شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"انتوا السبب أنا ليه غضبانة"... "خلي بالك من زيزي" وشخصياته الحيّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 6 مايو 202105:15 م

تخيّل أنك تعاني مشكلة ما ولا تعلم ما هي.

يصفك من حولك باستمرار بأنك مرهِق ومربِك ولكنك تجهل السبب. لم تفكّر في مساعدة نفسك لأنك غير مدرك لما تمرّ به بالتحديد، ولم يحاول أحد فهم سلوكك أو تصرفاتك. 

تقودك أحداث معيّنة إلى أن تلتقي بنسخة مصغرة منك. شخصية تشبهك وتكتشف من خلالها أنك تعاني مرضاً نفسياً معيّناً، ومن ثم تبدأ رحلة استثنائية يتقاطع فيها مسار حياتك مع مسار حياتها. تكتشف نفسك من خلالها، تفهمها أكثر، وتحاول إنقاذها بمساعدة هذه الشخصية، فهذا كله بمثابة إنقاذ الطفل الذي بداخلك.

الشخصيتان هنا هما زيزي وتيتو. 

زيزي اسمها زينب (تجسد دورها أمينة خليل)، وتيتو اسمها عطيات (تجسد دورها الطفلة ريم عبد القادر). الاثنتان لا تحبان اسميهما، والاثنتان مصابتان باضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD) في مسلسل "خلّي بالك من زيزي" الذي يعرض حالياً، وهو من إخراج كريم الشنّاوي وكتابة منى الشيمي، وأشرفت على الكتابة مريم نعوم.

المسلسل يبدو من اسمه للوهلة الأولى كوميدياً، ولكنه يحمل خليطاً من المشاعر. هو أشبه بتشريح لأحاسيسنا وتصرفاتنا وتكويننا كبشر. يُبيّن كيف أنه لا بدّ من العودة لأي حادثة تسببت لنا بأذى نفسي، بل التوقّف عندها، والحديث عنها، والتصالح معها، لنحاول أن نمضي في حياتنا بأقل الأضرار الممكنة. وقد ولّد داخلي وداخل كثيرين نقاشات عديدة، حول "أنا" الصغيرة و"أنا" الحالية، حول الحب، وحول أهالينا، وحول التقبل والتخلي بين الشريكين.

تبدو مشاهد المسلسل حقيقية، ومولودة من رحم نقاشاتنا كأفراد ضمن عائلاتنا ومحيطنا. توقفتُ عند أكثر من مشهد كان النصّ فيه لافتاً، وتساءلت عن الأسباب التي تجعلنا ندوّن السيناريوهات. هل نواسي أنفسنا ومشاعرنا المكبوتة من خلال هذه المشاهد؟

واقع غير مُجمّل

يبدأ المسلسل بمشاهِد زيزي بـ"انفعالها المعتاد" وهي تخبر زوجها هشام (يجسّد دوره علي قاسم) بفشل محاولتها الإنجاب من خلال التلقيح الاصطناعي مجدداً. يقرر أن يخبرها وهما جالسان في السيارة بأنه لم يعد قادراً على العيش معها. تضربه على رأسه بقطعة معدنية، ثم تخرج من السيارة وتحطم زجاجها الأمامي وتغادر.

يلجأ هشام إلى القضاء ويستعين بمحامٍ يدعي بأن زيزي تسببت بكسرٍ في عموده الفقري. وتلجأ هي بدورها للمحامي مراد الفرماوي (يجسّد دوره محمد ممدوح). وليربح القضية، يقرر التحكم بانفعالات زيزي بأكثر من طريقة: يلجأ إلى ممثل مسرحي يُدربها على كيفية التصرّف بهدوء في المحكمة، وإلى مدرب رياضي لتفرّغ طاقتها و"غضبها"، وإلى طبيب نفسي لتهدئتها من خلال فهم ما تمرّ به. من هنا تبدأ علاقة زيزي بالمحامي، وهو خالُ "تيتو".

نبّهت المدرسة والديّ تيتو بأنها مصابة بـADHD، وأنها يجب أن تحظى بمساعد خاص يرافقها طوال ساعات الدوام في المدرسة. وبعد محاولات عدة، وعدم نجاح أكثر من مرافق/مساعد، اقترح الطبيب النفسي الذي يعالج زيزي، أن تكون هي المرافق الخاص بتيتو بعد طلاقها وحاجتها للعمل، قائلاً إن "التجربة إما تنجح نجاحاً يفوق التوقعات أو تفشل فشلاً كارثياً"، ومن هنا يتقاطع مسارا زيزي وتيتو. 



تبدو مشاهد المسلسل حقيقية، ومولودة من رحم نقاشاتنا كأفراد ضمن عائلاتنا ومحيطنا. توقفتُ عند أكثر من مشهد كان النصّ فيه لافتاً، رأيت بعضها مدوناً على مواقع التواصل الاجتماعي، وتساءلت عن الأسباب التي تجعلنا ندوّن السيناريوهات. هل نواسي أنفسنا ومشاعرنا المكبوتة من خلال هذه المشاهد؟ الكثيرون يشبهون زيزي مع اختلاف المواقف وردود الأفعال. من هذه المشاهد والحوارات:

(حوار بين زيزي وطبيبها النفسي بعد أن رافقت تيتو في المدرسة - الحلقة 22)

- أنا حاسة إني رجعت 20 سنة لورا يا سامي والله ساعات بتلخبط مبقاش عارفة هو أنا المُدرّسة ولا التلميذة؟

- افتكرتي إيه بقى من أيام المدرسة بتاعتك؟

- أوف، افتكرت حاجات كتير قوي. افتكرت قد إيه أنا كنت بكره المدرسة ودايماً أنا شايفاها إن أنا بسجن، وافتكرت قد إيه أنا كنت دايماً تايهة وهم كانوا دايماً بيرموا عليّ معلومات وأسئلة وأنا مش ملاحقة ومش عارفة أفكر بإيه ولا طايقاهم ولا طايقة نفسي… بس دلوقتي وأنا راجعة بيت الرعب ده، وأنا كبيرة وعندي power وحاسة أني فعلاً ممكن أساعد تيتو، حاسة إن أنا مبسوطة. 

- شكلكو انسجمتو.

- شبهي!

- شبهك في إيه طيّب؟

- قد إيه هي تايهة. قد إيه هيّ مهيبرة (hyper). يعني تحسّ إن هي متدبسة إنها قاعدة في الفصل، وعاملة عملة بس هي مش عارفة هي عملت إيه (...) تفتكر أنا كان عندي ADHD وأنا صغيرة مثلاً؟

- لا هو اللي عنده ADHD بيفضل معاه حتى وهو كبير. يعني مش حاجة خاصة بالكبار. بتختلف من الكبار للصغيرين. 

- قصدك تقول أنا عندي ADHD؟ إزاي متقوليش يعني؟

- أنا ملحقتش. التشخيص بياخد وقت يا زيزي.

(حوار بين مراد وزيزي في غرفة الغسيل في منزلها، بعدما كشفت له أن هذه الغرفة أحد أسباب غضبها وما تمرّ به - الحلقة 20)

- إيه بقى اللي يخوّف بالأوضة؟

- كانوا بيحبسوني في الأوضة دي وأنا صغيرة. كنت أفضل أصرّخ وأعيط وأرزّع. وكانوا بيعملوا نفسهم مش سامعين. سامي قال إنه ده السبب إني غضبانة كدة… 

- الأوكرة دي عشانك. (بعدما كسر مراد يد الباب) 



(مواجهة زيزي لوالديْها - الحلقة 24)

- أنا بتعالج... انتوا السبب أنا ليه غضبانة. أنت بوظتوا حاجات كتير جوايا.

- والدها: مش اللي بتوقله ده حتة من الفيلم بتاع شويكار اللي كنا نشوفه من كم يوم؟

- والدتها: يعني إيه بتتعالجي؟

- استنى بس يا ناريمان. الفيلم بتاع شويكار ده فيلم حلو قوي اسمه إيه؟

- زيزي: هو أنتَ ليه بستهزأ باللي أنا بقوله؟

- ثانية واحدة يعني أنتِ عندك إيه بتتعالجي منه؟

- طلع اسمه "أنت اللي قتلت بابايا".

- ما كفاية بقى الطريقة دي أنا بحاول أتكلم معاك بجد.

- أنت قليلة الأدب. أنت أصلاً مولودة وعندك عرق لاسع جاية دلوقتي تتبلي علي وتقولي أنا السبب؟

- لأ أنا مش هسمحلك تقنعني أن أنا مجنونة والسلام. أنا مش مجنونة وعندي حاجة اسمها ADHD عشان كدة أنا عاملة كدة، افهموا بقى.

- هو مين اللي قلّك الكلام ده؟

- الدكتور اللي بعالجني. قالي أنه أنا عندي ADHD وأنه عندي صدمة من حبستكو ليا وأنا صغيرة في أوضة الغسيل.

- إيه ADHD ده؟ مش خشب بينعمل منّه الباركيه؟… صدمة إيه وكلام فاضي إيه؟ أنتِ كنتِ طفلة متطاقيش والواحد مكنش يعرف يعمل أي حاجة من جنانك. والطريقة اللي مش عاجباكي دي، الحاجة الوحيدة اللي كانت بتهدّك عشان نعرف نتنفس ومأمدّش إيدي عليكي.

"مش محطوط عليه توابل..."

يزداد المسلسل متعة عند مناقشته مع أشخاص يتابعونه. حدثني جمال خولي عن أن المسلسل أعاده إلى مواقف كثيرة بينه وبين أهله باختلاف طريقته في التكيّف مقارنة مع زيزي، وسرد مشاهد أثرت به، منها مشهد زيزي مع أهلها، بدءاً من قرارها الحديث عن أصل المشكلة، مروراً بردّ فعل والدتها الذي نسمعه دائماً، ختاماً بالأسلوب الدفاعي لوالدها، وكذلك مشهد زيزي حينما اصطحبت مراد إلى غرفة الغسيل لتحكي له عن بداية التروما، والتصرف اللطيف الذي بدر منه بعفوية وتلقائية دون أي ترتيب. 

أخبرني جمال أن ما يميز المسلسل هو أنه "'مش محطوط عليه توابل'، وغير مصوّر بطريقة سينمائية تهدف لجذب المشاهد، وإنما يتضمن حياة تشبهنا وتشبه أغلبية الطبقة المتوسطة التي نراها حولنا. ردود الفعل واللمحات التي اختارها المخرج لنفهم أبعاد كل شخصية موفقة وذكية. حتى الموسيقى التصويرية ليست مأسوية بالصورة التي تضغط على مشاعرنا لتوجهها إلى أماكن معينة". 

وعن علاقة زيزي وتيتو قال إنها "علاقة جميلة لكنها مخيفة ومقلقة بعض الشيء. زادت المسؤولية على والدي تيتو. عليهما أن يتحدثا عن سيناريو غياب زيزي. ما الحل إن لم تعد زيزي موجودة أو متاحة خاصةً أن تيتو استبدلت والدتها بزيزي؟".

"ما يميز المسلسل أنه 'مش محطوط عليه توابل'، وغير مصوّر بطريقة سينمائية تهدف لجذب المشاهد، وإنما يتضمن حياة تشبهنا. حتى الموسيقى التصويرية ليست مأسوية بالصورة التي تضغط على مشاعرنا لتوجهها إلى أماكن معينة"

"نحن نِتاج تربيتهم..."

هل رأيت نفسك بمرحلة ما في المسلسل؟ أسأل صديقتي أمل المشرفية التي أجابت: "في مواجهة زيزي مع أهلها وردّة فعلهم. الأهل في الكثير من الأحيان يأخذون موقفاً دفاعياً، ونحن لا نتهمهم وإنما نكون بحاجة لأن يفهمونا وأن ينتبهوا إلى أننا نِتاج تربيتهم وأفكارهم وتجاربهم". 

ترى أمل أن ما يميز المسلسل هو أنه "حقيقي وبسيط وعميق بنفس الوقت. يطرح الفكرة بشكل تجعل المشاهد يفكّر ويحلّل ويراجع نفسه وأفكاره المسبقة، وبأسلوب منفتح وموضوعي دون أحكام أو اتهامات، وإنما بوعي".

وأتفق معها على أن نقاط قوة المسلسل تكمن في "الشخصيات المكتوبة بطريقة متوازنة وحقيقية، والنماذج التي تمثّل مجموعة كبيرة من العلاقات الزوجية أو علاقة الأهل بأولادهم وآثارها على المدى البعيد، وعلاقة الشخصيات مع نفسها ومواجهة حقيقتها". تعتقد أن علاقة زيزي ومراد "هي الشيء الذي يتمناه أي شخص. أن نكون مع شخص يعرف حقيقتنا وبيتقبّلها ويساعدنا على أن نكون نسخة أفضل من أنفسنا…".


"رأيتُ نفسي في مواجهة زيزي مع أهلها وردّة فعلهم. الأهل في الكثير من الأحيان يأخذون موقفاً دفاعياً، ونحن لا نتهمهم وإنما نكون بحاجة لأن يفهمونا وأن ينتبهوا إلى أننا نِتاج تربيتهم وأفكارهم وتجاربهم"

"ليست هناك شخصية أحادية الجانب"

عن المسلسل، كتب الناقد محمود عبد الشكور: "ليست هناك شخصية أحادية الجانب في 'خلي بالك من زيزي'، ولكنها نماذج إنسانية من لحم ودم، رسمت ملامحها النفسية والاجتماعية بحساسية بالغة، وبتعاطف وتفهم واضحين، شخصيات مليئة بالتناقضات، متغيرة ومتحولة، تكتشف نفسها، وتكتشف الآخرين…"، معتبراً أن المسلسل يتحدث عن "الإنسان مستودع العجائب"، ويسلط الضوء على "ضرورة أن نساعد ونواجه أنفسنا بنفس الدرجة التي نحتاج فيها إلى مساعدة الآخرين". 

وأجمع متابعون على أن في المسلسل "طيفاً واسعاً من المشاعر. غضب أو حب أو كراهية أو رضا أو غيرة أو أي نوع آخر من المشاعر المعقدة التي تلمس القلب بشدّة". 

وتصدر "ADHD" أكثر الوسوم تداولاً في مصر في الأيام الماضية على تويتر. وكتبت شابة مصرية أن المسلسل كان أحد أسباب لجوئها إلى طبيب نفسي، وهو ما دفع أمينة خليل إلى أن تعلّق بأنها "لهذا السبب بالتحديد تمتهن التمثيل".

يبيّن المسلسل أن الأزمات النفسية قد تكون مستترة في بعض الأحيان. لا تتطلب ردود أفعال معينة، ولا تصرفات معينة لكي تُكشف. لولا تقاطع مسار حياة زيزي مع تيتو لما عرفت أنها مصابة بـADHD. الطبيب النفسي، معالج زيزي، هو نفسه يعاني أزمة نفسية، وكأن صناع العمل تقصدوا القول من خلال هذا أنه لا توجد استثناءات لمن يصاب بأي مرض نفسي.

ويشير المسلسل أيضاً إلى أن الأجيال الحالية هي أكثر وعياً مما سبقها في التعامل مع الأولاد وصحتهم النفسية. والداي تيتو، رغم العناء، يحاولان احتواء طفلتهما، وباتا يستمعان إليها ليعرفا رغباتها وما تفكر وتشعر به، بعكس والديْ زيزي، فهي برغم بوحها بمشاكلها، لم تتلقَ سوى التوبيخ، ما جعلها تقول لوالدها قبل أن تغادر المنزل: "معرفش مين اللي وحش. بس اللي أنا عارفاه أنه أنا عايزة أبدأ حدوتة جديدة مبقاش أنا اللي فيها وحشة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard