شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الفقي يتنبأ بالثورة بعد عشر سنين.. ألم تشبع أياماً ومناصب؟ (2)

الفقي يتنبأ بالثورة بعد عشر سنين.. ألم تشبع أياماً ومناصب؟ (2)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 3 مايو 202106:12 م

تلك جوانب من مواقف الفقي قبل الثورة وبعدها، فماذا يقول في مذكّراته "الرواية… رحلة الزمان والمكان" بعد الوقوع الثاني للثورة في قبضة قوى مضادة للثورة؟ من يهتم بعلم الاجتماع السياسي، أو تاريخ الحركات الراديكالية، يعرف غايات الإخوان المسلمين، وأنهم أحد وجوه الثورة المضادة. وكان على الفقي الانتظار عشر سنوات لإدراك ذلك، ففي كتابه تعديل لمواقف، والتفاف على أخرى. روى حكايته مع خيرت الشاطر، منقوصاً منها "أنني أتعاطف كثيراً مع حالة سجين الرأي لأنه يدفع فاتورة موقف فكري معين أو رؤية سياسية". ولم ينسَ "الموقف المتعجرف" للشاطر حين رفض استقبال اتصاله، ثم قال لابنته أن تبلغ الفقي "أن يكون الحديث بالنهار".

بعد زوال حكم الإخوان، حدثت الإفاقة، وأعاد الفقي اكتشافهم، "وفي يقيني عموماً أن هناك مشروعين متوازيين عرفهما القرن العشرين (كذا) منذ بداياته هما المشروع الصهيوني، والمشروع الإسلامي... وكلاهما حمل نفس الصفات، فالمشروع الصهيوني بدأ بهرتزل عام 1897 والمشروع الإسلامي بدأ بحسن البنا عام 1928... وبدأ كلاهما يستخدم العنف".

ومن التعميم إلى التخصيص، قال إن الإخوان "أخطر الجماعات السياسية التي ظهرت خلال القرن العشرين في منطقة الشرق الأوسط". وأضاف أنه لاحظ، بعد سقوط مبارك، "تهديد التيارات الإسلامية للهوية المصرية، وعدم رغبتهم في بناء مجتمع تعددي"، بل إنهم أحرقوا القاهرة في 26 يناير 1952؛ لأنهم "لا يؤمنون بالوطن، وفضلوا عليه الأممية الإسلامية".

قلت إن المؤسسات الدينية والعسكرية والقضائية والدبلوماسية تكره الثورات، وتحتمي بالثورات المضادة. وفي كتاب الفقي يتكرر مرّتين وصفه لإجراء السادات في مايو 1971 بأنه ثورة تصحيح. وفي عدة مواضع يمنح صفة الثورة لما جرى في 30 يونيو 2013، فهي "ثورة الشعب المصري"، "30 يونيو هو ميلاد جديد للأمة المصرية".

ولكن 25 يناير 2011 في الكتاب كله، ابتداءً بالمقدمة حتى صفحة 434، مجرد "أحداث". هكذا يصف الثورة أكثر من عشرين مرة. وأحياناً يسميها "انتفاضة". ولكنه في صفحة 298 يقول: "انتهى المشهد بانفجار المظاهرات في كل أنحاء الجمهورية". ثم يذكر تسمية الشيء باسمه في صفحتي 415 و417: "اندلاع الثورة"، "ثورة الشارع المصري".

قال الفقي إن الإخوان "أخطر الجماعات السياسية التي ظهرت خلال القرن العشرين في منطقة الشرق الأوسط"

الفقي حمّل مبارك مسؤولية "إهدار الفرص، وتجريف الكفاءات، وغياب الرؤية". وفي الكتاب فصل عنوانه "خفايا مبارك وبداية السقوط"، بدأه بالإشادة بالسيسي الذي وضع "في مقدمة اهتماماته القضاء على العشوائيات".

وكانت أسباب الاحتجاجات "شديدة الوضوح في السنوات الأخيرة، ولهذا لم تكن أحداث يناير 2011 تمثل مفاجأة بالنسبة لي"، فما حدث "لم يكن وليد الصدفة"، "كنت واثقاً من أن النظام يتجه إلى نهايته في سنواته الأخيرة، وانعكس ذلك على أحاديثي وتعليقاتي". واتصل به علاء مبارك يوم 10 يناير، ودعاه إلى منزله، وأخبره الفقي بأنه يشعر بسير الدولة إلى المجهول. وسأله علاء عن إمكانية تكرار ثورة تونس في مصر، فأجاب الفقي: "الأمر وارد".

كلام الفقي الآن يناقض تصريحاته حتى اندلاع الثورة. الصمت فضيلة، ولا يليق التنبؤ بالثورة بعد عشر سنوات من قيامتها الكبرى، ووقوعها ضحية موجتين من الثورة المضادة. حين أراد الفقي الانتساب إلى الثورة، كان الاختيار من أعلى. علم بلجنة الحكماء، فطلب إلى أحمد كمال أبو المجد الانضمام.

وذهب صباح الأحد 6 فبراير، وظل منتظراً، حتى أبلغوه برفض دخوله الاجتماع بسبب عضويته في الحزب الوطني. وشعرتْ زوجته بضيقه، فاقترحت النزول إلى ميدان التحرير. وصعد إلى المنصة (في 8 فبراير وليس في 6 فبراير)، "وبدأت أتحدث عن الإصلاح والاستقرار، ومصلحة مصر العليا"، وقوبل خطابه باعتراضات تنتقد وجوده، "ولكنها كانت فرصة عظيمة لمشاهدة الميدان".

حكاية "لجنة الحكماء" وثقتُها في كتابي "الثورة الآن". وقد أصدرتْ (لجنة الحكماء) يوم موقعة الجمل، 2 فبراير 2011، بيانها الأول، وتوالت البيانات ذات الطابع الإصلاحي. في 4 فبراير قرأ أبو المجد في الميدان البيانَ الثالث، وكان سقفه منخفضاً، يريد إمساك العصا من المنتصف، وألا يغضب مبارك إذا تمكن من استعادة السيطرة على الحكم.

وفي 6 فبراير أعلن أبو العز الحريري، من منصة الميدان، أن "لجنة الحكماء" لا تمثل إلا نفسها، ولا علاقة لها بالثورة، وأن المتحاورين مع عمر سليمان لا يمثلون الشعب، وأن الحوار الوحيد المقبول يجب أن يكون حول كيفية رحيل مبارك. وانتهت "لجنة الحكماء" بالفعل، وذهب الفقي بعد انتهاء المباراة.

السلطة والأضواء إدمان، وادعاء الزهد في المناصب تختبره المواقف. روى الفقي استبعاداً مؤلماً ترك "بصمات غائرة"، حين أُبلغ برسالة من سوزان مبارك تطالبه بالاستقالة من المجلس القومي للمرأة، بعد أن كان يقوم "بأية تكليفات تصدر من السيدة الأولى".

الآن، بعد أن قرأنا في هذا المقال جانباً من تصريحات الفقي، في السنوات الأخيرة لمبارك، ما تأثير قوله: "لم أكن أبداً مصفقاً لحاكم"؟

وفي ديسمبر 2003 كان عائداً من الأردن، وفي مطار القاهرة طلب ضابط من المخابرات جواز سفره، بأمر من مدير المخابرات عمر سليمان. خشي الفقي أن يكون طلب الجواز ينطوي على اعتقال أو منع من السفر، فاتصل بسليمان الذي أخبره بأن الأمر يخصّ ترتيبات سفره إلى رام الله، لحضور ذكرى الأربعين على وفاة ياسر عرفات، فقال لسليمان: "لهذا فقط، لقد كدت أفقد الوعي!".

وفي عام 2004 كان الفقي رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في البرلمان، وقرر مبارك إيفاده إلى فلسطين المحتلة، لتمثيل مصر في الاحتفال بمرور 25 عاماً على توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. طلب الفقي إلقاء كلمة، وجاء الرد بأن تمثيله "شكلي فقط"، فرفض وأنقذته آلام ركبتيه، وسافر إلى جنيف للعلاج، "أيضاً كي أبتعد عن الضغوط".

وبعد رجوعه فوجئ بمنعه من الظهور في الإعلام لمدة سبعة أشهر. وبدلاً من الفرح بهذا الاعتكاف القسري، واستثماره في البحث، وإنجاز دراسات مؤجلة، "دخلت في حالة من الاكتئاب كانت الأصعب في حياتي، حتى قدم لي أحد الأطباء علاجاً يساعدني على مواجهته، وما زلت أتعاطاه حتى الآن".

من تجليات الإفاقة اكتشاف أن مبارك كان "لديه شعور بالدونية أمام رجال القضاء"، "كان يُبلّغ بأسماء القضاة الذين أصدروا أحكاماً تتماشى مع سياساته، وكان بعضهم يكافَأ بأن يُعيّن محافظاً، والبعض يصعد دخل مؤسسة القضاء مثل الراحل ماهر الجندي".

ويقول الفقي إن التواضع الفكري لمبارك أدى "إلى أن يغمطني حقي، وأن يتوقف عن ترفيعي لما هو أعلى". ويبدو الأمر أكبر من الحلم بمنصب وزير الخارجية، فهل قصّر مبارك؟ في سابقة، لرئيس ولدبلوماسي، كتب مبارك التقرير السري عن الفقي، ومنحه درجة "ممتاز"، وبهذا التقرير رأت إدارة التفتيش بوزارة الخارجية "ترقيتي استثنائياً لأسبق عشرات الزملاء من الدفعة السابقة لي... وبذلك أصبحت وزيراً مفوضاً".

لماذا، يا دكتور، لا تكتفي بكتابة مذكراتك، شهادتك؟

طقوس الاعتراف والتطهّر أقوى، وأشد تأثيراً في النفوس، من البسالة المتأخرة في الإنكار. الآن، بعد أن قرأنا في هذا المقال جانباً من تصريحات الفقي، في السنوات الأخيرة لمبارك، ما تأثير قوله: "لم أكن أبداً مصفقاً لحاكم"؟

كتاب الفقي يشهد لمبارك الذي كان يأمر بقدوم الفقي من فيينا، لحضور معرض القاهرة للكتاب، "حتى يرى الجمهور العام أن هناك من يستطيع أن يناقش ويحلل الأوضاع محلياً ودولياً من أبناء الجيل الجديد، وليست المسألة حكراً على هيكل وحده... كان هذا تصور الرئيس مبارك آنذاك". والكتاب يزدحم بمناصب ورئاسات وعضوية وفود رسمية، لرجل يقول: "كنتُ ممنوعاً من الكتابة في عام 2008، بسبب انتقاداتي للنظام".

قائد الفريق، الكوتش، يربح بمهارة لاعبيهم، ومن حقه استبدال لاعب بآخر، واستبعاد لاعبٍ فقد لياقته. ولا يضحي السلطان برجاله، فيدخرهم لأدوار بديلة. أُبعِد الفقي عن الرئاسة، فأدار معهد الدراسات الدبلوماسية، وخرج منه سفيراً لمصر في النمسا، وسفيراً غير مقيم في ثلاث دول: سلوفاكيا وسلوفينيا وكرواتيا.

ويخلو كتاب الفقي من عدو. مأساة ألا يكون لك أعداء، أن تكون حياتك ملساء بلا نتوءات، أن تقف على مسافة متقاربة من الجميع، أن تحب عبد الناصر وترى السادات "رجل الدولة الثاني بعد محمد علي". كان متحفظاً على زيارة السادات للقدس، "ولكن عندما أمعنت النظر فيما فعل فإنني أرى قراره تعبيراً عن مدرسة في الوطنية".

لا ينطق الفقي عن هوى، وكلامه محسوب. قد يكون الهوان زلة لسان في تصريح، لا في كتاب يخضع للمراجعة. قال وزير الخارجية محمد العربي للصحفيين في الرياض، عام 2011: "السعودية هي الشقيقة الكبرى لمصر"، فعرضه الهوان لاستنكار يذكّره بأن المملكة لم تبلغ عامها الثمانين، وأن اللقب استحقاق تاريخي لمصر، ولا ينتقص من أشقائها. ويقول الفقي إن العلاقات المصرية السعودية "ضاربة في الأعماق". ربما يعتبر سبعة عقود عمقاً. ويقول: "وقد أوصى الملك عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية أولاده وأحفاده بمصر خيراً". ثم يكرر هذا الكلام الرسولي الذي يوحي بالوصاية، ويدعو إلى الشفقة، في استعارة أو استعادة لزحف عمرو بن العاص بجيشه.

الفقي يمتن للملك فيصل، قائلاً إن رجاله فرحوا بهزيمة مصر عام 1967، فانتفض قائلاً: "هي هزيمة العرب والإسلام، وليست هزيمة عبد الناصر وحده". لماذا، يا دكتور، لا تكتفي بكتابة مذكراتك، شهادتك؟ لستَ مضطراً إلى الافتئات على تاريخ يوثق شماتة فيصل، بقوله لسفير بريطانيا مورغان مان: "لو كنت في مكان اليهود لقمت بما فعلوه بالضبط، ناصر متآمر ضليع وزعيم مزيف".

لم أطلع على نصّ برقية السفير البريطاني، ولكن المرجع يقول إنها في الأرشيف البريطاني بتاريخ 26 يونيو 1967. لعلنا نجد وقتاً للبحث عنها في زيارة إلى لندن. وللقارئ أستعيد قول الإمام النفري: "إنما أحدّثك لترى، فإذا رأيت فلا حديث".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard