بإنشاده العفوي وصوته العذب، كان المسحّراتي في العام الماضي يجوب أزقة وشوارع مدينة إدلب السورية، ومدن وبلدات أخرى في جوف الليل، وقبل أذان الفجر، ليوقظ الناس على السحور. كثيرون كانوا ينتظرونه ليسمعوا أناشيده وصوت طبله، وليروا زيّه الفكلوري الشعبي، كجزء من إحياء للتراث المجتمعي.
كان المسحّراتي يجوب الأزقة ويردد أناشيد رمضانية والنداءات الشهيرة: "اصحَ يا نايم وحّد الدايم" و"يا عباد الله وحّدوا الله".
ولكن رمضان هذا العام اختلف. مُنع المسحّراتية من ممارسة مهنتهم بقرار من مديرية أوقاف إدلب التابعة لحكومة الإنقاذ، وهي حكومة خاضعة لسيطرة "هيئة تحرير الشام"، وذلك بحجة أن عملهم "بدعة لا أصل لها في السنّة النبوية".
"لن تكتمل الفرحة برمضان"
يعمل أبو محمد مسحراتياً منذ عشرة أعوام. يشعر أن وجوده مرتبط بشهر رمضان الذي يغذّي روحه وينعش قلبه، بحسب قوله.
رغم انتشار وباء فيروس كورونا في العام الماضي، لم يتوقف عن عمله في دعوة الناس للنهوض إلى السحور والقيام إلى العبادات.
يتحدث أبو محمد عن مهنته التي يحبّها ويقول لرصيف22: "لا تكتمل فرحة قدوم شهر رمضان إلا بوجود المسحراتي، فهو محفور في ذاكرة الصغار والكبار وهو من التقاليد الشعبية الأكثر شهرة. وفي الأعوام الماضية كنتُ أواظب على إيقاظ الناس ضارباً على طبلي الصغيرة في كل الأزقة والشوارع، أجول مبتهجاً بالشهر الفضيل، ويجتمع حولي الأطفال ليسمعوا أناشيدي وصوت طبلي".
هذا العام، توقف أبو محمد عن عمله في شهر رمضان بسبب خوفه من مخالفة قرار مديرية الأوقاف في إدلب.
يشير أبو محمد إلى مخاوفه من قرار المنع ويقول: "بعد صدور قرار مديرية أوقاف إدلب قبل رمضان هذا العام، اختفت ظاهرة المسحراتية كلياً في المدينة، إمّا خوفاً من عواقب القرار أو درءاً للمشاكل المترتبة على مخالفته".
إبراهيم، أحد سكان مدينة إدلب، يعود بذاكرته إلى أيام الطفولة عندما كان يسمع أناشيد المسحراتي وهو يدق على طبله في زقاق حارته وينهض من فراشه مسرعاً إلى الخارج ليرى زي المسحراتي المزركش وعصاه وطبله.
يروي لرصيف22 كيف كانت ترتسم البهجة على وجهه عند رؤيته: "المسحراتي يذكرني بأيام الزمن الجميل، أيام البساطة والمحبة، ولَمّة الأحباب، وطقوس رمضان الممتعة. كنّا ننهض من النوم ونخرج مسرعين إلى الخارج، عند سماع صوته لنجتمع حوله، ونتلمس ثيابه وننشد معه الأناشيد بكل فرح وسرور".
المسحراتي بحسب قول إبراهيم يزرع السعادة في القلوب بإنشاده وضربات طبله. وفي ظل قرار المنع الذي صدر وغياب المسحراتي عن أجواء مدينة إدلب هذا العام يفقد إبراهيم شيئاً غالي الثمن.
يقول: "لا أعرف ما هي البدعة التي تخالف السنّة النبوية. ما أعرفه أن المسحراتي هو جزء لا يتجزأ من عادات وتقاليد شهر رمضان المبارك، وبغيابه غابت الفرحة وأشعر بالحزن لأنني فقدت شيئاً ثميناً".
"نحن فقط ندعو الله"
يعاني المسحراتي أبو راضي، وهو من سكان مدينة إدلب، أيضاً من تبعات قرار المنع الذي أصدرته مديرية أوقاف إدلب، فمهنته كمسحراتي تشكل مورداً مادياً مهماً له، في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعاني منها السوريون في هذه الأيام.
هذا العام، لن يستطيع ممارسة مهنته التي يحبّها، إلى أجل غير مسمى، على الرغم من أنه لا يخالف شيئاً من السنّة النبوية أو العادات المجتمعية.
يقول لرصيف22: "لا أعرف مدى واقعية القرار الذي صدر، فنحن لا نعمل أي شيء يخالف السنّة النبوية إننا فقط ندعو الله للفرج ونمدح رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بترانيم وأناشيد لإيقاظ الناس ليقوموا إلى الطاعات والعبادات".
"لا تكتمل فرحة قدوم شهر رمضان إلا بوجود المسحراتي، فهو محفور في ذاكرة الصغار والكبار وهو من التقاليد الشعبية الأكثر شهرة"
ويكسب المسحراتي مردوداً مادياً من عمله في شهر رمضان، ويكون في أواخره، حين يقوم بجولة على الحارات والأزقة والشوارع التي كان يمرّ بها يومياً في الليل، ويطرق أبواب المنازل، ويأخذ "عيديّة".
يحدثنا أبو راضي عن كيفية جمعه "العيدية" في أواخر رمضان في الأعوام الماضية، وعن توقف ذلك هذا العام وقطع باب رزقه: "نحن لا نفرض أي مبلغ مادي على أي شخص، ولكننا في أواخر أيام رمضان، نطرق الأبواب معايدين الناس، ومَن يفتح لنا الباب ويعطينا العيدية نأخذها منه، ومَن لا يفتح نكمل طريقنا إلى منزل آخر، أما في رمضان هذا فلم يعد لنا عمل ولن تصلنا أية عيدية من الناس".
وكانت "هيئة تحرير الشام" قد سيطرت بشكل كامل على محافظة إدلب والأرياف المحيطة بها، في بداية عام 2017، عقب تشكّلها من تحالف بين عدة قوى عسكرية إسلامية معارِضة، بينها "جبهة النصرة" عماد الهيئة الأساسي. وفي الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، شكّلت "حكومة الإنقاذ".
وأصدرت مديرية الأوقاف في إدلب، التابعة لحكومة الإنقاذ، قراراً في الخامس من نيسان/ أبريل 2021، جاء فيه أن "عمل المسحراتي في رمضان بدعة لا أصل لها في السنّة النبوية وبناء على ذلك يرجى منكم إلغاء كافة التكاليف السابقة لعمل المسحر".
وفي السابق، كانت مديريات الأوقاف التابعة لوزارة الأوقاف في سوريا تعطي تكاليف لعمل المسحراتية، كنوع من أذونات لمزاولة المهنة، وتقوم بتنظيم عملهم وخاصة في المدن الكبرى، عن طريق تقسيم المدينة إدارياً إلى عدة أقسام، ويُكلَّف كل مسحراتي بقسم، حتى لا يتضارب عمل المسحراتية في ما بينهم.
"مهنة فلكلورية شعبية أصيلة"
على الرغم من قرار المنع الذي صدر، لم تفقد مدينة أريحا جنوب إدلب هذا العام بريق طقوسها الرمضانية، وظلت أناشيد المسحراتية تصدح في شوارعها.
منذ بداية رمضان الجاري، يجول مصطفى أنور، وهو مسحراتي مهجّر من حي القابون، كل يوم ليلاً ليوقظ الناس على السحور، في عدة أحياء من المدينة.
"نحن لا نعمل أي شيء يخالف السنّة النبوية إننا فقط ندعو الله للفرج ونمدح رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بترانيم وأناشيد لإيقاظ الناس ليقوموا إلى الطاعات والعبادات"
شهر رمضان هو "شهر اليمن والبركة"، يقول لرصيف22، ويشكل له "سعادته الأبدية". عن طريق أناشيده وصوته الشجي، يحاول تجسيد روحانية الشهر وإثراء شكله الفلكلوري الشعبي، بالإضافة إلى الترويح عن الناس والتخفيف من همومهم، بحسب قوله.
لم يكترث مصطفى بقرار المنع الذي صدر، فعمله ليس بدعة ولا يخالف الشرع. يقول لرصيف22: "قرار المنع الذي صدر لست ملزماً به، لا من قريب ولا من بعيد. نحن لا نعمل أية بدعة أو معصية. مهنة المسحراتي التي أعمل بها منذ 40 عاماً هي مهنة فلكلورية شعبية أصيلة، وليس لها أية علاقة باختلافات دينية أو مذهبية".
ويتساءل: "ما الذي نفعله خارج إطار الشرع حتى نلاحَق أو نُمنَع، نحن فقط نوقظ الناس على ذكر الله والقيام إلى السحور لتجتمع العائلة على مائدة واحدة، ونقوّي الروابط الأسرية في المجتمع".
قديماً، كان الناس يعتمدون على المسحراتية بشكل كلي لإيقاظهم على السحور، بسبب غياب الأدوات الإلكترونية المنتشرة اليوم، ولكن حالياً ما عاد عملهم إلا مهنة تراثية فلكلورية شعبية، تحيي في ذاكرة المجتمع عادات وتقاليد شهر رمضان.
"يبقى المسحراتي جزءاً من ذاكرة المجتمع في شهر رمضان"، يقول مصطفى ويضيف: "لا تكتمل فرحة الناس بهذا الشهر إلا بمدح النبي صلى الله عليه وسلم، والأناشيد الدينية أعطيها بصوتي وبضربي على طبلي نكهة رمضانية خاصة".
ظاهرة رمضانية أخرى مُنعت بشكل كلي منذ ثلاث سنوات أيضاً من قبل هيئة تحرير الشام في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وهي الأناشيد الدينية التي كانت توضع قبل ساعة من أذان الفجر في إذاعة المسجد، وأيضاً بفتوى بأنها بدعة ولا أصل لها في الإسلام.
عمل المسحراتية، الغائب الحاضر في المشهد الرمضاني هذا العام في محافظة إدلب، بقي محلّ أخذ ورد وجدال ونقاش، في ظل الفتاوى والقرارات التي تصدر من سلطات الأمر الواقع، وهو ما جعله يتوقّف في بعض المدن ويستمر في أخرى.
ويبقى الناس في هذه إدلب بانتظار قرارات جديدة من هذه السلطات، في ظل سياسة ممنهجة لتغيير العادات والتقاليد، وسعي إلى أدلجة المجتمع بالنهج الذي تتخذه هذه السلطات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون