ما يميز الفيلم الوثائقي "ناطرين فرج الله" من إخراج نضال بدارنة، الحائز على تنويه خاص من لجنة تحكيم مهرجان أيام السينما الفلسطينية لهذا العام، "جائزة طائر الشمس"، هو كونه يدمج بين نوعين من أنواع الفن: السينما والمسرح. فالفيلم يتناول حكاية فرقة مسرحية "مركز محمود درويش" في قرية العرابة، أثناء فترة التحضيرات والتدريبات، ومن ثم العروض التي أقامتها الفرقة لمسرحية تحمل نفس عنوان الفيلم، ناطرين فرج الله، كاقتباس من مسرحية "في انتظار غودو"، للأديب الإيرلندي صمويل بيكيت. غالباً ما تقدم الأفلام من هذا النوع، والتي تدمج المسرح والسينما، جرعة فنية مميزة للمشاهدين، سواء على مستوى الموضوعات أو الجانب البصري أيضاً.
الجانب الآخر المهم في هذا الفيلم، هو مدى قدرة صانعه وأبطال فيلمه أي الفرقة المسرحية، على استخراج التأويلات الملائمة والإسقاطات المناسبة من نص "في انتظار غودو"، لتلائم الواقع الفلسطيني في جوانب الحياة الاجتماعية، الثقافية وكذلك الاقتصادية. وقد نجح الفيلم في الربط بين عدد من الموضوعات التي تناولها نص بيكيت، وبين الموضوعات والقضايا المتعلقة بواقع حياة أعضاء الفرقة خاصة، والواقع الفلسطيني عامة.
غودو هو فرج الله
منذ صدورها في العام 1948، تتالت المحاولات النقدية للإجابة على سؤال خاص بمسرحية بيكيت، وهي تلك المتعلقة بتحديد ماهية غودو، الشخص المنتظر على طول مدار النص، من قبل الشخصيتين الوحيدتين في المسرحية. البعض رأى فيه تعبيراً عن الله، التغيير، الخلاص، أو عن العدالة الغائبة والمنتظرة. هكذا تعددت التأويلات في تعريف غودو. يقترح فيلم نضال بدارنة أنه علينا اعتبار المنتظر هو الفرج أو الخلاص، بالإضافة إلى أن "فرج الله" تعني باللغة المحكية الخلاص، فهو كذلك اسم علم، تماماً مثل غودو.
مخرج الفيلم نضال بدارنة
الانتظار في المسرحية والفيلم
منذ اللحظات الأولى في الفيلم، تظهر تيمة الانتظار، حيث يفتتح على مشهد مصورين في حالة انتظار على سفح تلة تطل على قرية "العرابة"، يحملان كاميرا ومعدات الصوت لتصوير المشهد. ينتظر المتفرج مع صانعي الفيلم اللحظة المناسبة لبدء التصوير، لكن أصوات الجوامع القادمة من القرية تصعّب إمكانية التصوير، الجامع يعلن عن عشاء عرس سيقام الليلة ويدعو سكان القرية إليه. المصوران يضطران إلى إعادة التصوير مرة تلو الأخرى، والمشاهد ما يزال ينتظر بداية الفيلم.
في المشهد التالي نتعرف على مخرج المسرحية، محمود أبو جازي، الذي ذهب في شبابه إلى اليونان لدراسة الحقوق، لكنه عاد بشهادة في المسرح، وهو يعمل حالياً في مركز محمود درويش، في برامج تشجع الشبان والشابات على تطوير المهارات المسرحية. تأخذنا كاميرا الفيلم إلى منزله، حيث ندخل غرفة فارغة إلا من خزانة بيضاء صغيرة، يشرح عنها أبو جازي: "هذه الخزانة تحوي كل كتب المسرح اليوناني، ونصوصاً أخرى من تاريخ المسرح. لكني أتركها هنا، الباب مغلق عليها، كي لا أرى العناوين، لأن قراءة العناوين ورؤيتها مؤلمة بالنسبة لي"، من هنا نتلمس واقع الإنتاج المسرحي في فلسطين الـ48، الذي لا يلبي طموحات هذا العاشق للمسرح.
من مفارقات الانتماء التي يعيشها فلسطينيو الـ48، هناك الشاب الذي يحلم أن يصبح لاعب كرة قدم، لكن لا خيار له سوى اللعب في المنتخب الإسرائيلي، حكاية أخرى عن مشاركة فرقة الدبكة في "مركز محمود درويش في العرابة"، في مهرجان عالمي، حيث كل فرقة حملت علم الدولة التي تأتي منها، وبينما أصابت الحيرة فرقة دبكة العرابة: أي علم سيحملون؟ فقرروا أن يحملوا علم البلدة فقط، علم بلدية العرابة...
الانتماء
يتطرق محمود أبو جازي أيضاً في أكثر من شهادة في الفيلم إلى موضوع الانتماء، بالمقارنة مع المجتمع اليوناني، الذي يقول عنه: "الانتماء الذي شعرته للمجتمع اليوناني كان أقوى، رغم أنني هنا في وطني"، ويتحدث عن الاحترام في تعامل المؤسسات، الوزارات، والجامعات اليونانية مع الفنان المسرحي، وكيفية تشجيعه والتفاعل معه. لا شك أن موضوع الانتماء هو واحد من موضوعات مسرحية بيكيت، فالشخصيتان الأساسيتان (فلاديمير وأستراغوان) مهمشان يعيشان في حالة عزلة واغتراب عن الواقع الاجتماعي حولهما، وهذا تماماً ما نشعر أن المخرج يحاول توصيفه في الحديث عن الانتماء والاغتراب. يقول: "العبث أن تشعر بالانتماء إلى مجتمع اليونان، وحين ترجع إلى وطنك تشعر بأنك لست صاحب المكان".
في التدريبات المسرحية، يرافق الفيلمُ المخرجَ وفريقَ المسرحية في الكواليس، نسمع المخرج محاولاً تشجيع الشبان والشابات الهواة على تقديم أداء مسرحي يمتعهم قبل أي شيء، ويطلق قدراتهم بحرية: "المهم أنتو تسعدو بالعرض وتحلقو بحرية"، ومن ثم يقدم لنا الفيلم مشهداً من المسرحية، حيث الشخصيتان الرئيسيتان (ابراهيم نعامنة، عماد صح)، يتوسطان قعوداً خشبة المسرح الفارغ من حولهما، في تجسيد لفضاءات عوالم بيكيت، ويدعوان بطريقة هزلية تهكمية تضحك الجمهور للحصول على الرزق، الحظ الجيد والمال، يقول الأول: "يا رب ارزقنا، افتحها بوشنا، بدنا مصاري"، بينما يردد الثاني من خلفه بكلمة واحدة فقط تدمج الدعاء بالتهكم: "آمين"، ثم يقرران أن عليهما الانتظار أكثر.
يستخدم الفيلم صالات التدريب المسرحي ليجعلها فضاءً لتصوير شهادات شخصيات الفيلم. في هذه الصالات المليئة بالمرايا، نتقرب من شخصية الممثل (ابراهيم نعامنة)، تتألف عائلته من خمسة أخوة ذكور، توفي والدهم منذ سنوات، وقد اهتمت الأم بتربيتهم. ابراهيم على وعي بالتضحيات التي قدمتها والدته وهو يظهر في الفيلم كل التعلق بها، يؤدي أغنية بمرافقة البزق يهديها لوالدته. يطلعنا ابراهيم على أحلامه الخاصة، من خلال الإفصاح عن رغبته بالزواج، لكن صعوبات السكن هي التي تواجهه، فالحكومة الإسرائيلية تحجب رخص العمارة عن فلسطيني الـ48، ما يعيق إمكانية بناء منازل جديدة وبالتالي تأسيس عائلة.
رغم كون المشاركين في العرض المسرحي من الهواة، إلا أننا نتلمس وعيهم في مضامين المسرحية التي يستلهمونها من "في انتظار غودو"، يقول الممثل عماد صح: "مسرحية عن شخصيتين تنتظران ما لا تعرفان. هي نقد اجتماعي ساخر لحال البلد، ولوضع الإنسان في منطقتنا"، ويشبّه ابراهيم نعامنة مسرحية "ناطرين فرج الله"، بأمثولة شعبية كان يرددها والده: "يلي خلق علق، ويلي بعدو بيستنا وعدو".
بين الشهادة والأخرى يتخلل الفيلم مشاهد من العرض المسرحي، ماتزال الشخصيتان على المسرح تتحاوران، في مشهد ساخر عن شح الفرص وأشكال الدعم:
"بدك ياني روح للناس واشحد؟
آه.
لاء.
لكن؟
إذا الناس بيجوا لعندي بيعطوني ممكن أقبل.
آه، يا ويلي الناس هاجمين علينا ليعطونا مصاري. أرجوكم الاصطفاف. رح ناخد مصاري من الجميع، لا ضرورة للتدافع".
عماد ياسين، أيضاً من أعضاء الفرقة المسرحية، يعمل في توزيع الخبز بالإضافة إلى 3 أشغال أخرى. تقل فرص العمل بالنسبة لفلسطيني الـ48 في إسرائيل، أكثر من شهادة تؤكد اللامساواة وتفضيل اليهود في أية وظيفة. عندما حاول أخو عماد التقدم للعمل كمتطوع في الشرطة، سأله المشغلون: "عندما تموت ستحصل على تعويض 2 مليون شيكل، لمن ترغب إعطاء المبلغ؟"، أجاب الأخ: "لغزة"، فتم طرده من العمل.
تمييز في الدعم والإنتاج المسرحي
في أحد المشاهد، يشارك معظم أعضاء الفرقة في حديث عن المقارنة بين الإنتاج المسرحي المخصص لفلسطيني الـ48، والإنتاج المسرحي الإسرائيلي، حيث تتوافر للفرق الإسرائيلية ميزانيات دعم مسرحي كبيرة، ما يمكنها من تقديم أربعة عروض خلال العام الواحد، وبميزانيات إنتاجية تؤثر على نوعية العرض المسرحي المنتج، ليس لدى فلسطيني الـ48، نفس مقومات الدعم المادي.
تكثر الحكايات التي تثبت مفارقات الانتماء التي يعيشها فلسطينيو الـ48، هناك الشاب الذي يحلم أن يصبح لاعب كرة قدم في المنتخب، لكن لا خيار له سوى اللعب في المنتخب الإسرائيلي، حكاية أخرى يرويها المخرج أبو جازي عن مشاركة فرقة الدبكة في "مركز محمود درويش في العرابة"، في مهرجان عالمي، حيث كل فرقة دبكة حملت علم الدولة التي تأتي منها، وبينما أصابت الحيرة فرقة دبكة العرابة: أي علم سيحملون؟ فقرروا أن يحملوا علم البلدة فقط، علم بلدية العرابة.
في المشاهد النهائية يقدم المخرج أبو جازي قراءات من قصيدة "مديح الظل العالي" للشاعر محمود درويش، يختم فيها الفيلم بما تحمله من دلالات تشمل جوانب التمييز، المعاناة، والتهميش المختلفة التي يعيشها فلسطينيو الـ48، وخصوصاً من يعمل في المجال المسرحي: "هم يسرقون الآن جلدك، فاحذر ملامحهم وغمدك، كم كنت وحدك يا ابن أمي، يا ابن أكثر من أبٍ، كم كنت وحدك"، ربما أيضاً ينطبق توصيف قصيدة محمود درويش على شخصيتي مسرحية بيكيت، فلاديمير وأستراغون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...