شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
إنه وهم لذيذ... أن أكون

إنه وهم لذيذ... أن أكون "روبيرت ماك كول" السوري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 16 أبريل 202102:13 م

"عندما تصلي من أجل أن تُمطر، عليك أن تتعامل مع الوحل أيضاً"، ما يزال صدى هذه الجملة التي قالها الممثل "دينزل واشنطن" من خلال شخصية "روبيرت ماك كول" في فيلم "The Equalizer" يتردد في لا وعيي. ويعلو ضجيجها كلما انتابني السأم من أنني لا أستطيع إنقاذ نفسي، أو أي أحد آخر، من الغرق المستمر في وحل المعيش السوري. لذا فإن رغبتي أن أصبح مثل ذاك البطل تنتعش مِراراً من عَزْم القهر والغضب الدفين والصرخات المكتومة بسبب طوابير الذل اليومية، وتقنين الأكسجين وسَجن الطرقات وتجريم الأمل والإمعان في الإيلام، وغير ذلك الكثير. بحيث أتمنى لو أستطيع تمثل أفعال شخصية "ماك كول"، التي نبذت عنف ماضيها، وآثرت عليه السكينة. لكنها عادت إليه بحكم الضرورة، لنصرة المستضعفين، و"قصيري الحَرْبَة" كما يقال، ومن أجل إحقاق العدالة وتقويم الخلل، مستفيداً من خبرته في التحري، إلى جانب ذكائه وسعة معرفته، وفضلاً عن كفاءته القتالية العالية، وفوق ذلك، من إيمانه بمقولة "مارك توين" التي جاءت في سياق الجزء الأول لفيلم "المُعادِل": "إن أهم يومين في حياتك، هما: يوم مولدك، واليوم الذي تعرف فيه لماذا وُلدت".

رجل على يقين بأنه جاء إلى هذا العالم لإحقاق الحق يُشبهني في الصميم، بحيث لا يُصبح لون البشرة حاجزاً بيني وبينه، حتى دفْنه لماضيه الآثم بادعاء موته أمام الجميع إلا صديقة واحدة، لن يكون له ذاك الأثر الكبير. فأنا أيضاً من جماعة "الموتى الأحياء"، مثلي مثل كثير من السوريين الذين استعصى الموت عليهم، وكذلك الحياة. فباتوا "يعيشون موتهم" بصيغة المضارع المستمر. أضف أننا نتشابه في حيثية مهمة، فلا سبيل لكلينا إلى سكينة الروح في ظل هذا الظلم المستشري، في كل تفاصيل الحياة. ولجوؤنا إلى القراءة، كحيلة في مداورة الألم، تدفعنا دائماً إلى "البحث عن الزمن الضائع" الذي تحدث عنه "مارسيل بروست" في روايته الأثيرة التي نحبها كلينا، رغم أنني واثق من أن زمننا السوري أكثر ضياعاً، ومُغمس بالهباء، بحيث لا تكفيه سبعة مجلدات لتلمس ملامحه العامة وحدها. كما أن حبكة حاضرنا لن تخطر على بال "بروست" بجلال قدره، فكيف بكاتب السيناريو الهوليوودي "ريتشارد وينك".

أنا أيضاً من جماعة "الموتى الأحياء"، مثلي مثل كثير من السوريين الذين استعصى الموت عليهم، وكذلك الحياة. فباتوا "يعيشون موتهم"

ما علينا، المهم أن رغبتي في أن أكون "ماك كول السوري" تتعزز كل يوم، على الأقل في خيالي، الذي يُدوزِن حركة كاميرته وزواياها وحجم لقطاتها بشكل أفضل مئة مرة من مخرج الفيلم الأمريكي "أنطوان فوكوا"، لا سيما في المشاهد التنبؤية بحركة الخصم، وآلية ضبط زمنها، وما هي الأدوات التي سأستفيد منها في الإطاحة به. وعلى سبيل المثال، عندما مررت من أمام كازية "نهر عيشة" في دمشق، ورأيت الطابور الممتد لحوالي 2 كيلو متر حتى منطقة "البوابة" في حي الميدان، والسائقين المتذمرين من أن دورهم لا يتقدم بسبب الرشاوى والمحسوبيات التي تتم بالتواطؤ بين مسؤولي أمن الكازية وعمالها، وبين رجالات الأمن الآخرين، مع تغاضي شرطة المرور عن الاختناقات المرورية التي تسببها تلك التجاوزات، لمحت القهر في عيون السائقين الذين ليس بيدهم حيلة تجاه هذا الوضع المقيت، والظلم السافر. صورت المشهد لأمتلك وثيقة دامغة عن الفساد. وخدمتني الصدفة بتسجيل العشرة آلاف ليرة وهي تتسلل إلى يد عامل الكازية البدين، ليتيح لمانحها أن يتجاوز الدور وعناء الانتظار المديد. حينها ذهبت إلى حيث تلك الجمهرة من الفاسدين، وقلت للمرتشي وزملائه بأنني سأمنحهم ما يكسبونه من تحت الطاولة، شريطة أن يجعلوا الدور يمشي بنظام، كما فعل "ماك كول" عندما دفع مدخراته لمدير إحدى العصابات التي تتاجر بأجساد الفتيات وأرواحهن مقابل أن يدع إحداهن وشأنها. وعندما رفض، فعل البطل مهاراته القتالية وأنجز مهمته وقضى على أرواح الفاسدين. بالنسبة لي عندما تمنّع المرتشون عن عرضي، لم أجد بُداً من تحطيم أنف العامل البدين وكسر يده التي استلم بها النقود. وما إن هجم زملاؤه لمناصرته، حتى قمت بتكويمهم بدل الحاجز البلاستيكي، بحيث تعطل مرور الطابور الاستثنائي. وعندما همّ أحد المُسْتَقْوين بتصويب مسدسه نحوي، خلصتُه ما بيده، واستعنت ببطاقته الإلكترونية الخاصة بتعبئة البنزين، في قطع شريانه السباتي. وأجبرت مرافقه بإبعاد سيارته، وبسبب الصدمة التي أحدثتها لدى متجاوزي الدور، قاموا بالانسحاب تدريجياً وفسح المجال للسائقين المنتظرين بأن يمروا بسلام إلى داخل الكازية وأن يُحصّلوا حاجتهم بنظام.

قلت للمرتشي وزملائه بأنني سأمنحهم ما يكسبونه من تحت الطاولة، شريطة أن يجعلوا الدور يمشي بنظام، كما فعل "ماك كول" عندما دفع مدخراته لمدير إحدى العصابات التي تتاجر بأجساد الفتيات وأرواحهن مقابل أن يدع إحداهن وشأنها

في يوم آخر، وأمام فرن صحنايا الاحتياطي، سمعت هرجاً ومرجاً، اقتربت وإذ بمجموعة زعران، يدعون انتماءهم إلى اللجان الشعبية، يريدون الوصول إلى نافذة البيع. وعندما اعترضهم أحد الواقفين بالدور تكاثروا عليه وضربوه. وبسبب ضخامتهم والشر البادي في عيونهم، لم يتجرأ أحد من الموجودين على مساندة الحق. فجُلّ ما يبتغونه هو "خبزهم كفاف يومهم" ولا طاقة لديهم على الشجار. فكيف في معركة خاسرة سلفاً، ولن تأتي أُكُلَها، طالما أن مسؤولي البيع متواطئين مع مثل أولئك الأشرار ومع باعة الخبز والمعتمَدين. كل ذلك يجعل زمن الانتظار يتضاعف. في تلك اللحظة، اقتربت من أضخم الزعران ومسكته بقوة من كتفه. وما إن مد يده في محاولة للكمي، حتى قمتُ بحركتين خَرّ معهما أمامي، ليأتي الآخرون بسكاكينهم وأمواس الكباس. لكن حالهم لم يكن أفضل، فمنهم من خلعتُ كتفه، وآخر قلعت عينه، وثالث كسرت ساقه، بعدما توقعت حركاتهم مثلما كان يفعل "ماك كول". ولم أكتف بذلك فرأس الأفعى ما زال طليقاً، حسبما جاء في إحدى حوارات الفيلم. لذا استغليت انشغال أحد عمال الفرن الذي ترك بابه مفتوحاً، ودخلت إلى غرفة البيع. ولرعب العُمال من أن يؤول حالهم إلى حال الزعران، باتوا يوزعون الخبز على المنتظرين بتسارع واضح. وبدأ الزحام على نوافذ البيع بالتلاشي شيئاً فشيئاً.

وضمن إحدى المحلات، امرأة بادٍ عليها التعب، تُعاتب التاجر، الذي كلما سألته عن سعر إحدى السلع، يقوم بحساب السعر الجديد وفق ارتفاعات الدولار، وتقول له: "بأي حق ترفع الأسعار وبضاعتك مكومة في المستودع؟" فيجيبها بفوقية بأنه إن أعجبها السعر فلتشتري أو لتذهب إلى الجحيم. فهو غير مستعد لأن يبيعها بالسعر القديم، وأن يشتريها من تاجر الجملة بسعر أعلى بعد فترة. صادف أنني سمعت حوارهما، وما إن أردفت السيدة بجملة "الله يهدكن" بكل ما في صوتها من قهر وحنق، حتى بادرت إلى تحقيق المعادلة الصعبة، بأن أجبرت التاجر الفاجر أن يبيع تلك المرأة حاجياتها بالسعر القديم، طبعاً بعد أن سويتُ له وضعه بطريقتي الخاصة، بحيث أنه أخفى آلته الحاسبة وصار رحوماً فجأة، فعلى ما يبدو أنه بات "يحسبها صح".

مواقف أكثر من أن تُحصى، استطعت أن أحقق فيها العدالة، وأن أنصر المظلومين والمستضعفين. لكنني لا أستطيع أن أكون معكم جميعاً أصدقائي، وكي لا أبقى في إطار الوهم اللذيذ الذي وضعت نفسي فيه كـ"ماك كول السوري"، فإنني سأقتبس لكم من فيلم The Equalizer الحوار التالي عله يكون بمثابة بوصلة لكم:

"تيري (وهي فتاة هوى صغيرة السن): أنت وأنا نعرف من أكون.

روبيرت ماك كول: أعتقد أنه بإمكانك أن تكوني أي شيء تريدينه.

تيري: ربما في عالمك يا روبيرت، لكن ليس في عالمي.

روبيرت ماك كول: إذاً غيري عالمك".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image