شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عزلة

عزلة "المبدعين".. أدب وسينما وأشياء أخرى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 24 فبراير 202101:24 م

قد تكون العزلة مرادفاً للإبداع، في الأدب خصوصاً. أعظم الأعمال خرجت من رحم العزلة، بل إن كثيراً من الأدباء، على مختلف العصور، كانوا يفضلون العزلة الاختيارية، لينجزوا أعمالاً أدبية تتناول صخب الحياة وضجيجها: ثربانتس، شكسبير، فيرجينيا وولف، فريدا كاهلو، كافكا، لوركا، أبو حامد الغزالي ومحمود درويش. جميعهم أنتجوا أعظم أعمالهم في عزلتهم عن العالم والحياة.

العزلة ليست هروباً من الحياة، بل هروب إليها، أو كما يصفها فرناندو بيسوا، أشهر شعراء البرتغال الذين اختاروا العزلة طوال حياتهم، في "كتاب اللاطمأنينة": "عزلتي ليست بحثاً عن سعادة لا أملك روحاً لتحقيقها، ولا عن طمأنينة لا يمتلكها أحد إلا عندما لا يفقدها أبداً، وإنما عن حلم، عن انطفاء، عن تنازل صغير".

العزلة ليست هروباً من الحياة، بل هروب إليها

بيد أن هناك فارقاً كبيراً بين العزلة الاختيارية للمبدع، وتلك العزلة التي يعيشها العالم منذ أكثر من عام، بسبب وباء فيروس كوفيد-19 الذي اجتاح العالم بظلامه وشرّه. عزلة إجبارية للجميع لم تكن في الحسبان، ربما أحبها البعض في البداية، فهي فرصة لالتقاط الأنفاس اللاهثة وراء العالم وجنونه، لكنها طالت، ولا يوجد في الأفق ما يُنبئ عن نهاية قريبة لها.

هناك فارق أيضاً بين عزلة في القرن الواحد والعشرين، بكل هذه الوسائل في الاتصال والتكنولوجيا الحديثة التي خففت من وطأة العزلة، وبين عزلة القرن الماضي وما قبله، فكيف استفاد مبدعو الحاضر من عزلتهم؟ كيف تغيرت عاداتهم واتصالهم بالعالم، القراء، الأهل، وكيف أثّر كل ذلك على مشاريعهم الإبداعية؟

لوحة من الجنون والعنف

"لو كان لي أن أصف هذا الوباء في عمل أدبي، فسوف تحكمه قوانين الغرابة والجنون واللا منطق"، هكذا بدأ الشاعر المصري، محمود خير الله، حديثه مع رصيف22، وتابع: "لقد ملأت كورونا العالم بالعنف والموت والغرابة. أصبحنا نعيش أياماً مليئة بالتشوّهات والقبح. لقد صار علينا أن نبحث بشغف عن الجمال، وإذا وجدناه، سنراه محبوساً وراء كمامة، مختفياً وراء قناع أو منهاراً في عزل صحي". يشفق خير الله على الأجيال الجديدة، من أن تنشأ أرواحهم وسط كل هذا الخراب والهلع والموت، ذلك الذي أصبح في كل مكان، ويكونون، رغم كل ذلك، قادرين على ارتكاب الحب: "أنا متأكد أن ذلك يحدث لكن كجزء مُكمِّل للوحة الجنون والعنف".

لكنه يعود ليرى جانباً مشرقاً في عزلته هذه، حسب كلامه: "على النقيض من تأثيرها العام البشع على العالم، ويا للغرابة، فقد مدت إليّ العزلة يد الإنقاذ، وحقيقة أنا ممتن جداً لهذه العزلة، لأنها جاءتني بعد 25 عاماً من العمل المتواصل، كأنها مكافأة لشخصي المسكين، فقد كان لها كل الفضل في أن تجعلني أذهب إلى الإلهام، ولا أجلس لأنتظره. لقد كانت العزلة سبباً أساسياً في تنظيم وقتي والتفرّغ لإنجاز ديواني الجديد، الذي تضمَّن مشاهد حية من حياتي، متعلقة بظروف العزلة والوباء، ومنه نص بعنوان 'عن تلك المدينة التي تسكنها الأشجار'، ومنها نص عنوانه 'الموت كما في شريط سينمائي تالف'، عن صلاة الجنازة التي أقيمت تحت بيتي، ذات ظهيرة، بسبب كورونا".

يعمل خير الله نائب رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون، وصدر له ديوانا "كل ما صنع الحداد" و"لعنة سقطت من النافذة"، ولقد ساعدته العزلة أيضاً على المضي قُدماً في مشروع كتابه الجديد "مزاج الباشا، تطور ثقافة الخمور في مصر".

 الإنسان لازال ضعيفاً أمام الأوبئة، عدوه القديم

يعتبر الروائي المصري وجدي الكومي، أن العزلة الحقيقة كانت في شهور الذروة لتفشي الفيروس، في النصف الأول من العام الماضي، والتي أثرت على عاداته اليومية ونمط حياته العملي، وحتى على اهتماماته بالقراءة ومتابعة الأخبار. لكنه الآن، كما الأغلبية، مضطر للنزول والتعامل بحذر مع العالم من خلف "الكمامة".

ويقول لرصيف22: "من سخرية القدر أنني قضيت الفترة السابقة لظهور الوباء في قراءة عدد كبير من الأعمال الأدبية والتاريخية عن الأوبئة، وذلك لكتابة روايتي الأخيرة 'النسوة اللاتي'، التي تدور أحداثها عن وباء يتفشى في بلد ما أطلق عليها 'بلد المحيط'، وبها تتكشف مفارقات عجائبية وعبثية تجعل أبطالها يستكشفون الخراب الذي حلّ بهم، والذي لا ينفصل عن هزائمهم الشخصية الخاصة.

ثم جاء كورونا ليجعلني أعيش جو العزلة والحجر المنزلي بشكل حقيقي، واكتشف أنا الآخر نفسي وقدرة الإنسان من جديد. ويضيف الكومي: "لقد كشفت لنا الجائحة ضعف الجنس البشري الحقيقي، رغم كل التطور الذي وصل له الإنسان والتقدم الطبي والتكنولوجي، إلا أنه يصاب بالرعب من فيروس صغير، قرر حصد الأرواح بلا توقف حتى الآن".

الكاتب الحاصل على جائزة معرض الكتاب المصري عام 2018 عن مجموعته القصصية "شوارع السماء"، كتب من وحي جائحة كورونا نصين لم ينشرا حتى الآن، وقرر ضمّهما لمجموعته الجديدة.

"اليوتيوبر" ظاهرة غير صحية في عصر الوباء

يعتقد المخرج المصري باسل رمسيس، أن الحكم على التغيير الحقيقي الذي سيخلفه وباء كورونا على العالم أمر مبكر جداً، ولا يستطيع أحد توقع شكل الحياة بعد عودتها، ولا موعد العودة للحياة بشكل طبيعي، لكن المؤكد بالنسبة له أننا نعيش في كابوس حقيقي ومرعب على كل المستويات. يقول لرصيف22: "حتى بالنسبة للذين يحبون العزلة ويسعون إليها، لا يمكنهم تحمل مسألة الإجبار على ملازمة المنزل كل هذه المدة. الخوف والاحتياط والحذر في التعامل والاحتكاك الجسدي قد يقودوننا إلى الجنون".

لم تتغير كثيراً عادات المخرج المصري المقيم في إسبانيا بسبب الحجر المنزلي، لكنها عطّلته عن بعض رحلات العمل في بلدان أخرى، ويضيف: "قضيت العام الماضي في القراءة ومشاهدة الأفلام والمسلسلات على منصات الإنترنت. وربما التأثير الإيجابي الوحيد للعزلة التي يعيشها العالم، هو التحول الذي جرى على نمط المشاهدة على شبكة الإنترنت، فزادت أعداد المشاهدة أضعاف ما قبل الجائحة، وهو ما جعل السينما أقل عرضة للخسارة والتوقف التام، مثل أنشطة وأعمال أخرى تأثرت بشكل كبير".

صار علينا أن نبحث بشغف عن الجمال، وإذا وجدناه سنراه محبوساً وراء كمامة، أو مختفياً وراء قناع، أو منهاراً في عزل صحي

من جانب آخر، يرصد رمسيس ازدياد عدد "اليوتيوبرز" ومقدمي المحتوى على يوتيوب وفيسبوك، الذين تحولوا إلى ظاهرة وأصبحوا مؤثرين في مجتمعاتهم، على الرغم من ضحالة أغلب المعروض، والذي ينم عن جهل كبير عند مقدّميه ويكشف عن انحدار ثقافي مفزع، وهو أمر محزن، كما يقول.

كسينمائي، فكر باسل في أكثر من مشروع للتصوير في أجواء العزلة، ومحاولة توثيق الجائحة لعمل فيلم قصير عنها، لكن لم يسعفه الوقت، ويقول هنا: "انشغلت بإنجاز كتابي عن 'المرجعية الذاتية في سينما يوسف شاهين'، لذلك قضيت أغلب العام في قراءة كتب النقد، ومراجعة أعمال المخرج الراحل وكل ما كُتب عنه وعن أفلامه، وأعتقد أنه أيضاً من المبكر جداً تناول الجائحة وما سببته في العالم والبشر في عمل سينمائي طويل، أو حتى عمل أدبي".

ظاهرة تدعو للتأمل في هشاشة الإنسان، وكيف أنه رغم كل هذا التقدم والجبروت يتراجع ويعلن هزيمته أحياناً أمام فيروس

ظاهرة تدعو للتأمل في هشاشة الإنسان، وكيف أنه رغم كل هذا التقدم والجبروت يتراجع ويعلن هزيمته أحياناً أمام فيروس، لكن من جانب آخر، جعلني أفكر كثيراً في مسألة التواصل بين البشر، وضرورة التلاحم الروحي والعقلي بيننا، وهو الأهم، لا التلاحم الجسدي الذي نهرب منه الآن. هذا كان رأي شاعر العامية المصري سيد العديسي، ويقول لرصيف22: "ربما لو وقعت الجائحة من عشرين عاماً فقط، كانت المعاناة لتكون أشد في مسألة التواصل ومؤازرة بعضنا البعض والسؤال عن الأقارب والأصدقاء. هذا ما قدمته لنا وسائل الاتصال الحديثة والسوشيال ميديا، وهو أمر ساعدنا كثيراً في تحمّل الحجر الصحي وشهور العزل الطويلة والكئيبة".

قضى العديسي أيضاً عامه في القراءة ومشاهدة الأفلام والمسلسلات الأجنبية، لكنه أنتج أيضاً ديواناً من وحي العزلة الجبرية لإنسان هو في الأصل اجتماعي محب للحياة، لكنه لم يصدر حتى الآن، وكان آخر دواوينه "كقاطع طريق" قد صدر نهاية العام الماضي، وحرمته كورونا من الاحتفال به وعمل حفلات توقيع للديوان.

تأجيل معرض الكتاب بين التربص بالمبدعين وفقد الأصدقاء

"الفقد لم يعد له جلال وهيبة، الموت يخطف أقرب الأحبة والأصدقاء، الحزن والمواساة فقط ما نقدر عليه"، بهذه الصورة بدأت الشاعرة المصرية أمينة عبد الله، كلامها مع رصيف22، وأضافت: "يثيرني مشهد عدم اكتراث الناس في بلادنا بالإجراءات الاحترازية بعدم الاختلاط وارتداء الكمامة. لا أعرف إن كانت رغبة في الموت أم في الحياة ومواجهتها وتحدي للخطر والموت".

يثيرني مشهد عدم اكتراث الناس في بلادنا بالإجراءات الاحترازية بعدم الاختلاط وارتداء الكمامة. لا أعرف إن كانت رغبة في الموت أم في الحياة ومواجهتها وتحدي للخطر والموت

لكن "معرض القاهرة للكتاب" كان المشهد الثقافي الأهم في العاصمة المصرية، وقد تم تأجيله لشهر يوليو بسبب الوباء. تقول "أمينة": يحزنني أيضا تأجيل هذه التظاهرة الثقافية التي تعود الجمهور عليها منذ نصف قرن. كان يناير هو شهر القراءة والفعاليات الثقافية والفنية بالنسبة للكتاب والجمهور على حد سواء، والتأجيل سيؤثر بالطبع على تجاح المعرض، لاسيما أنه سيقام في "عز الصيف".
الشاعرة المصرية، صاحبة ديوان "بنات للألم" المثير للجدل، تشير إلى الأزمة التي تعرضت لها هذا العام بسبب كتاباتها وشعرها، رغم أيام العزل. فقد خرجت أصوات تحسب على المشهد الشعري والثقافي المصري تتهمها بإهانة الذات الإلهية في إحدى قصائدها. وتقول : "على الرغم من بعدي نسبياً عن الوسط الثقافي في الفترة الأخيرة بسبب الحظر والاجراءات الاحترازية، كذلك لظروفي الخاصة، أرى أن هناك حالات تربص بالنسبة للمبدعين والفنانين على السوشيال ميديا، أشعر أنه تربص منظم ومقصود ضد المبدعين، لاسيما النساء منهم، هجوم ذكوري بغيض ورجعي لم نشهد مثله قبلا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image