شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
مانيفستو الوجع أثناء التحديق في سُرّة العالم

مانيفستو الوجع أثناء التحديق في سُرّة العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 8 مايو 202110:12 ص

بُثّ مؤخراً على موقع اليوتيوب عمل "جرعة زائدة: العرض غير المكتمل عن الألم واللذّة"، العرض الذي لا نستطيع بدقة تحديد علامة تجنيسه (مسرحية مصوّرة، عرض مباشر، فيلم تجريبي) نتاج سنة من التأجيلات والجهد وتغيير الوسائط (مسرح، راديو، عمل تجهيز)، ومعاناة البحث عن الصيغة الأنسب لـ"الإنتاج الفني" في ظل الحجر الصحي، فالعرض حسب بطاقته "حصيلة 12 شهراً من التعاون بين ثلاثة كوليكتيفات، ومجموعة متنوعة من صانعي المسرح من سوريا وألمانيا".

تصبير الألم في صندوق شفّاف

الفصل الرابع من العرض المسرحي، معنون بـ"تفريغ الحكايات: عرض الألم والمتعة"، ونشاهد فيه الممثلة أمل عمران التي تؤدي نفسها ودور عرّافة مسرح دلفي، داخل صندوق زجاجي شفّاف، مُحاطةً بالورد، وكأنها تستعد لموتها الرمزي إثر فراغ المسرح من المشاهدين، والعجز عن "إكمال" العرض.

هذه "الصورة" التي تقدمها أمل/عرافة المعبد وتحاكي فيها فريدا كاهلو، تستعيد صورة متكررة من تاريخ الفنون البصرية، لنرى أنفسنا أمام ما يشبه بيان/مانيفستو يعلن أن موت الفنان أو الشكل الفني، مُجهّز، يتم الاستعداد له، ولا يمكن أن يختفي فجأة، كحالة المسرح في زمن الجائحة.

يترافق هذا التجهيز للموت مع الألم، ذاك الذي يسكن أمل التي مازلت تدلل الوجع الجسدي لأكثر من أربعين عاماً، وتستعد في هذا العرض للرحيل أو "إكمال" عرضها الأخير، حسب تعبيرها.

فألمها الذاتي، والألم الذي يستدعيه الشكل المسرحي التقليدي، والتمثيل لتجاوز الألم، كلها تمرينات لأجل هذه اللحظة التي بدأتها أوفيليا، التي غرقت أو انتحرت، وطفت على النهر بين الزهور. هي ضحية هاملت، واحد من ملوك مسرح البطل الواحد، الذي تحمل المسرحية اسمه، ذات الصورة استعادها لاحقاً، في منتصف القرن التاسع عشر، جون إيفيرت ميلياس، في لوحته التي تحمل اسم أوفيليا، ذات الوجه المبيض، التي قررت الموت بطريقتها بعد الخذلان الذي أصابها.

"جرعة زائدة: العرض غير المكتمل عن الألم واللذّة"، عرض لا نستطيع بدقة تحديد علامة تجنيسه (مسرحية مصوّرة، عرض مباشر، فيلم تجريبي) نتاج سنة من التأجيلات والجهد وتغيير الوسائط ومعاناة البحث عن الصيغة الأنسب لـ"الإنتاج الفني" في ظل الحجر الصحي، و"حصيلة 12 شهراً من التعاون بين ثلاثة كوليكتيفات، ومجموعة متنوعة من صانعي المسرح من سوريا وألمانيا"

موت لم يره أحد حتى في نص شيكسبير، بل سمعنا عنه على لسان الملكة غيرتوود. موت بلا جمهور ولا منتحبين، الأمر نفسه يتكرر مع سارة بيرنهارت، الممثلة الفرنسية، التي كانت تتمرّن على الموت كل ليلة، تستلقي في تابوتها محاطة بالزهور، وخلدت صورة موتها بالشكل الذي تريد، وكأن فنون الاستعراض تختار موتها الـ"مُمسرح" بالصورة الأكثر شعرية: رحيل رمزي يختتم سنوات الألم والصراع.

اخترنا البدء بهذا الحدث/ الصورة على الخشبة في محاولة لفهم الصيغة التي يتبناها العرض، فنحن أمام صناع مسرح تلاحقهم الكاميرا التي يدركون وجودها، ويؤدون أمامها أنفسهم وأدوارهم، كاميرا ترصد "اللا اكتمال"، والعجز عن إتمام "العرض"، ذاك المليء بالعلامات التي تخاطب تاريخ المسرح وما يحصل الآن.

والأهم، هناك محاولات للتبشير بمسرح جديد ما زال قيد الولادة، فالمربع الشفاف في منتصف الخشبة الفارغة، هو "سرّة العالم" التي سنعود إليها لاحقاً، ومنه بدأت رحلة أوديب تحت إمرة العرافة، التي نتوهم أنها تخضع لأبولو لتلبي تصورات المشاهدين الغائبين في هذه الحالة، فلا أجساد حية من لحم ودم تشاهد.

أما المؤدون/ اللاعبون الذين يشكلون عناصر الفن المسرحي "الكاتب، الموسيقي، السارد والتشكيلي"، فهم بلا وظيفة، حرفياً ومجازياً، كل في حجرته الشفافة يحاول التسلل إلى سرّة العالم. هؤلاء يستقبلون ضيوف المسرح في محاولة لفهم ما يحصل والإجابة عن السؤال الذي يتردد في أذهان الجميع: هل تلاشى الفن المسرحي؟ لم نعجز عن إنهاء المسرحية؟ والأهم، لماذا نحن بلا عمل؟

 المؤدون/ اللاعبون الذين يشكلون عناصر الفن المسرحي "الكاتب، الموسيقي، السارد والتشكيلي"، فهم بلا وظيفة، حرفياً ومجازياً، كل في حجرته الشفافة يحاول التسلل إلى سرّة العالم

يتكرّر على طول الفصول الأربعة للمسرحية إشكالية تشغل بال الجميع: "ما العمل؟"، بكل ما يحمله هذا السؤال من تواريخ ومعان. فهناك مشكلة في المسرح الآن تساءل الشكل الفني وتهدد العاملين فيه، والسبب هو "الحدث الاستثنائي" المتمثل بالوباء وإجراءات الحجر الصحي التي ضربت جوهر فن الاستعراض نفسه، بل نفته، إلى حد أن مغني أوبرا تحول إلى بائع عطور "طبيعية" و"فرنسية" و"مصنّعة من زجاج بيروت المحطم".

النموذج الأمثل على الرجل الأبيض الجديد، الذي يظهر كأوديب آخر، أو أوديب ما بعد أوديب، ذاك الذي لا يعرف عن نفسه شيئاً، الطاغية، صاحب جواب الأحجية، قاتل السفينكس، والأهم الرجل، ذاته، منذ أكثر من ألفي عام، مزيج الهويات الجديدة، يرتدي حذاء نسائياً بكعب كريستيان لوبوتان مع ذلك، بشارة المسرح الجديد معطّلة، لا مسرح بدون جمهور، فقط آهات الفنان وهوياته المزعومة.

صورة الفنان في معاناته

إن كنا كظاهرة بشرية أمام موت للمسرح التقليدي، ومحاولات بعث لآخر، ففي العرض نحن أمام "شدّة النزع"، مرحلة ما قبل الموت وما بعد الحياة، مكان معلّق يتأمل فيه كل واحد من صناع المسرح في ذاته وأدواته الفنية مع شعور مُطلق بالعجز أمام المربع الشفاف الفارغ، الذي يحدق فيه كل واحد منهم من صندوقه الصغير، ثم يتلمسه في محاولة للانتقال من "أناه" الشخصية إلى "الأنـا-وات المسرحية".

لكن الاستثناء عطّل هذا الانتقال، فالقرار السيادي بأن علينا ألا نكون "معاً"، يترك كل واحد غارق في جسده "الممثل"، أو ورقته "الكاتب"، أو آلته "المؤلف"، أو لوحته "الفنان"، كل واحد منهم يحاول الانهماك في شغفه ومهنته لكن دون جدوى، فلن يأتي أحد، إذ تصرّح أمل عمران/ كاهنة دلفي، بوضوح وصوت عال، أننا لسنا في مسرحية لصموئيل بيكيت، كوننا نمتلك اليقين بأن أحداً لن يأتي، بالتالي، هم لا ينتظرون، ليسوا عشاقاً ولا عدميين، بل فنانين منهمكين في التحديق بسرتهم، حسب ما يشير له العرض حين يسمّي خشبة المسرح "سرّة العالم".

كل واحد منهم يسائل حفرة مسدودة تميز جسده وانتماءه للثدييات، والأهم تحرك فنه وذاته المختلفة وأهوائه، لكن لا يوجد أي جمهور، لينتهي بهم الأمر جميعاً، عاجزين عن الفعل في الصندوق الشفاف، أسرى سرّة العالم، يتأملون تاريخها وأحلامها دون أن يراهم أحد، أسرى سرّة/ مسرح تعطلت وظيفتها في توليد الأحلام بسبب الاستثناء.

يظهر عرض "جرعة زائدة: العرض غير المكتمل عن الألم واللذّة"، كمحاولة أخيرة قبل الرحيل، تنسيق لمكونات المسرح وما يحويه ضمن تجهيز أخير، يحبس فيه صنّاع المسرح رموزه وآلامهم الخاصة في علبة شفافة دون أن يسمع أحد، لتبتلعهم سرّة العالم ويغمرهم اللامعنى فيها

سُرّة العالم، وسُرّة الفنان، حُفرٌ مسدودة لا تبشر بهاوية، التأمل فيها يكشف عن مقدار الشلل الذي أصابنا كأفراد، والأهم، يهدد فردانية الفنان التي تتشكل أمام "الأعين"، تلك الفردانية التي ترى أن الحدث الاستثنائي كالوباء، لا يجب أن يؤثر عليها.

لكن، وهنا سطوة الاستثناء، ما حدث ويحدث يضرب عميقاً في الظاهرة البشرية، فقوانين الطوارئ تعطل الاكتظاظ والاجتماع والتجمهر والتكاتف والاشتباك، كل ما يقوم على "الجمع" يتفكك، ليحدق كلّ في سرّته، كحالة الفنانين العالقين في "أنفسهم" دون أن يراهم أحد، مُحرومين من متعة أن يشاهَدوا وغارقين في آلامهم الشخصية.

وهنا نعجز عن التأويل، فالسرة والتحديق بها كما الحلم، أو بصورة أدق، كما في أبعد نقطة في حلم، مكان يُعطّل عنده التأويل والتفسير، ويتفعل الهذيان حسب سيغموند فرويد الذي أشار لهذا الأمر للمرة الأولى في حاشية من كتابه "تفسير الأحلام"، ونقصد هنا نسخة الكتاب الكاملة، لا تلك المختصرة.

أسرى السرّة، أي أسرى الهذيان، والأهم، أسرى اللاعمل، فلا آخرين نتمايز عنهم، ولا جمهور لتوليد إشباع آني نتاج التحديق، هنا يظهر العرض كمحاولة أخيرة قبل الرحيل، تنسيق لمكونات المسرح وما يحويه ضمن تجهيز أخير، يَحبس فيه صناع المسرح رموزه وآلامهم الخاصة في علبة شفافة دون أن يسمع أحد، لتبتلعهم سرّة العالم ويغمرهم اللامعنى فيها.

لكن، كيف "يكتمل" العرض؟

يتحرك مفهوم "غير المكتمل" طوال فصول العرض الأربعة، سواء كان يستهدف بناء العرض نفسه أو الحكايات ضمنه، لكن هذا لا يعني غياب الصنعة أو الانضباط أو الاتقان، بل هي إشارة إلى ما هو ناقص، عطب جوهري في "العالم" كشفه الاستثناء، وجد الفنانون أنفسهم بمواجهته دون يقين حول سببه.

ربما، وبصورة أخرى، الآلام والمعاناة الشخصية لكل فنان تتلاشى أمام سطوة الاستثناء الجمعية، فقلق الهوية لدى المؤدية بيان، ورغبة أمل بتجاوز الألم، وبحث المخرج عن مسرح جديد، كلها تساؤلات شخصية تتقاطع على الخشبة عادة في سبيل الوصول إلى نتيجة أو يقين ما، لكن المفاجأة أننا في ظل الاستثناء نتشابه، أي تتقارب أدوارنا حد التطابق.

الاختلاف أن ألم الفنان تحيط به هالة من نوع ما، كونه يتبنى أدوات جمالية ليخبرنا عن هذا الألم الذي إن اشتد، تلاشت اللغة وعوّضت بالصراخ.

وهنا يظهر ما يثير الاهتمام، إن كان الواحد منا، فناناً، أو شخصاً، أو كلباً يتألم دون أن يسمعه أحد، أي إن كان يحدّق في سرته دون جدوى ودون لفت أي انتباه، ألسنا بالتالي أمام مواجهة دائمة مع هذا العطب العميق في الظاهرة البشرية، ذاك الشق في البناء الذي يتحدث عنه صناع العرض، العيب الذي يصفعنا دوماً ويخبرنا أننا دون ألم مسموع قد نتلاشى، ذاك الألم الذي يهدد "أنا" أمل وتتجاوزه عبر التمثيل، وكأنها في كل مرة تظهر على الخشبة تخبرنا بأنها تتألم.

لكن، إن لم يأت أحد، ولم يكتمل العرض، فأمام من نتألم؟ من يسمع آهاتنا الكونية؟ الأهم، إن كشف الاستثناء هذا العطب بوضوح، فكيف "نكمل" حيواتنا؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard