شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الرجل الذي باع ظهره... في المعاينة أو الإبرة إن كلّمت اللحم

الرجل الذي باع ظهره... في المعاينة أو الإبرة إن كلّمت اللحم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 28 أبريل 202111:29 ص

يجمع وزن مُفاعلة في اللغة العربية فاعلان مشاركان في الحدث، وفاعلان له، أي ما يصدر عن الفاعل وينطبق على المفعول به، هو ذاته ما يصدر عن المفعول به ويقع عن الفاعل، كمُشاركة ومشاجرة ومُلامسة. لا تشير هذه الصيغة إلى تساوي الطرفين أو الاختلاف بينهما، أي لا يمكن رصد تفاوت "المتفاعلين" ولو اشتركا في المعنى.

الأهم أن النهاية تأتي لاحقاً، كقولنا، تفاعلا حدّ الموت، أو حتى صار ما صار، فلابد من نهاية لصيغة المشاركة هذه حتى لو كانت تعني تجاوز فاعل للآخر في ذات الفعل، كأن نقول تضاجعا حد النشوة، تقاتلا حد الموت، أو تناظرا إلى حين أبطل أحدهما حجّة الآخر.

لنفترض كلمة مُعاينة، (عاين) فاعل وفاعل آخر، لا فرق بين العيون وإن تبادلت التحديق، وهذا بالطبع أوج الخطأ حتى وإن افترضنا المعنى الحرفي، بالتالي، المعاينة، تفترض فاعلين نعم، وعينين نعم، لكنّ هناك عين كالإبرة، تخرق الأخرى/الثانية التي أيضاً تُحدّق و"تُعاين" بينما تُنتهك، صامتةً أو خاضعةً، بالرغم من مشاركتها في الفعل، واحدة تعرف، والأخرى موضوع المعرفة، وإن صحّ تبادل الأدوار، بقي العنف حاضراً.

2

نتناول هنا حكايتين، وقراءتين متوازيتين لنرصد المعاينة والاختلاف بين "العيون"، الحكاية الأولى عن "الرجل الذي باع ظهره" لـكوثر بن هنية، الفيلم الذي يحكي قصة لاجئ سوري شاب، تحوّل جلد ظهره إلى عمل فني عبر "إبرة" الفنان البلجيكي، ذاك الساخر من "النظام" الفني والسياسي، إنساني النزعة، صاحب سلطة الفن واللاعب ضمنها.

الحكاية الثانية عن مريم الخطيب، المرأة الخمسينية، التي يحكي لنا عنها جوبي واريك في كتابه " الخط الأحمر". مريم اختنقت بغاز السارين في سراقب، بصور أدق، توفيت على الحدود بين سوريا وتركيا بعد تعرضها وأسرتها لغاز السارين عام 2013، كونها انتظرت لساعات قبل دخولها الأراضي التركية لتلقي العلاج، وبسبب التأخير فارقت الحياة على الطريق، وبقيت (ربما إلى الآن) في مشرحة في مشفى في الريحانية، بعد أن "عاين" جثتها المراقبون الدوليون، وأخذوا عينات منها من أجل التحليل وإثبات استخدام الأسد للسلاح الكيماوي المحرّم دولياً.

"الرجل الذي باع ظهره" لـكوثر بن هنية، قصة لاجئ سوري شاب، تحوّل جلد ظهره إلى عمل فني عبر "إبرة" الفنان البلجيكي، ذاك الساخر من "النظام" الفني والسياسي، الانساني النزعة، صاحب سلطة الفن واللاعب ضمنها

بالرغم من الاختلاف الكلي بين السياقين السابقين، لكن في كلا القصتين، هناك طريق ومصاعب وعقبات يواجهها الجسد السوري، المهدد بالعنف السياسي، وفي كلاهما هناك إطار يوضع الجسد الغريب ضمنه كيف ينال تعريفاً: "لاجئ، جثة مجهول سبب موتها، دليل جنائي، عمل فني، علامة على عطب النظام"، تعريفات لا دور للفرد فيها، بل يكتسب هويته عبرها كونها علامات على العنف المطبّق عليه لينال شرعية ما.

في الفيلم، يحضر سؤال شرعية الرحيل أو الحقّ بالنجاة والحياة، ويتم ذلك عبر التحول إلى سلعة فنية قادرة على عبور الحدود، أما في الحكاية الثانية، فهناك شرعية التلاشي أو "الموت"، وفي كلاهما هناك معاينة، فالجثة خضعت لتحديقة 6 مختصين وإبرهم وملاقطهم بعد أن ذاب ثلج البراد عنها، واللاجئ السوري أيضاً خضع لإبرة الفنان وتحديقته ثم أعين الجمهور والمشاهدين، وفي القصّتين تستهدف مساحة العرض العينة، الجزء لا الكلّ، "الـبضعة" بوصفها علامة على عنف خارجي مطبّق على اللحم.

تظهر أمامنا "الإبرة" كجهاز لاختراق اللحم ثم الاقتباس منه أو تحويره، ثم تجهيزه للاستعراض، وكأنها ترسم المساحة التي تحدّق فيها العين لامتلاكها لاحقاً، لينتفي ما حولها، فما يهم هو "صورة" الفيزا على ظهر اللاجئ السوري، والعينات من جسد الجثة السورية، فالإبرة العين إن نظرت، تركت أثراً ذا قيمة أكبر من اللحم نفسه، ومن "الكلّ" الذي تشكل وحدته هوية الفرد، تلك التي تختزل إلى عينات، لا كليات.

ما يهم هو "صورة" الفيزا على ظهر اللاجئ السوري، والعينات من جسد الجثة السورية

المفارقة أنه في كلا الحالتين، هناك تأطير و نظافة شديدة، بياض جدران المتحف يتطابق مع بياض المخبر وصالة التحليل، وفي كلاهما تحضر العينات من أجل أن "نعرف"، كلما رأينا أكثر وأمعنا النظر، كلما ازدادت المعرفة المحكومة بقواعد عين الناظر نفسه، إما لفضح نظام الفن الأوروبي وسياساته، كما في جلد الظهر، أو فضح النظام السوري أمام الأوروبي، أي هناك بُنية تقتبس وتشرعن لذاتها وتفوّقها عبر "العينة" المحفوظة في البلاستيك ووراء الزجاج.

العينة المأخوذة بدقة من أماكن محددة لتكون قابلة للنظر إليها، إي للمعاينة، وتبادل النظر والمعرفة، وهنا يفتضح فعل "المعاينة" نفسه، فالإبرة إن نظرت جرحت وكلمت واقتبست، أما الآخر، من يحدق بعينه فقط، فيشاهد إن تمكن فناءه التدريجي، يفقد جسده وعينه، علاقات أعضاء جسده تتهتك وتتحول إلى آلات لا ترغب. قطع منفصلة، إن نظرت لا طاقة لها على الحديث، وإن تحدثت لا طاقة لها على النظر، وكأن جسداً يعاين كولاج جسد آخر يرغب بـ"الكلّ" المستحيل.

3

نلحظ أن النجاة فرديةٌ "في الرجل الذي باع ظهره"، عمليات التعليب والقياس والاستعراض والبيع والشراء كانت خدعة لأجل نجاة الفرد، اللاجئ السوري الواحد، الحالة التي لا داعي لذكر دور المؤسسات الفنية والثقافية في ترسيخها، تلك التي تختار "عينات" من أدب وفن "الجنوب العالمي" لتؤكد إخلاصها الإنساني، أو استحقاق البعض للنجاة على حساب الآخرين، عينات مختارة لا تدّعي تمثيل الكل، تستعرض لفترة ثم تتلاشى مع انتهاء زمن العرض.

أما في حالة مريم الخطيب فالهدف نظرياً هو نجاة الجميع، "كل السوريين" وحمايتهم من السلاح الكيماوي الذي بالطبع استخدمه الأسد لاحقاً، لكن ماذا عن جثة الخطيب نفسها، مستودع العينات ومحط أعين المختصين، وهل نجا السوريون؟ لا، استخدمت الأسلحة الكيماوية منذ حكاية الخطيب أكثر من 100 مرة لاحقاً.

هنا نأتي إلى ما بعد المعاينة، ذاك "الحد" الذي يفترض النهاية، في هذه الحالة، المصير هو الـabject، التلاشي والنفي، الاختفاء كأمر غير مرغوب به، متروك للزمن وخياراته، إذ يرحل اللاجئ السوري بعد نجاح خدعة الفنان إلى مصيره، وبقيت الجثة في البراد لمصيرها، صاحب الإبرة، الفنان والمحقق الجنائي، ضبطوا القياسات، ونجحوا في أخذ العينات واللعب أو انتقاد "النظام"، ثم انتهى عملهم، ونركز على كلمة عملهم، كونه كأي (جهد) يُنتج فضلات لا بد من إخفائها، ففي كل "معاينة" هناك فناء ما، لحظة ينتهي فيها الحدث و يعود الفاعلان إلى استقلالهما.

4

هذا الما بعد (النجاة، الإدانة، الدفن، الهروب) وما يختزنه من احتمالات تعمي عين صاحب الإبرة، وتفتّح عين "العينة"، الأول يتجاهل وينسى لأنه اكتفى بما يضمن فعاليته وشرعيته، والباقي من العينة وإن اختفى، فيبصر ما هو فيه، نجاته الفردية، ليس إلا جزءاً من المعاينة نفسها، ليترك معلّقاً لاحقاً، كمن في براد مشرحة، لا يعلم إن كان ميتاً أو حياً.

يُطرح سؤال عادةً، بعد مشاهدة المسرحيات التي يؤدّي فيها اللاجئون أنفسهم وأدوارهم، مفاده ما الذي يحصل لاحقاً؟ ما مصير أولئك الذين كانوا لساعة ونيف على الخشبة يؤّدون ويتحدثون عن المصاعب التي شهدوها، والعنف الذي استقبلوه؟ أيعودون إلى منازلهم؟ هل حلت كل مشكلاتهم بعد استعراضها؟

يُطرح سؤال عادةً، بعد مشاهدة المسرحيات التي يؤدّي فيها اللاجئون أنفسهم وأدوارهم، مفاده ما الذي يحصل لاحقاً؟ ما مصير أولئك الذين كانوا لساعة ونيف على الخشبة يؤّدون ويتحدثون عن المصاعب التي شهدوها، والعنف الذي استقبلوه؟ أيعودون إلى منازلهم؟ هل حلت كل مشكلاتهم بعد استعراضها، أم هم كأي عينة، ما إن تنتهي "المعاينة" حتى نعمي أنظارنا عنهم ونتركهم يشاهدوننا نغادر صالة المسرح إلى منازلنا، أما هم، فلا نعلم مصيرهم؟

ربما يعودون إلى معاناتهم اليومية، أو ربما يعودون إلى "الجميع". أولئك المفترض أنهم قدموا حكاياتهم الشخصية لأجل خلاصهم. الجميع، المتشابهون، المختفون الذين لا يبصرهم أحد، أولئك الذين لا يمكن تحويلهم إلى "عينة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard