شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
كيف فرّت

كيف فرّت "أمنا الغولة" من الحكاية الشعبية الفلسطينية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 3 مايو 202110:06 ص

"كان يا مكان في قديم الزمان... هالمرة لا بتحبل ولا بتجيب، وفي يوم مرّ بياع الجبنة، قامت قالت: يا طالبة يا غالبة تطعمني بنت يكون وجهها مثل قرص هالجبنة... الله نطق على لسانها، حبلت وجابت هالبنت وجهها أبيض مثل قرص الجبنة، وسمتها جبينة".

أنا كفلسطينية أعترف أنني ابنة الحكايات، وقصة خيالية مثل قصة جبينة كنتُ أجلس في حجر جدتي وأسمعها في صباحات الصيف الهادئة عشرات المرات. هذه الفتاة التي تحولت من طفلة مدللة إلى راعية أغنام تجسد، بأبسط الكلمات الشعبية، الطفولة العالقة بين أشجار "الدوم"، والبراءة المنتهكَة التي نقلتها من بيت ناعم إلى عالم العراء والخشونة.

تحاكي قصة جبينة نوعاً من البراءة الأدبية والبساطة الحكائية والمعنائية، فلغتها انفعالية، هدفها التأثير لا الحذلقة المفاهيمية. وعلاقتها بالمكان الحر الفضفاض علاقة التحامية، غير خجولة أو منطوية على ذاتها، وإن كانت تمثل قسوة الجبال ووعورة الأرض ووحشة التأرجح بين فضاءين: الأرض والسماء "برعاية أشجار الدوم". هناك مزج شفاف بين الحقيقة والخيال المستقى من الميثولوجيا.

وللحكاية الشعبية في فلسطين قيمة تراثية وهوياتية. ولعل معرفتها وتحليلها، في ظل الحداثة وما بعدها وفي عصر الغزو التكنولوجي، يمثل تشريحاً لحالة المجتمع الفلسطيني على مدار التاريخ، ويفسر التغير القيمي والمفاهيمي لطبيعة الواقع المعيش. فالبطولة في هذه القصص لم تعد بطولة "مغلقة" ترتبط بالدين أو الله أو الأسطورة، أو السحر والشعوذة، في سبيل تقديم النصيحة والإرشاد، بل أصبحت بطولة مفتوحة قادرة على استيعاب أماكن متآخية مع الجمال، مشاعر أكثر رقة، وحوش "كاملين" يخرجون بكسل من تحت الأسرة ولا يركضون وراء الأطفال بأقدام مسلوخة بين الجبال.

للحكاية الشعبية قيمة تراثية وهوياتية. ولعل معرفتها وتحليلها، في ظل الحداثة وما بعدها وفي عصر الغزو التكنولوجي، يمثل تشريحاً لحالة المجتمع الفلسطيني على مدار التاريخ

الحكاية الخرافية في ملعب الأسطورة

يعود أصل الحكاية الشعبية إلى الهند، كما يروي نمر سرحان في كتابه "الحكاية الشعبية الفلسطينية"، فهي بدأت على هيئة قصص بوذية لأغراض تعليمية. انتشرت لاحقاً على يد العرب ثم البيزنطيين إلى أوروبا. إلا أن بحثاً آخر يرى أن الحكاية الشعبية ابنة "شعبها"، تحاكيه وتعبر عنه، فيحررها من "الصندقة المكانية" والخصوصية المرتبطة بأصل معين.

العادات والتقاليد شاركت بمعية الدين والميثولوجيا في صناعة الحكاية الخرافية الفلسطينية الأولى، وصبغتها بألوانٍ "قوطية" مستقاة من طبيعة الأماكن التي نشأت فيها. فهي حكايات بألوان مظلمة، جبلية، مأخوذة من التراب والأرض والفِلاحة، من عالم المشقة، وأبطالها إما أبناء للموت أو للأسطورة التي تخلدهم بعد انتصارهم على الغيلان والوحوش.

الحقيقة أن للغول جذور جاهلية تنتمي إلى العصر الجاهلي الذي أسطَر هذا الكائن الخيالي، فصوره على أنه مخلوق بقوى غيبية، عيونه حمراء متوهجة، صوته كصوت الكلب حين يهم بالهجوم، كائن مهمَل أظافره طويلة وقذرة، كائن ليلي يتوارى في النهار. ولكنه رغم القذارة والتخفي قادر على فعل أي شيء، وكأن الله أودع فيه نفحة من ألوهة منسية، وطبعاً هو نوع من أنواع الجن والشياطين. يقال إن عرب الجاهلية آمنوا به رغم صفاته الخيالية، وانتخبه الوعي شريكاً مُخيفاً في الحكايات إلى الحد الذي جعل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "لا عدوى ولا طيرة ولا غول".

"أبو رجل مسلوخة" هو امتداد مشوه للغول، بتحويرات لا تخلو من شيطنة وصفية، فهو غول نصفه الأعلى إنسان ونصفه الأسفل حمار، بفخذين مسلوخين حمراوين، وله ذيل طويل. لعله ينتمي إلى نوعٍ من أنواع الآلهة في طور نموها وتشكلها خلال عصر من العصور السحيقة. لذا ليس غريباً أن نجد غالبية الحكايات الخرافية تحاكي ما علِق من رواسب في عقول المجتمعات القديمة من إيمانٍ بالأرواح والشعوذة والسحر.

أما حكاية "الرجل والحية"، فيها تتويج لسلطة الأفعى "الملكة" التي تنأى بنفسها عن البشر وحيواتهم بالمكوث في قعر البئر. وتكمن الحبكة في صعوبة الوصول إليها وقتلها؛ لأن في سمها شفاء للملك. تتماهى الأفعى في الخرافة الشعبية مع مفهوم الأفعى في الحضارات القديمة، فهي إلهة، قادرة على شفاء الناس. كما ترمز الأفعى في إلى الحكمة والمعرفة لاستيطانها الأرض، وفي مصر القديمة ساعدت الأفعى الربة "إيزيس" في نقل المعرفة إليها، لذا نرى في نصب قبر الفرعون قصراً يعلوه ثعبان. الحل في الحكاية يفرض على البطل شرب سم الأفعى ليخلد ويحكُم إلى الأبد بدلاً من الملك المريض، وفي هذا إشارة إلى ارتباط الثعبان القديم بالخلود، فالأفعى "حارسة ينابيع الحياة".

ينتصر الفلسطينيون على الظلم عبر الحكاية

لطالما كانت التغطية الأكاديمية من مقالات وأبحاث ودراسات حول الحكاية الخرافية الفلسطينية تحديداً، تغطيةً خجولة، لكننا نستطيع التمييز بين زمنين شكلا فرقاً في صياغة مفاهيم الحكاية القديمة والحديثة من بطولةٍ وشخوص وأحداث وأمكنة. الزمن الأول يتعلق بحياة ما قبل النكبة، والثاني بما بعدها؛ أي فترة الاحتلال الإسرائيلي – النكبة والنكسة. وثمة زمن آخر يزحف باتجاهنا، وهو "زمن الحداثة" وليد التكنولوجيا والإنترنت.

شاركت العادات والتقاليد بمعية الدين والميثولوجيا في صناعة الحكاية الخرافية الفلسطينية الأولى

يقول الأديب الفلسطيني محمود شقير لرصيف22، في حديثه عن تغير مفهوم البطولة: "كان البطل في الحكاية الشعبية القديمة ينهض بوظائف محددة، من بينها حاجة الجماعة إلى الانتصار على الظلم؛ الظلم الذي لا يستطيعون مجابهته على أرض الواقع، فلينتصروا عليه عبر الحكاية. ومن بين هذه الوظائف كذلك الحاجة إلى تحقيق المتعة والتسلية في ظل عدم توافر وسائل أخرى للمتعة والتسلية للطبقات الشعبية الفقيرة في المجتمع. اليوم؛ في العصر الحديث، اختلفت الأحوال. أصبح البطل شخصاً واقعياً طالعاً من أوساط الشعب. وأصبح الشعب قادراً على مقاومة الظلم وعلى التضحية في سبيل حياة حرة كريمة. كذلك؛ لم يعد الناس إلى الحكاية الشعبية لكي يظفروا بالمتعة والتسلية، فقد أصبحوا يعتمدون على التلفاز وعلى اليوتيوب لتحصيل المتعة والتسلية".

أما عن تجسيد بطولة المكان في النص، فيقول شقير: "إنه نابع من الخطر الذي يتهدد المكان الفلسطيني بالمصادرة والاستيطان مرة، وبمحاولات أسرلة المكان وتهويده كما هي الحال في القدس مرة أخرى. لذلك كان من الضروري إبراز صورة المكان الفلسطيني لحمايته من الأخطار التي يمثلها الاحتلال".

تطورت بعض المفاهيم في الحكاية الشعبية بعد النكبة واحتلال إسرائيل لجزء كبير من فلسطين، فحفلت بعض القصص بالخيال لصالح الواقع المشروخ في سبيل إنقاذ الذاكرة الوطنية التي رفضت أن تُترك على أعتاب أبواب منازل صارت ملكاً لغرباء. لذا فهي قصص تميل إلى الملحمية، ولم تعد أماكنها مجهولة بل تفوق المكان على الشخصيات نفسها، استُخدمت أسماء قرى ومدن حقيقية، مثلت الشخصيات حالة الضياع التي يعيشها الفلسطيني، الانكسار، الهزيمة، وتآمرت الأماكن مع التعددية وثارت على مفهوم الوحدة المكانية، فهناك القرية المتروكة، ثم المدينة الغريبة، ثم العراء بحالته الأقسى، فهو ليس مكاناً مؤقتاً يذهب إليه البطل لغايةٍ مؤقتة، بل مكاناً دائماً تُنصب فيه خيام اللجوء. صارت إسرائيل الغولة في جميع القصص، وصار الفلسطيني بطلاً مشرداً يُطهى على نار الخيانة الهادئة.

تطورت بعض المفاهيم في الحكاية الشعبية بعد النكبة واحتلال إسرائيل لجزء كبير من فلسطين، فحفلت بعض القصص بالخيال لصالح الواقع المشروخ في سبيل إنقاذ الذاكرة الوطنية

تحييد الغيلان لسلطة الواقع الفلسطيني

استعان شقير بالحكاية الشعبية في قصته "بقرة اليتامى"؛ إذ يذبح الأغنياء البقرة في ظل احتجاج أصحابها اليتامى، كما استعان بالمرأة الحكاءة في روايتي: "فرس العائلة"، و"مديح لنساء العائلة".

يذكرنا شقير بعمل الروائي الفلسطيني إميل حبيبي، المقتبَس من عالم الحكاية الشعبية، بعنوان "سرايا بنت الغول" فيعلق: "كتبها إميل حبيبي مستفيداً من الحكاية الشعبية التي تقول إن غولاً اختطف بنتاً جميلة لها جديلتان طويلتان، واحتجزها في قصره. وظل حبيبها يبحث عنها حتى عرف مكانها، ثم قامت بمد جديلتها له من نافذة القصر، ما جعله قادراً على الصعود إليها لكي ينقذها من سطوة الغول".

في العصر الحالي، جُردت الغيلان من حُكمها الأسطوري للقصة، لم تعد مُلاحَقة من أحد أو ملاحِقة لأحد، لعلها دُفنت بعد أن أطبق "نص نصيص" الجرة عليها. إلا أن بعض الأساطير المتعلقة بالغيلان والجن وظفت على نحو آخر يتماشى مع طبيعة ما يتعرض له الفلسطيني من ظلم واحتلال، ولم يقتصر الأمر على الرواية فحسب، بل طال الشعر أيضاً.

أشارت دراسة "حضور الحكاية في الشعر الفلسطيني"، إلى توظيف أحمد دحبور لشعرة الجني في قصيدته "الدليل"، ولكنه يخالف فيها المقولة الشعبية في مجيء الجني حين حرق شعرته، واستغاثته للنجدة. مصوراً حالة الإنسان الفلسطيني وما تعرض له من احتلال، إلا أن المخلص هنا ليس "شعرة الجني" وإنما إرادة الشعب، فيقول:

"سيُطلب لحمنا لوليمة الجزار والعاري

ونأخذ شعرة من خصلة الجني

نحرقها ليسعفنا

ولن يأتي سوى الفقراء".

ترك الفلسطيني عُملاء الأسطورة جانباً، لا جان ولا غيلان، تخلى في خطاباته عن الخيال وتآمر مع الحقيقة، كما نرى في قصيدة "مصباح علاء الدين إلى صهباء"، يحول معين بسيسو طائر الرخ إلى إنسان بهوية فلسطينية تنفي الأسطورة وتتخذ من الواقع بيتاً لإنقاذ الحالة السياسية والاجتماعية.

ما بين حنين وليد سيف في أشعاره إلى حكاية "أبو رجل مسلوخة"، وما بين استبدال أحمد دحبور لشعرة الجني بالإرادة، نلمس حضوراً متفاوتاً للتراث يمزج بين الحنين والإستعادة، وبين التمرد والثورة، فيحاكي خطاباً جديداً من إنتاج الواقع الحالي، خطاباً ينتمي إلى القضية الفلسطينية.

سُرقت أمنا الغولة من قعر خيالاتنا ولم تعد تجسيداً لقيم أخلاقية أو قضايا وطنية، وإنما حُشرت داخل جهاز "تابلت" وقناة "يوتيوب"

هل ماتت الغيلان أم استُبدلت؟

في السنوات الأخيرة، طرأ نوع من "التعليب" للقصص الشعبية عامة، والحكايات الخرافية خاصة، بعد ظهور قنوات مثل "طيور الجنة" التي صنعت قصصاً مغناة مستقاة من عوالم الحيوانات بلغة منمقة وحضور لوني قوي يهدف إلى الاستحواذ على البصر بما يلغي القيمة اللغوية/ النصية، إن وجدت. والأسوأ من هذه القنوات رواج "اليوتيوب" والأفراد الذين اعتمدوا الإنتاج الفردي المستقل للأغاني التي تلتزم نسبة معقولة منها بلغة أجنبية كالإنجليزية، مما جعل اللغة العربية أولاً، واللغة المحكية ثانياً تناضل ضد شعورها بالهَجر والإقصاء. فضلاً عن تنشئة هذه القنوات لأطفال بقدرات لغوية محدودة، يعانون تأخراً في النطق ويجدون صعوبةً في التعبير عن احتياجاتهم.

يؤكد شقير أن الغيلان ماتت في مكان، وظلت حية في مكان آخر، مشيراً إلى انتهاء عصر الجدات اللواتي كن يجمعن الأبناء والأحفاد؛ فقد احتل كل من التلفاز وقنوات اليوتيوب الحيز المكاني المخصص لهذا النوع من الأدب. الغيلان الحية في المكان الآخر لم تزل تسف من حبكات الأعمال الأدبية كما قال شقير: "الحكاية الخرافية لم تعد موجودة في التداول اليومي بين الناس، ولم تعد الأجيال الجديدة تعرف شيئاً عن هذه الحكايات. لكن حضورها في النتاجات الأدبية ما زال حاضراً، وأظن أنه سوف يستمر في الحضور. حيث يستلهم الأدباء هذه الحكاية ويستفيدون منها في سردهم الحديث مع قدر من التصرف في مضامينها وفي اجتهاداتها الفكرية والسياسية والأخلاقية".

تغييب الغيلان يشبه غياب الإله والقيم العليا التي حكمت شعوب الحداثة، ولا حاجة لاعتراف جنائزي لن يكلله أحد بالزهور حول تراجع الحكاية الخيالية من عمومية التناقل الشفهي إلى خصوصية حضورها الأدبي. لم نعد نعثر عليها خارج سطور الكتب، لم تعد تعيش ولو بمجهولية في أذهان الأطفال الصغار؛ يسمعون عن الغيلان فلا يخافونها، نحذرهم من "أبو رجل مسلوخة" فلا يفرون منه.

سُرقت أمنا الغولة من قعر خيالاتنا ولم تعد تجسيداً لقيم أخلاقية أو قضايا وطنية، وإنما حُشرت داخل جهاز "تابلت" وقناة "يوتيوب" لترقص على أصداء ألحانٍ مكررة ولغة ركيكة. نحن الآن نعيش زمن ما بعد الحداثة، ما بعد الأسطورة وما بعد الواقع أيضاً. أظن أننا نقلنا الصغار عنوة من عالمِ الخيال إلى فرط المعرفة وبلادة الصورة الملونة والحكاية المترجمة 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image