حين ذهبتُ للسؤال عن سلسلة الكتب الصغيرة "مهاجرون"، لم أكن أنتظر أن أجد أحد كتب عددها السادس بغلاف عليه صورة جَمَل أمام الأهرامات، لشاب كولومبي درس اللغة العربية ودراسات الشرق الأوسط وعاش أربع سنوات في مصر، بعنوان "القاهرة، أم الدنيا" (2016).
انتهيتُ قبل أيام من قراءة الكتاب الصادر عام 2016. قرأته في يوم واحد. لم أمل من حرفٍ واحدٍ فيه وكأنني أقرأ عن مكان لا أعرفه، رغم أنني عشت كل حروف الكتاب بلحمي ودمي.
حين وصلت إلى الصفحة الأخيرة، وجدتني أترك صديقتي في الشرفة دون أن أخبرها إلى أين سأذهب، وأهرب إلى حمّام شقتي في الدور السفلي لأبكي، وأقرأ آخر السطور التي يتحدث فيها ريكاردو بارغاس عن لحظة كتابته للكتاب، بعد خمس سنوات من الثورة المصرية، وعن حال البلد التي عاش فيها أربع سنوات وأحبها وعاشر أهلها وعاش آلامهم وأحلامهم، ثم يتأسّف على ما آلت إليه رغم كل ما دفعه أبناؤها أثناء سنوات الثورة.
بكيتُ، وهربتُ كالأطفال لأبكي دون أن يراني أحد. لا أذكر آخر مرة بكيتُ فيها وأنا أنتهي من كتاب، لكنني أعلم أنني لم أبكِ قطُّ من قراءة قصّة، ليس فقط أعرفُها حرفاً حرفاً، بل كنتُ أحد أبطالها، أو ضحاياها.
تذكّرني هذه اللحظة بموقفٍ حكاهُ لي صديقي العجوز إرنان بارغاس كارّينيو، في إحدى أصبحةِ القهوة التي نتبادل فيها أطراف حديث الشعر والأدب. أخبرني أنه في مرة من المرات وهو في الفصل، وقد عمل ولا يزالُ مدرِّساً للغة والأدب في مدراس حكوميّة كولومبية، كان يقرأ مع تلاميذه الصغار في كتاب الأمير الصغير، ورغم أنه يقرأ الكتاب كل عامٍ مع طلابه لأكثر من خمسة عشر عاماً، ورغم حفظه لكل تفاصيل الحكاية، إلا أنه وجد صوته يضعف ويديه ترتعشان، فخرج فجأة من الفصل ليبكي موت الأمير الصغير، يبكي وحده دون أن يراه صغارُه، يبكي نهايةً قرأها مراتٍ لا تُحصى، يبكي مرارةً لا تبلى، يبكي موت الأمير الصغير الذي لا يتقادم. "وقد ينبتُ المرعى على دِمَنِ الثرى... وتبقى حزازاتُ النفوسِ كما هي".
ما قد يقوله كولومبي عن القاهرة
بدأتُ في قراءة الكتاب يدفعني فضول معرفة ما يمكن أن يقوله شابٌّ كولومبي عن سنوات إقامته في مصر. بالطبع لم أكن أقرأ بنفس دافع صديقتي التي أخذت كتاباً آخر من الكتب الخمسة الصغيرة التي يضمّها صندوق أنيق وتشكّل العدد السادس من السلسلة.
كنّا جنباً إلى جنب، على ارتفاع أكثر من ألفي كيلومتر فوق سطح البحر، تحت قمتي جبلي مونسيرّاتي وعذراء غوادالوبي. الكاتب هو ريكاردو بارغاس، وهو باحث دكتوراه في سوسيولوجيا الدين، وكان قد تخرج في كلية الفلسفة والآداب، ثم درس الماجستير في الدراسات الشرق الأوسطية في المكسيك، وسافر بعدها إلى مصر ليقيم أربع سنوات يدرس فيها اللغة العربية ويعمّق دراساته عن الإسلام والمجتمعات العربية، وليهدم الأفكار الاستشراقية التي ينشأ عليها أغلب مواطني المجتمعات الغربية أو المتأثرة بالثقافة الغربية عن المجتمعات العربية.
في أوّل كتابه يذكر شوقه للاستيقاظ على صوت الأذان، ولسماع نداءه من الألف مئذنة المنتشرة بطول قاهرة المعزّ وعرضها، وليرى حضور الإله غير الملموس في الحياة اليومية لهذه المجتمعات.
يبدأ بوصف الرحلة من بوغوتا إلى القاهرة والأيام الأولى من الوصول والمطار وما هو معتاد في كتب الرحلة. تابعتُ القراءة مصاحباً بارغاس في الطريق من المطار متجاوزاً مصر الجديدة، الحي الذي عشتُ فيه أغلب حياتي، صاعداً فوق كوبري 6 أكتوبر وواصلاً إلى ميدان الزمالك حيث سيقضي أيامه الأولى. ورغم معرفتي بكل الشوارع والأماكن التي كان يصفها في جولاته الأولى في المدينة، إلا أنني كنتُ أقرأ بمتعةٍ وشغفٍ شديدين. ربمّا كان ذلك لحنيني إلى تلك الأحياء التي غبتُ عنها وبعدت عنّي على شوقٍ ورغبةٍ في زيارتها لا تغادرني.
بعد ذلك، بدأ في رحلة البحث عن سكنٍ، ثم العثور على شقة في حي العجوزة، ثم سافر إلى أسوان والأقصر قبل البدء في مسار الحياة الطبيعي. هُنا بدأ الكاتب يريني أنني أمام راوٍ سيحكي لي عن بلدي الذي عشتُ فيه حياتي جلّها، أو حياتي التي مضت، ما يجعلني أراه كصورة رسمها له غيره فيضحكُ وهو يرى نفسه مرسوماً للمرة الأولى.
والحقُّ أن ريكاردو كان رساماً بارعاً. حكاياته عن أهالي النوبة، وعن زياراته لآثار الجيزة والأقصر، تدلان على إدراكٍ واتصالٍ بحياة الناس وبتاريخ بلادهم.
حين يعودُ ريكاردو ورفيقته إلى القاهرة ويستقرّان في مسكنهما الجديد، يبدأ في الانسحاب من موقع بطل الحكاية ليظهر أبطالٌ آخرون. يظهرُ بوّابُ البنايةِ، وزوجتُه، وابنتاه. يبدأ بعدها كاتبٌ يعرّف أهل بلاده على أولئك الناس البعيدين المجهولون كل الجهل بالنسبة إليهم. لا يعرفون عنهم سوى ما يُقال عن الإرهاب وحريم السلاطين.
"بدأ الكاتب يريني أنني أمام راوٍ سيحكي لي عن بلدي الذي عشتُ فيه حياتي جلّها، أو حياتي التي مضت، ما يجعلني أراه كصورة رسمها له غيره فيضحكُ وهو يرى نفسه مرسوماً للمرة الأولى"
ينتقل من الحديث عن جيرانه وأبناء حارس بنايته، إلى الحديث عن أمورٍ ثقافية شديدة الاشتباك، فإذا به يتناولها في كتابةٍ موجزة نظراً لحجمه الصغير الذي لا يتجاوز مئة وخمسين صفحةً من القطع الصغير في حجم راحة اليد، لكن بحكمة وبتناول لتنوّع واختلاف طبقات المجتمع وأفكاره، حتى داخل العائلة الواحدة بين الآباء والأبناء، مشيراً إلى الأبعاد الثقافية التي تتجاوز الظاهرة نفسها إلى دلالاتٍ مجتمعية ونفسية لممارسات أبناء هذه الثقافة، محاولاً أثناء كل ذلك، بلغة شديدة البساطة والسلاسة، أن يزيل عن أفكاره وعن أفهام قرائه كل الأفكار النمطية عن هذا المجتمع وهذه الثقافة التي يكتب عنها.
ماذا كنت لأكتب؟
أثناء قراءتي كنتُ أفكّر، خصوصاً لاهتمامي وممارستي لكتابة الرحلات منذ فترة، ماذا كنتُ لأكتب لو طُلب منّي أن أتحدث عن مصر في كتيّب صغير يُقرأ في ساعاتٍ معدودة؟ قطعاً، رأيتني في حيرةٍ شديدةٍ أمام كل صفحة، عن أي شيء أتحدث؟ لكنني وأنا أقرأ صفحات الكتاب رأيت بارغاس ينتقل من الحديث عن الحي الذي يسكن فيه، إلى حديث عمّن سكنوا فيه من الأعلام، ثم يأخذه ذلك إلى الحديث عن نجيب محفوظ، فيسرد حكاية روايته أولاد حارتنا، ولا يفوته في سطور أن يلخّص ما جرى تداوله حوله، ثم يشير إلى واقعة محاولة اغتيال محفوظ ويقتبس من تصريحات مَن نفّذ محاولة اغتياله، كل ذلك في فقرة واحدة من كتابه الصغير.
ينتقل من الحديث عن الأدب إلى الحديث عن "السوق" وشكله في البلدان العربية وتجربته مع السوق في مصر. وأثناء الحديث تطلُّ روح الرِوائي دائماً عبر ذكر موقفٍ مع بائع مسيحي من باعة السوق يحضنه حين يعلم أنه أخوه في الديانة، مستمرّاً في تكوين تراكمٍ لمواقفٍ تعطي لمحاتٍ دالة على شخصية الشعب المصري المجهول لبلدان العالم البعيد.
تأخذ فرصة عملٍ لتدريس اللغة الإسبانية الكاتب الشاب إلى دمياط، فإذا هو يحكي عن نشأة هذه المدينة منذ القرن الثالث عشر الميلادي، ومرور الحملات الصليبية عليها، وحكم الأيوبيين، ثم يصف حال أهلها ويحكي عن محاولته الاحتفال بالعام الجديد فيها.
وبعد عودته إلى القاهرة وعمله مدرساً في المركز الثقافي الإسباني، يتخذ من بين طلبته أصدقاءً ثلاثةً سيكونون رفاقه المقربين في سنوات حياته في القاهرة، كما سيكونون شخصيات كتابه/ حكايته الذين سينفذ من خلالهم، ومن خلال ما سيتشاركه معهم، إلى الحديث عن الدين والاحتفالات والثقافة والمجتمع.
أول هؤلاء الثلاثة شابٌّ مسيحيٌّ متدين سيأخذه إلى دير المُحرّق في أسيوط حيث سيقضي أياماً، فيحكي عن تاريخ المسيحيّة، وعن الكنائس المصرية وقيمتها التاريخية، والتصوّف المسيحي. ثم يعود ليتحدث عن رياح الخماسين التي تزورُ نافذة شقته، وجولاته وزياراته لدار الأوبرا.
"أثناء الحديث تطلُّ روح الرِوائي دائماً عبر ذكر موقفٍ مع بائع مسيحي من باعة السوق يحضنه حين يعلم أنه أخوه في الديانة، مستمرّاً في تكوين تراكمٍ لمواقفٍ تعطي لمحاتٍ دالة على شخصية الشعب المصري المجهول لبلدان العالم البعيد"
وينتقل إلى ثاني الثلاثة وهو شابٌّ متوسّط الحال من منطقة من مناطق القاهرة العُمّالية، ومن خلال حياة هذا الشاب يتحدث عن أزمة الزواج، وتعقيداتها، ثم من خلال دعوةٍ إلى عُرس لصديق صديقه هذا يصف احتفال ليلة الحنّة، ووصفه كحاله على طول الكتاب لا تشوبه أي شائبة استشراقيّة ولا يتضمّن إصدار أحكام على ممارسات هذا المجتمع المختلف في عاداته وتقاليده وأنماط حياته.
من حديث الأعراس واحتفالاتها والزواج وعقباته ينتقل إلى حديث بالضرورة عن معاناة المرأة في مصر والمجتمعات العربية، فيتحدث عن مشكلة مثل مشكلة التحرش. وفي فقرتين مختصرتين يدوّن ملاحظات تلخّص كثيراً مما يمكن أن يُقال عن الأمر:
"ستمرُّ أعوامٌ كثيرةٌ قبل أن يستطيع توفيق ادّخار المال اللازم ليتقدم لوالد حبيبته، وليبدأ في الخطوات الرسمية لتحقيق رغبته، ثم البدء في التحضيرات التي ستؤدي به في نهاية المطاف إلى عُشّ الزوجية. كلاهما يعرف ذلك وينتظر بصبر. يصبّران نفسيهما بزيارات قصيرة أو محادثات تلفونية لا نهاية لها، يناقشون فيها التفاصيل الدقيقة للعائلة التي سيشكّلان يوماً ما. يمرّ الوقت، وتتأجّجُ رغبتهما، لكن عليهما أن يكبحاها ويُمسكا نفسيهما. إنه انتظار مُستنزِفٌ يتحمله باستسلامٍ وإذعانٍ آلافٌ من الشباب والشابات المرتبطين في مصر كلها. يتجاوز كثيرون الثلاثن دون أن يتمّوا زواجهم.
لذلك، لا يدهشني أن تكون مصر ثاني البلدان العربية استهلاكاً للمواد الإباحية على الإنترنت بعد العراق. فهنا يمكن الإحساس بالكبت الجنسي في الهواء، فالتحرش بالنساء في الشوارع هو القاعدة: تعليقات خليعة بصوتٍ منخفض، نظرات شَبِقَةٌ ممزوجة بضحكات وصفافير، وبين الحين والآخر لمسة أو شدٌّ على المؤخرة، مواقف مثيرة للغضب على جميع النساء تحملها يومياً، ينتهي بها الأمر إلى إنفاد صبر أكثرهنّ صبراً. والمناسبات الاحتفالية كالعيد عادة ما تشهد اعتداءاتٍ أشدّ. في هذه الأيام من الاحتفالات الجماعية تتفاقم حالات النساء المذعورات من مجموعات من الشباب العنيفين. إن كلاً من الركود الاقتصادي والتحول المحافظ الذي يعيشه المجتمع المصري يجعلان من تفاقم الأزمة وتمادي خطورتها أمراً مُتوقّعاً".
فائدة أخرى
كان في ذلك الجزء وما يشبهه من الكتاب أن لاحظتُ فائدةً أخرى غير ما أردتُه في بداية قراءتي له. فوراء كونه وثيقةً لكيف يرانا الآخر الذي أنا الآن مهاجرٌ بين ظهراني شعبه وثقافته، أراه بعيني كما رآني هو بعينه من قبل، هو نظرةٌ أشدُّ بساطة للأمور وملاحظة عينٍ غريبةٍ تستقبل الأشياء استقبالاً ليس فيه عداء مسبق أو رغبة سوى الرغبة في المعرفة الخالصة والتواصل الذي ليس من ورائه أهدافٌ استعمارية كحال كتابات استشراقية كثيرة.
يشبه الأمر في الكتاب شاباً أو فتاةً ذهبا لشراء ملابس جديدةً مع أمهما، ولرغبتهما في كيف يبدوان في ما يلبسانه، يسألان عامل المحل "الغريب" أو في حالةٍ أخرى زبوناً آخر في المحل لا مصلحة له البتّة في الأمر. عينُه ليست عين الأم التي ترى القردَ غزالاً، ولا لسانُه لسان البائع الذي يجعل التنك ذهباً.
"لاحظتُ فائدةً أخرى للكتاب... فوراء كونه وثيقةً لكيف يرانا الآخر الذي أنا الآن مهاجرٌ بين ظهراني شعبه وثقافته... هو نظرةٌ أشدُّ بساطة للأمور وملاحظة عينٍ غريبةٍ تستقبل الأشياء استقبالاً ليس فيه عداء مسبق أو رغبة سوى الرغبة في المعرفة الخالصة"
وإنْ كان الغريب في هذا المثال قد يصطنع رأيه لإحراجه من سائله، فهنا في الكتاب ليس الكلام مكتوباً بالعربية ولا هو موجهاً بالأساس إلى قارئ عربي. غير أن قراءتي له، كوني عربيّاً، جعلتني أستعيدُ كثيراً من النقاشات والجدالات التي دارت في مجتمعاتنا وكنتُ مشاركاً في كثيرٍ منها، وأرى عيناً غريبةً تقولُ ما ترى فيها، بلا نية ولا رغبةٍ في شيءٍ سوى وصف ما ترى. رغبتها الوحيدة أن تحاول رؤية كل ما هنالك، وفي هذا فهي تمتازُ عن عيني أنا التي ربما لم ترَ -أو أرادت ألا ترى!- أشياءً كانت موجودةً بالفعل، مثل حديثه عن الشيعة في مصر، والذين لا يعرف أحد من جموع أهل البلد عن نسبتهم في تعداد السكان ولا عن حياتهم.
يأخذ حديث الشيعة إلى الحديث عن أهل البيت ومساجدهم وموالدهم، فيعودُ حضورُ الثقافة ووصفُها الجميل مرة أخرى إلى خيط الكلام، قبل أن يبدأ حديث السياسة والحراكات المجتمعية والمعارضة التي سبقت الثورة ويشكّل ثلث الكتاب تقريباً.
يستمرُّ بارغاس في جعل أساس سردياته شخصيات ممّن تعرّف عليهم في سنوات إقامته، وهم شخصيات من فئات مجتمعية وتوجهات سياسية وفكرية مختلفة، فيعطي في النهاية تصوراً لنسيج مختلف الخلايا أتى من مشارب شتى ووصل إلى نقطة تقاطع واحدةٍ كانت الثورة، ثم أكمل كلّ واحد طريقاً مختلفاً.
الحديث عن حركة "كفاية" (الحركة المصرية من أجل التغيير)، وهي حركة سياسية مناهضة للتجديد لحكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وللتوريث، يختلط بجولةٍ في أحياء القاهرة القديمة تميلُ بالحديث إلى "خيال الظلِّ" وحضوره في الثقافة العربية، ثم إلى حديث سوسيولوجي عن مهنة عمّال النظافة وهجرات أفواجٍ من سكان صعيد مصر وتمركزهم في حيٍّ بعينه، ثم دخول شركاتٍ أوروبية لحل الأزمة، وتفاعلها معهم بعد ذلك. كل ذلك في كتابةٍ لا تشعر في أي موضعٍ منها بعدم سلاسةٍ في الانتقال من موضوعٍ إلى آخر.
حديث عن أحمد فؤاد نجم حدّثه عنه أحد أصحابه يجرُّ حديثاً عن الشيخ إمام وعن فترة حكم جمال عبد الناصر، ثم الدخول إلى تظاهرةٍ يردد فيها المتظاهرون أحد أغانيه، وهنا، توقفتُ أنا حين قرأت ترجمته الإسبانية لكلمات أغنية "مصر يامّا"، وتعجبه من حفظ الناس كلهم لها، لأغنّيها وحدي في شرفةٍ تطل على عاصمةٍ مدينة تبعد عن القاهرة عالماً بأكمله.
يأخذ حديث التظاهرة إلى حوارٍ من جملة واحدةٍ من أحد أفرادها الذي يقولُ إنه عامل في أحد مصانع المحلّة، فيسرد سرداً لتاريخ النضال العُمّالي لهذه المدينة خلال عقدٍ من الزمن حتى الوصول إلى شرارات الثورة.
بعد حديث الثورة وما قبلها وما بعدها، وأسبابها الاجتماعية والسياسية، ينتقل إلى خروجه من مصر مسرعاً، خروجاً يعيدُ السردية التي استمرّت أغلب الكتاب سرديةً جماعيةً بطلها الشعب والثقافة والتاريخ والجغرافيا والأدب والحياة إلى سردية شخصيةٍ غير متجمّلة بأي شكل، يحكي فيها عن خوفه وقراره مغادرة البلد بعد الثورة مباشرةً، ثم بكائه في المطار لاضطراره لهذا الخروج المفاجئ دون وداعٍ أناسٍ أحبّهم وأحبّوه وبلدٍ عاش فيه وتعلّق به، ثم بكائه لاضطراره لترك قطّه الذي تبنّاه بعد شهورٍ قليلة من مجيئه إلى مصر.
يختم بارغاس كتابه قائلاً إنه وهو يكتب هذه الصفحات، بعد خمس سنواتٍ من الثورة (نُشِر كتابُه عام 2016) كان يودُّ أن يكون لتلك القصة المأساوية التي كلُّها تضحياتٍ قدّمها الشعبُ أملٌ في حياةٍ جديدةٍ ونهايةٌ سعيدةٌ، لكن للأسف، "اليوم، لم يتحقّق أيٌّ من مطالب الثورة. استعاد العسكريّون الحكم بعنف، وتراجعت السياحة، ولا يقدر الاقتصاد على التعافي. وإنْ كانت الحريات الشخصية محدودة من قبل، فإنها الآن تكاد تنعدم. الآلاف من الناشطين وقادة النقابات والجمعيات، والمثقفين والفنانين قُتلوا أو حُبسوا، بينما يتمتع المسؤولون عن القمع والعنف، أولئك الأفراد المظلمون المنتمون إلى النظام القديم بحريتهم في مواقعهم القديمة".
لم أقدر على قراءة الفقرة الأخيرة قبل أن أترك صديقتي وحدها في الشرفة وأنزل مسرعاً ملتجئاً بجدران الحمّام، أبكي دون أن يراني أحد، متذكّراً كُلّ ما دفعنا أثمانه غاليةً دون أن نجني شيئاً. وها نحنُ، أيضاً، مهاجرون. كُلٌّ في بلدٍ، ما زلنا نبكي وحدنا، وكلما أتى حديثُ تلك الأيام يذكرنا بالمرارة التي لم تغب بعد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...