"إلى روز"، هكذا بمنتهى البساطة والامتنان، يهدي الكاتب الأميركي وليام ستايرون، مذكراته التي لا تتعدى المئة والعشرين صفحة في ترجمتها العربية، إلى زوجته التي ساندته بصبر وتبصّر أثناء أزمة اكتئابه الحاد، أو ما دعاه "اعتلال المزاج".
وبفرح العبور يُنهي مذكراته بما يشبه بيان الانتصار والتخطّي حين يعلن: "وهكذا خرجنا، ومرة أخرى أبصرنا النجوم". وبإعلانه هذا تتسرّب ارتعاشة إلى كيان القارئ مختلفة عمّا كان يعتريه من حالات انفعالية خلال الصفحات السابقة.
تشريح الاكتئاب
الحجم الصغير للسيرة الذاتية من القطع الوسط، بفصولها العشرة القصيرة، (ترجمة أنور الشامي، دار الكرمة، 2019)، وقد استوحى صاحبها العنوان من قصيدة "الفردوس المفقود" للشاعر الإنجليزي جون ملتون.
يتماهى مع اللحظة الآسرة لنشوة النجاح، كأنّما هي حالة إشراق روحي لدى القارئ، ومضة خاطفة لكنّها مستديمة في فعلها؛ فلا يخرج منها إلا بما يُثري، ليس على المستوى الوجداني فحسب، بل في المستوى المعرفي لجهة الخبرة الحيوية في التعامل مع المرض والتعرّف إلى "الاكتئاب" بوصفه مرضاً غير مفهوم الأسباب.
لكنه مرض على أي حال، نفسي-جسدي، وعلاجه يقتضي الذهاب في الاتجاهين، العيادي النفسي والطبي معاً، فضلاً عن المحبة والتفهّم من المحيطين.
أما المعرفة الأكثر بروزاً فهي بما يختزنه الكتاب من إحالات إلى أسماء لامعة في شتى الفنون عانت مع المرض، وشهدت غالبيتها مصائر تراجيدية. ولعلّ الوصف المختصر والمؤلم للمكتئب أنه "الحي-الميت"، ومن خلال ما خبره، يصف صاحب هذا المنجز الروائي وكاتب المقالات الجدلية وليام ستايرون (1925-2006)، عوارض المرض وتقدّمه في مراحله.
غير أنه يخلص إلى نهاية سعيدة رغم إشارته إلى أن الكثير من أدبيات الاكتئاب مفرطة في التفاؤل لجهة الاستقرار القريب؛ إذ يقول إن "الاكتئاب في مراحله الخطيرة ليس له علاج سريع المفعول، لذلك فإن العجز عن تخفيف حدة المرض هو أشد عوامل المرض فجاعة بينما يكشف عن نفسه للضحية".
رواية "ظلام مرئي" لوليام ستايرون: "الاكتئاب في مراحله الخطيرة ليس له علاج سريع المفعول، لذلك فإن العجز عن تخفيف حدة المرض هو أشد عوامل المرض فجاعة بينما يكشف عن نفسه للضحية"
يصف ستايرون (وهو صاحب رواية "اختيار صوفي" التي حوّلت إلى فيلم سينمائي، إخراج ألان باكولا، 1982، وحيث انتهى بطلاها منتحرين) ما كان يدهمه من أعراض انسحابية، نوبات قلق مباغتة وشعور بعزلة رهيبة إلى حدّ فقدان القدرة على التركيز في أي شيء. فمشاعر الحزن ترتبط بعناء الحياة اليومية، حتى أن فعل الكتابة لديه بات أشد صعوبة وإرهاقاً.
هذا الاضطراب في المزاج يصاحبه ألم بالغ الغموض وشديد المراوغة في طريقة ظهوره للعقل الوسيط. ويتابع بأن ثمة مرحلة تقع بين بداية التشتت الذهني والخوف من أمور مبهجة مثل حركة إقلاع الطيور في ساحة، يفترض بها أن تثير فيه مشاعر الابتهاج لا الخوف، تجعله يتسمّر حيث هو.
ذلك ما دفعه إلى تثقيف نفسه في الطب؛ فبحث في مراجع متخصصة في جلّها، ليرى أنّ الاكتئاب لا يقل خطورة عن مرض السكر أو السرطان. يصف أحد الأطباء ما يحيط بهذا المرض من غموض بقوله: "إذا قارنت معرفتنا بالاكتئاب باكتشاف كولومبس لأميركا، فإن أميركا لا تزال مجهولة حتى الآن؛ ونحن لا نزال على جزيرة صغيرة من جزر البهاما".
ويعثر على سبب متوقّع يعود إلى طفولته، استناداً إلى المقولة النفسية: "الحداد الناقص"؛ وهو الفقدان الذي تصحبه الصدمة في مرحلة الطفولة، وفي حالته فقدان أمه، وما يرافق ذلك من تلاشي القدرة في الاعتماد على الذات، ومن ثم تنامي الاتكال والخوف الطفولي، فالشعور بكراهية الذات وانعدام تقديرها.
الاكتئاب كحياة كاملة
أشدّ ما يؤسي الكاتب ما بقي من جرح في ذاكرته لحدث استلامه جائزة "تشينو ديل دوكا" العالمية في باريس، في أكتوبر 1985؛ إذ لم تسرّه مناسبة تكريمه. والمفارقة أن الجائزة تجعل -باعترافه- أي محاسبة للذات تبدو عملاً سخيفاً.
وقد كان على اقتناع بأن نوبات القلق الخانق سوف تشتد مساءً، فحالة الارتباك الذهني وفوضى الذاكرة عرضتاه لموقف محرج من فقدان الاتزان، فاعتذر عن حضور حفل الغداء المقام على شرفه، وهو جزء من الاحتفال التكريمي، مهيناً السيدة سيمون ديل دوكا، القائمة على الجائزة، فيضطر للاعتراف لمساعدتها بأنّ لديه مشكلة نفسية، وهو "أمر صعب الاحتمال على شخص يعهد عنه الاتزان".
يعاد المكرّم إلى مأدبة الغداء، لكن الأخطاء تتوالى، فيفقد شيك الجائزة. وهنا يتساءل عن إمكان إضاعته عمداً؛ إذ يؤمن بحقيقة الحوادث التي يقترفها الإنسان لاشعورياً ضد نفسه، وأن هذه الخسارة ما هي إلا شكل من أشكال الرفض المنبثق عن كراهية الذات. إلى أن يعثر ابن فرانسواز صاحبة دار "غاليمار" للنشر على الشيك.
إذا قارنت معرفتنا بالاكتئاب باكتشاف كولومبس لأميركا، فإن أميركا لا تزال مجهولة حتى الآن؛ ونحن لا نزال على جزيرة صغيرة من جزر البهاما"
وسيكون جزء من قيمته مخصّصاً لعلاجه، حيث أدخلته المستشفى في ديسمبر، حالة كادت تبلغ به حد العنف.
يعترف لطبيبه بما لديه من نوازع انتحارية، ويعقد مقارنة مشابهة بين ما تمثّله الخيالات البشعة عن الموت والطرائق الممكنة لحدوثه أو افتعاله للمصابين باكتئاب شديد، وما تمثله أحلام اليقظة الشهوانية للأشخاص ذوي النشاط الجنسي الموفور.
من الأسماء التي يستحضرها ويفرد لبعضها فصولاً، الروائي والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو، بروايته "الغريب" وحالة الاغتراب أو العزلة الوجودية التي صورها في شخصية "ميرسو"، وقد تأثّر بها ستايرون حين كتب روايته "اعترافات نات تيرنر".
ويتأمّل في موت كامو المثير للجدل، وفي انتحار كل من رومان جاري، الفائز بجائزة "غونكور" مرتين، والدبلوماسي وزوجته الممثلة الأميركية جين سيبيرج، مثلما يستدعي كلمات الشاعر الإيطالي المنتحر سيزار بافيز الذي يكتب مودّعاً: "ليس لديّ ما أقوله. فعل، ولن أكتب بعده أبداً".
إنّما كان لموت الناشط الاجتماعي آبي هوفمان، في ربيع عام 1989، ولردة فعل القرّاء الإيجابية على مقالة كتبها بهذا الخصوص في صحيفة "التايمز"، دور في الإفصاح عن خصوصياته وتسجيل تجربته مع المرض. ومفاد المقالة أنّ الذين لم يجربوا الألم الذي يسببه الاكتئاب لا يمكنهم أن يتصوروه؛ فقد يودي بضحيته حينما تتجاوز المعاناة قدرة المريض على الاحتمال.
لذا يجب ألا يُوجّه إلى الذين يهلكون أنفسهم لوم بأكثر مما يُوجّه إلى ضحايا السرطان في مرحلته الأخيرة. ويقول إنّه ساعد، عن غير قصد، أرواحاً تتوق للتصريح بأنها هي الأخرى قد اختبرت المشاعر التي وصفها في مقالته.
جاءت مقالته، بعد ردود الفعل المنكرة لحقيقة الانتحار ورفض التسليم بها من قبل القريبين من الضحية، "كما لو أن الفعل الإرادي مقارنة بالوفاة إثر حادث ما كان مشوباً بانحراف ينتقص من قدر الرجل". ويعزو الكاتب هذا الإنكار إلى الشعور بذنب ينبع من فكرة أن هذا الشخص، القريب من الضحية، ربما كان بمقدوره الحيلولة دون حدوث الانتحار لو أنه اتخذ بعض الاحتياطات.
وكما حدث مع أخي هوفمان، سارعت أرملة الشاعر والناقد راندال جاريل (مات بصدمة سيارة عام 1965) إلى الاحتجاج على مجلة "نيويورك" التي أدلت باستنتاجات تفيد بأنه رمى نفسه عمداً أمام السيارة لإنهاء حياته.
ليس قشرة نفس بل جسد
ربما يوضّح أهمية الوعي لدى المحيطين بالحالة النفسية للمصاب، بما أورده من مثال عن شخصية "إيما" في رواية "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير. حيث تحاول إيما الخائنة -فيما يتملكها من شعور بالذنب، وينتابها من ذهول وتعاسة وهي في طريقها نحو الانتحار في النهاية- أن تستحثّ القسّ على مساعدتها كي يجد لها سبيلاً للخروج من تعاستها، لكنه كان ساذجاً، كما يعبّر الكاتب، فأخذ يلقي بمقولات مسيحية مكرّرة، ولكن إيما بقيت على فزعها، محرومة من رحمة الله أو مواساة الإنسان.
وهذا ما حدا ستايرون إلى أن يشبّه علاقة إيما بالقسّ بعلاقته بطبيبه حين ذهب إليه يحمل الشكوك ذاتها والتردد نفسه.
حين شُفي ستايرون من اكتئابه، كما يحكي في روايته "ظلام مرئي"، يقول عبارة عميقة التأثير؛ إذ شعر بنفسه أنها لم تعد قشرة وإنما جسد، فميزة الاكتئاب الوحيدة هي أنه مرض يمكن قهره
ذكرياته منعته من الإقدام على التخلي عن كل هذه الذكريات، بإنهائه حياته. فأخذ يفكر في كل بهجة عرفها منزله: أصوات الأطفال، الحفلات، أجواء الحب، العمل، النوم الهانئ، الصخب، أصوات الكلاب والطيور، "الضحك والقوة والتنهدات والفساتين والضفائر"، كلمات يستعيرها من كتاب "حفنة الضوء" لإميلي ديكنسون الذي تحدثت فيه عن الموت والفناء.
وكان من قبل مرضه يستغرب كيف أن المكان المؤنس -بحسب كلماتها- والممتلئ بذكريات الصبيان والبنات والضحك والقوة، يبدو معادياً ومشؤوماً. أدرك أنه لا يستطيع التخلي عن كل ذلك، وعن هؤلاء المقرّبين الذين تربطهم به هذه الذكريات؛ لذا أدرك بالقوة نفسها أنه لا يستطيع أن يرتكب هذا الانتهاك بحق نفسه.
حين شُفي ستايرون، يقول عبارة عميقة التأثير؛ إذ شعر بنفسه أنها لم تعد قشرة وإنما جسد. كيف حدث ذلك؟! يمتنّ للأدوية التي كان لها فاعلية بغير شك، للعلاج الجماعي، اللعب الطفولي المنظّم لتحسين حسّ الدعابة والعلاج بالفنّ في المستشفى.
ويذكر بمحبة كبيرة أستاذة الفنّ التي تركت في قلبه طيف ابتسامتها الجميلة. فبعد أن شكّل بالصلصال جمجمة خضراء ذات وجه بشع وأسنان بارزة، وهي نسخة من اكتئابه، مثّل رسمه لرأس ورديّ اللون، ملائكيّ الملامح، متبسّم ومصحوب بعبارة "طاب يومك"، رمزاً لتعافيه وانتصاره على المرض.
"كما يأتي الاكتئاب بشكل غامض ويتحقق الشفاء منه بشكل غامض. فإنّ المعاناة التي يسببها تأخذ مجراها ثم يجد المرء الراحة والطمأنينة". ويتابع اعترافاته وتأملاته القيّمة بأن الاكتئاب ليس نهاية العالم؛ فالذين تعافوا من هذا المرض شهود على ما قد تكون ميزة الاكتئاب الوحيدة وهي أنه مرض يمكن قهره.
ونعود إلى زوجته التي يصفها بأنّها أوتيت من الحكمة أكثر مما أوتي طبيبه المعالج. فقد أصبحت مؤتمنة أسراره، مستشارته، مربية له، أمّاً، معزية وكاهناً يمتلك صبراً بلا حدود. وخير ما نختم به، قوله إنّ ضحايا الاكتئاب ربما كان بوسعهم أن يتحاشوا الكثير من عواقبه الوخيمة لو قدّر لهم أن يحظوا بدعم كالذي منحته إياه روز.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين