"والله لسه بدري والله ياشهر الصيام"، أغنية تصدح كلماتها في البيوت والشوارع، ويقول مسلمون مر نصف رمضان الأول دون أن ندري، فكيف جرت أيامه بسرعة البرق، لكن على جانب آخر يستاء مسيحيون تحدثنها إليهم من المشقة الإجبارية المفروضة عليهم في أيام الصوم، ويشعرون بثقل الزمن، وبطئه.
يحكي يوسف سامر (50 عاماً) لرصيف22: "أعود من عملي في إحدى الشركات في مصر الجديدة، إلى منزلي السادسة مساءً، وأعاني في يومي الطبيعي من القلق والنوم المتقطع، لأجد نفسي في شهر رمضان مجبراً على المعاناة بشكل مضاعف، حتى أن أدوية المهدئات باتت غير مجدية".
ويضيف: "كان يمكن أن يكون شهر رمضان مثالياً لو كان الاحتفاء به يأخذ طابعاً اجتماعياً شعبياً، ويؤصل للعادات والتقاليد الفريدة، التي تتمتع بها مصر ، غير أن الممارسات الشائعة تحول دن ذلك، وتحيل الشهر إلى رحلة متواصلة من القهر الممارس ضد الأقليات الدينية".
"ميكروفون واحد لا يكفي"
تتخذ التفاصيل الرمضانية شكلاً مغايراً لدى يوسف، يقول: "صوت المسحراتي الذي لا يهدأ له بال إلا إذا اطمئن على استيقاظ كل النائمين، بقرعات طبلته المدوية التي يجوب بها الشوارع الجانبية، توقظني من نومي العزيز، وإذا كنت أغط في النوم وأفلتت منه فأسمع أذان الفجر الذي يصليه شيخ جامعنا القريب من المنزل بعدما قرر أن ميكروفوناً واحداً لا يكفي، فأحضر آخر منذ اليوم الأول لشهر رمضان، وتضاعف الصوت في شارع ضيق لا يحتمل كل هذا الصراخ، بل يتحول صوته إلى ما يشبه موجات صاخبة تهتز معها شبابيك غرفتي، فأستيقظ لتتجدد معاناتي كل يوم على نفس الحال".
"يتحول مسلمون كثر إلى شرطة دينية في مجال العمل، ولو كل مسيحي وقف ضد هذه الممارسات، وتعوّد المسلمون وجود من يأكل ويشرب أمامهم، لما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن"
يعتبر سامر نفسه محظوظاً كونه من جيل نجح في رسم صورة بذاكرته عن رمضان، لا يزال يتمسك بها لتعينه على تحمل السلوكيات "الداعشية" كما وصفها، دون أن ينهار، يقول: "لدي ذكريات مثالية عن رمضان مثل تجمعات الأصدقاء، والسهر في منطقة الحسين حتى الفجر، وحضور حفلات تواشيح دينية، لكن هذه الذكريات يعكرها تصرف مئات الصائمين الذين يتمسكون بقشرة التدين".
ويضيف: "في القاهرة تغلق المقاهي والمطاعم، والقليل الذي يفتح منها يكون على استحياء وفي الخفاء كأننا مجرمون، هذا بخلاف نظرات التعالي والاستهجان التي قد تصل إلى حد التطاول والتشابك مع كل من يقضم لقمة أو يشرب مياهاً في العلن".
الزمالك حي مهجور
معاناة أخرى تحكيها مارينا عماد تعمل بالشؤون الإدارية للموظفين في إحدى الشركات السياحية بمنطقة الزمالك، تقول: "تتحول منطقة الزمالك الصاخبة إلى أخرى مهجورة في شهر رمضان، لا أماكن نشرب بها مشروباتنا الصباحية المعتادة من قهوة وشاي، ولا مطاعم للأكل".
ما يضايق مارينا، ويشعرها بالغضب فكرة "الفرض" الذي يمارسه مسلمون كثر على من حولهم، ويجعل هذا "أقرب لموظفين بهيئة الأمر بالمعروف"، على حد تعبيرها.
تقول مارينا لرصيف22: "اعتدت التعامل على نحو طبيعي قدر الإمكان في العمل منذ سنوات، على عكس زملائي المسيحيين، الذين يتوارون عن الأنظار لشرب كوب مياه واحد في نهار رمضان كأنهم مجرمون".
تلقي مارينا باللوم على خوف المسيحيين أمام تلك السلوكيات التي تحولت مع الزمن من "هزار ومناغشة" إلى "حق مكتسب، تمارسه الأغلبية المسلمة لفرض الصيام على المسيحيين بالعنوة". بحسب تعبيرها، وتضيف مشدّدة: "لو كل مسيحي وقف ضد هذه الممارسات في مجال عمله، وتعوّد المسلمون وجود من يأكل ويشرب أمامهم، لما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن".
تخبرنا مارينا أن أحاديث المسيحيين في الخفاء حانقة وناقمة على هذا القهر السنوي الممارس ضدهم، بينما في العلن يسوقون لأنفسهم كمن يحرص على مشاعر الزملاء الصائمين.
"أشخاص كسالى"
في الفضاء الإلكتروني، يجد مينا صليب مساحة له للتنفيس عن غضبه، كتب قبل شهر رمضان على صفحته بموقع "فيسبوك" منشوراً طريفاً، لكنه لا يخلو من الغضب، أطلق عليه: "الوصايا الخمس بمناسبة الشهر الفضيل"، وطرح فيه ما يراه أزمات يواجهها كل عام الكثير من المسيحيين، أو غير الصائمين، أبرزها السرعة الجنونية قبيل موعد الإفطار، والحوادث التي تتسبب فيها تلك السرعة.
تحدث مينا عن دافع منشوره الذي وجد تفاعلاً كبيراً معه حتى من المسلمين المحتجين على نفس السلوكيات، قائلاً لرصيف22: "كل هذه السلوكيات تعودنا عليها منذ الصغر، لكن مع الوقت أصبحت تحدث بشكل أكثر فجاجة، وتأخذ شكلاً متطرفاً".
أما "أزمته الحقيقية مع المسلمين الصائمين"، كما يقول، فهي تعطيل العمل، وتحجج الموظفين في أي مصلحة حكومية بالصوم ذريعة للكسل مقارنة بالأيام العادية، يقول: "هناك جملة متكررة نسمعها حتى في المهن التي لا تحتمل التأجيل (تعالَ بعد الفطار)، لنجد أنفسنا على مدار الشهر نتعامل مع أشخاص كسالى، لا يقدرون العمل كفضيلة".
بكرة أول رمضان ان شاء الله كل سنة و حضراتكم بخيرر اليكم الوصايا الخمسة بمناسبة الشهر الفضيل بعيد عن النفاق المجتمعي اللي...
Posted by Mina Salib on Monday, 12 April 2021
نصائح بهائية
وتضيف: "الصورة الإيجابية للشهر الكريم تعكر صفوها شوائب الأفكار المتطرفة، وشعور البعض بتطبيق فرض الصوم على الجميع بالقوة، أو بالتلاسن وإلقاء النظرات الحادة لمن يتجرأ على شرب أو أكل شيء ما أمام الصائمين".
هذا ما وصفته غادة علاء، شابة ثلاثينية، بهائية الديانة، تنقلت بين مصر والأردن والإمارات، تقول لرصيف22: "رمضان بالنسبة لي مميز، يحمل ذكريات لا تفارقني، لكن الأمر في مصر مختلف عن أي بلد أخرى، فكل المناطق والأماكن تعلن عن وجود رمضان".
الشهر الكريم هو فرصة غادة في طفولتها للتساؤل عن الفرق بين الصوم البهائي، ونظيره في رمضان، وكانت تمدها والدتها بالكثير من المعلومات، التي وجدت أن الهدف الروحي منهما واحد وإن اختلف شكل الصيام.
توضح غادة أن الأساس في طقوس الصوم هو إعلاء الروحانية، ودفع الانسان للتفكير في أخطائه، وإعادة حساب الذات من جديد، لكن مؤخراً تراجعت الكثير من الروحانيات لحساب زخم الجانب الترفيهي، ومشاهدات التلفزيون التي زادت عن الحد.
"والله لسه بدري والله ياشهر الصيام"، أغنية تصدح كلماتها في الشوارع، ويقول مسلمون مرت أيامه بسرعة، ولكن مسيحيين تحدثوا لرصيف22، اشتكوا من ثقل وبطء هذا الشهر
ما يثير القلق لدى غادة عدم استيعاب البعض حالة الصيام في رمضان وهي عبادة فردية بين الخالق وربه، لا فكرة إلزام جماعية حتى لمن لا يقتنع بها. تقول: "أشعر بالضيق من الرفض العام لفكرة عدم الصيام، فهناك الكثيرون ممن لا يستطيعون الصوم لأسباب مختلفة إيمانية أو صحية، فأن نجبرهم على ادعاء الصوم أو الامتناع عن تناول ما يحتاجونه بحجة ضرورة مراعاة مشاعر الصائمين فهذا اعتبره تجويفًا لفكرة الصوم الأساسية من مضمونها كونها رحلة إيمانية شخصية لن تفيد الآخرين أو تضرهم في شيء".
تدرك غادة أن الصوم جزء منه خارجي بالامتناع عن الطعام، لكن هذا ليس كل شيء وإلا أصبح نظام تجويع غذائي، أما الجانب الداخلي فهو الأهم، تمرين روحنا على التحكم في غرائزنا، حتى نوازن بين الروحي والجسدي.
لا توجد في مصر إحصائية رسمية بتعداد المسيحيين المصريين، ولكن تقدر الأعداد بحسب قاعدة البيانات لدى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وهي الطائفة الأكثر انتشاراً، بنحو 12 مليوناً، وبحسب تصريحات سابقة للبطريرك الراحل الأنبا شنودة الثالث، فإن هذه الأعداد تقريبية وليست دقيقة لاستحالة الوصول لتسجيل أسماء المواليد المسيحيين أولاً بأول.
أما أعداد البهائيين فهي غير معروفة على الإطلاق، إذ سبق أن صرّح بذلك أمين بطاح، عميد البهائيين في مصر.
وتنظم غادة من أجل ترسيخ قيم القبول واحترام الآخرين مجموعة تدعى "غذاء الروح" تقول: "هي مساحة لمجموعات من أديان وقناعات مختلفة، ناس متدينة من كل الأديان، وآخرون لا يزالون في رحلة البحث عن الإيمان، لكن ما نحرص عليه هو مناقشة الأفكار دون فرض رأي بعينه على الآخرين".
"كان الحديث عن صوم رمضان مطروحاً في مجموعة غذاء الروح، وانتهى النقاش إلى أهمية الاحترام بين المختلفين، وقبول التنوع، والتوصية بضرورة أن يراعي مجتمعنا المصري الفروق بين الجميع، إذ لا يفرض أحدنا على الآخر فكرة ما، ورفض إصدار الأحكام على غير المتدينين، أو استهجان سلوكهم لمجرد أنه لا يتفق والأغلبية"، تقول غادة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...