لهذا التلاعب المتعمد بمسلمات هذا العصر، التي تأبى إلا أن تفرض نفسها في أي مراجعة أو نقد أو حتى ملاحظات تأثرية.
أضف إلى ما سبق، فإن عالم نجيب محفوظ نفسه هو عالم مقدس في ذاته، صنعه صانع بإتقان عجيب من موهبة نادرة؛ فما وضع حرفاً أو رفع آخر إلا لهدف. حتى هو نفسه لا يمكنه الجزم به، كما كان يجيب في أغلب حواراته عن مقصده بكلمة أو وصف أو إسقاط "يجوز". فحين اختار ملامح "أحمس" لتعبر عن المصري الذي سوّته الشمس المصرية، لم يأت هذا الاختيار من فراغ. فالشمس علامة الشدة والدفء والكفاح والحرية. ولانعكاس أشعتها على جلد البطل معانٍ لا يمكن إهمالها. ستفرض شخصية نجيب محفوظ نفسها على أي عمل يقتبس من رواياته، حتى لو كان فيلماً مكسيكياً عن "زقاق المدق".
ستفرض شخصية نجيب محفوظ نفسها على أي عمل يقتبس من رواياته، حتى لو كان فيلماً مكسيكياً عن "زقاق المدق"
لا يحتاج الناقد الذكي أو المدرب لفرض أجندته الثقافية أو المعرفية على العمل، من أجل تشريحه وإبراز عيوبه. فالعمل الفني- أي عمل- يشي بنقاط قوته وضعفه. وإذا كان المقطع التسويقي يحمل على الأقل 5 أخطاء، فكم خطأ سيحمله العمل نفسه؟ ضجت مواقع التواصل بـ"النقد التأثري" للعمل، الذي طال "لحية البطل" المقصوصة على الطراز الإغريقي، في حين كان قدماء المصريون حليقي الرأس واللحية. كما أن تكوين البطل الفيزيائي لا يتناسب وفتى أسمر نحيل من جنوب مصر عمره 30 عاماً. عدا عن مظهر "المجاميع" التي لا تشبه القدماء في الملابس، والمعارك المقتبسة من أعمال أجنبية، مثل "صراع العروش"، وتشكيل دروع الجيش المأخوذ من مسلسل "فايكنج".
وجاءت تعليقات صناع العمل لتزيد الطين بلة، حيت تحججوا بأن العمل "درامي" وليس "تاريخياً"، كأنني يمكن أن أستعين بممثل أسمر بالغ الطول أصلع الرأس ليؤدي دور هتلر في عمل تاريخي بحجة "المعالجة الدرامية"، التي لا يمكن أن تعالج ما أفسده الذوق المتدني. وكان أبز نقد من مختص واجهه صناع العمل هو تصريح عالم الآثار المصري ووزير الآثار الأسبق الدكتور زاهي حواس "اللبس ده غلط ما ينفعش، أنا شفت نموذج بشع، شكل عمرو يوسف بالدقن والشنب بصراحة ده واحد مالوش صلة بالفراعنة إطلاقاً".
كل ما مر يخضع للمناقشة الفنية. لكن ما خرج عن إطار الجدل الفني هو اشتباك عناصر أخرى من زوايا غير مدرجة في أي محفل فني في العالم، لتتعاطى مع القضية. أولها كان الإعلام المصري، الذي بدأ يتحدث عن العمل من منظور "تعبوي"، مستخدماً مفردات وتراكيب مثل "قوة جسمانية كبيرة، مفتول العضلات وذو ملامح حادة"، و"براعة صناع العمل في بناء الديكورات الفرعونية"، و"إظهار قوة الجيش المصري في حروبه ضد الهكسوس"، و"هنخلي العام كله يشهد إن المصري مهزمش الهكسوس وبس... المصرى هزم الموت"، و" أول عمل فرعوني حقيقي للجيل الحديث يتناول حياة الفراعنة بشكل واقعي".
وبعيداً عن المدح الأعمى لعمل يهتف منتقداً نفسه، فإن المصريين القدماء ليسوا "فراعنة"، ولا يوصف العمل الفني في أي مقياس نقدي بـ"عمل حقيقي" أو غير حقيقي. وتلك المقدمات لا يمكن اعتبارها تسويقاً للعمل أو تحليلاً له، بل هي محاولة لانتزاع شهادة نجاح لعمل لم يولد بعد.
جاءت تعليقات صناع العمل لتزيد الطين بلة، حيت تحججوا بأن العمل "درامي" وليس "تاريخياً"، كأنني يمكن أن أستعين بممثل أسمر بالغ الطول أصلع الرأس ليؤدي دور هتلر في عمل تاريخي بحجة "المعالجة الدرامية"
"إحنا بنعمل فن عشان نحكي حواديت، عشان نسعد الناس ونسليهم ونخليهم يفكروا"، كان هذا تعقيباً من الفنانة دينا الشربيني، استجابة لحملة المخرج عمرو سلامة #نتفرج_بعدها_نحكم لدعم المسلسل، والتي ضجت في البداية بتصريحات مؤيدة من الفنانيين "دعما لزملائهم المشاركين في العمل"، قبل أن تسكتهم ردود فعل الجمهور المستهجن، والذين انضم لهم بعض الفنانين مثل نشوى مصطفى، التي طالبت بـ"احترام عقل الجمهور"، قبل أن يقضي قرار صناع العمل بتأجيل المسلسل على الحملة تماماً.
رغم ذلك، يظل صدى الحملة راسخاً في أذهان المشاهدين، الذين أدركوا مدى "استسهال" صناعة السينما والدراما في مصر. حتى وصل الأمر بهم إلى "المجاملة علناً في الفن"، وليس على حساب مشاهد كل ذنبه أنه لا يجد بديلاً عنهم فحسب، إنما أيضاً على حساب "قوة ناعمة" تميزت بها مصر في الأعمال الدرامية والسينمائية التاريخية، بدءاً من "بين القصرين" وحتى "الناصر صلاح الدين"، لتتلقى طعنة نافذة كادت أن تودي بها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...