في آخر يوم من الفصل الدراسي، في معهد "سيمون دو بوفوار" للدراسات النسائية، اختارت أستاذة "الدراسات النسائية من منظور تاريخي" أن تودعنا بقراءة نص للروائية وكاتبة الخيال العلمي الأمريكية أرسولا ك. لي غوين (1929 – 2018)، قالت إنه يليق بختام المقرر. عنوان النص "أنا رجل". ما إن أتمّت الأستاذة أول جملة من النص حتى نظرت جميع الطالبات بإمعان نحوها، وكأنها خاطبت كل واحدة منا باسمها. أخذت تقرأ. هي تقرأ وأنا أردد في نفسي "أنا رجل"، هي تقرأ وأكاد أسمع أخريات تتمتمن "أنا رجل".
مقتطفات مترجمة بتصرف من "أنا رجل"
(كتبت لي غوين هذا النص مطلع التسعينات كجزء من عرض أداء ولاحقاً كمقدمة لكتابها "أمواج العقل")
"أنا رجل. ستظن أنها زلّة لسان، أو ربما تفكر أنني أمازحك لأن اسمي ينتهي بحرف ذو دلالة مؤنثة (الألف). وأمتلك ثلاث حمّالات صدر، وحملت خمس مرات، وغيرها من التفاصيل الجانبية التي ربما لاحظتها. لكن ما قيمة التفاصيل؟ لا أهمية للتفاصيل. أنا رجل، وأريد منك أن تصدق وأن تقبل هذه الحقيقة، تماماً كما تقبلتها أنا دائماً. وأنا طفلة، خلال حروب الميديين والفرس، وفي ريعان شبابي عقب حرب المئة عام، وحين كنت أربّي أطفالي أيام حروب كوريا وفيتنام، لم يكن هناك نساء. فالنساء اختراع حديث العهد. أنا موجود قبل اختراع النساء بعقود، وبصورة أدقّ، لقد تم اختراع النساء عدة مرات وفي أماكن مختلفة. إلا أن الصنّاع لم يتقنوا تسويق هذا المنتج. فأدواتهم كانت بدائية ومفاتيحهم البحثية كانت معدومة، وبالتالي لم يلق هذا المنتج- النساء- الرواج. بغض النظر عن عبقرية الصانع، لابد للمنتَج أن يجد له سوقاً وزبائن، وهذا ما لم يحدث مع فكرة وجود النساء.
كما ترى، عندما تفتّحت عيناي على هذه الحياة لم يكن هناك سوى الرجال. الناس هم الرجال. جميع البشر تتم مخاطبتهم بـ "هو"
فكما ترى، عندما تفتّحت عيناي على هذه الحياة لم يكن هناك سوى الرجال. الناس هم الرجال. جميع البشر تتم مخاطبتهم بـ "هو". نعم هذا أنا، أنا هو. لا بد من الاعتراف بأنني لست رجلاً من الدرجة الأولى، يمكن اعتباري رجلاً من الدرجة الثانية أو نسخة مقلّدة عن الـ "هو الحقيقي". فأنا لا يمكنني أن أبول على الثلج مخلّفاً حروف اسمي. وليس بمقدوري إطلاق النار على زوجتي وأطفالي وبعض الجيران ثم قتل نفسي. في الحقيقة أعجز عن قيادة سيارة، أنا بالفعل نسخة مشوّهة عن الرجل، والرجل هو الإنسان والإنسان هو الرجل.
خذ على سبيل المثال "أرنست همنغواي"، كان ليفضل الموت على التقدم بالعمر، وهذا ما حصل لقد أطلق النار على نفسه. جملة مقتضبة منتهية بنقطة في آخر السطر، كما الموت. أمّا الحياة فاستفاضة وجملاً متبوعة بفواصل منقوطة ومعانٍ غير منتهية.
ها أنا ذا كنت في الستينات عندما كتبت هذه المقدمة، والآن لقد تجاوزت السبعين. كل هذا كان خطأي، لقد ولدت قبل اختراع النساء، وعشت كل تلك السنين في محاولة لأكون رجلاً جيداً. لقد نسيت أن أحافظ على شبابي، وكل أزمنة أفعالي اختلطت ببعضها، ها أنا في مرحلة الشباب، وعلى غفلة مني وجدت نفسي في الستين، ثم في الثمانين، وماذا بعد؟ لا أظن أنه تبقى الكثير.
لا أنفك أفكر، لا بد لرجل حقيقي من إيجاد حل لموضوع التقدم بالسن، حل أرحم من طلقة بالرأس، لكن أكثر فعالية من مستحضرات العناية البشرة، أنا فشلت في إيجاده. فشلت في الحفاظ على شبابي. فشلت بأن أكون رجلاً بكل معنى الكلمة. أنا لست سوى رجل سيء في أحسن الأحوال. أنا نسخة سيئة من "هو" مع بضع شعرات في الذقن وفاصلة منقوطة. لقد فشلت بالتظاهر بأنني رجل وفشلت بالبقاء على قيد الشباب. علي الآن أن أتظاهر بأنني امرأة مسنّة، مع العلم أنني لست متأكدة إن كان أحدهم قد اخترع نساء مسنات بعد، على أي حال، لا مانع من التجريب".
لم يكن لديك الوقت طيلة قرون من تصميم العالم على مقاسك، للانتباه إلى هذا التفصيل، لاستيعاب وجود شريك لك في هذا العالم، شريك لا ينقص عنك بشيء، ولا يزيدك بشيء، فقط ليس رجل ولا من ضلع رجل.
تنكرت "لي غوين"، في نصها، بحلّة رجل لتصف واقع النساء في العالم. تتظاهر بقبولها وتسليمها بالأمر، بل وتعيب على نفسها عدم إتقانها لدور الرجل. تسخر من غرور الرجل وتباهيه بعدم الاكتراث بالتفاصيل، تقول له لا عليك إن لم تنتبه لوجودنا نحن النساء فذلك لأن وجودنا، بهوياتنا وخلفياتنا وأسمائنا وأجسادنا وأفكارنا، ما هو إلا تفصيل بسيط. وأنت لم يكن لديكَ الوقت طيلة قرون من تصميم العالم على مقاسك، للانتباه إلى هذا التفصيل، لاستيعاب وجود شريك لك في هذا العالم، شريك لا ينقص عنك بشيء، ولا يزيدك بشيء، فقط ليس رجل ولا من ضلع رجل.
ورث الرجل العالم مثلما يرث أي ملك عرش أبيه. فالأهلية مرتبطة بجنسه أولاً، والباقي تفاصيل ثانوية. وعلى رأي "لو غوين"، ما قيمة التفاصيل؟ عوامل كثيرة يسّرت تسيّد الرجل؛ منها المحاولات الأزلية لإقحام اسم الله هنا وهناك لتمرير مشاريع التوسع الذكورية. إلا أن أحداً لا يستطيع الجزم بصحة تحيز الله للرجل، مع أن هناك من يشير إلى الله نفسه بوصفه رجل. ثقافتي مختلفة عن ثقافة "لي غوين"؛ هي من الغرب وأنا من الشرق. إلا أنني تقاطعت مع إحساسها بغياب وجودها كامرأة في هذا العالم. في لغتنا العربية نستخدم "هو" للمذكر وللشيء، أفترض حسن النية وأقول "هو" العائدة على الله مقصود بها الشيء، لكن لا أدري لماذا عندما أمرّ بأسمائه الـ99 الحسنى، أحسبه ذكراً. "لي غوين" لم تتحدث عن الله، إلا أن نصها "أنا رجل" جعلني أمرّ ببعض من أسمائه وأتمتم في نفسي "أنا رجل".
أنا رجل. فكرت بجواز سفري السوري. أحتفظ بصورة عنه، كُتب على صفحته الأولى عبارة بثلاث لغات، العربية والإنكليزية والفرنسية، وكلها تشير إلى حامل الجواز- لمواطن- بوصفه ذكراً: "يُطلب من موظفي حكومة الجمهورية العربية السورية ومن ممثليها في الخارج ويرجى من كل سلطة أخرى تعمل باسم الحكومة العربية السورية ومن السلطات المختصة أن تسمح لحامل هذا الجواز بحرية المرور وأن تقدم له كل ما يحتاج إليه من مساعدة ورعاية". وبعد الترجمة، ظل حامل الجواز رجلاً واستُبدل ضميره مرة بـ "he" ومرة بـ "il".
أنا أيضاً رجل، وصديقاتي رجال، وأمي وجاراتها، وأستاذة "الدراسات النسائية"، والطالبات، كلهن رجال، أضع فاصلة منقوطة لأن الجملة لا ولن تنتهي هنا؛ لأن للحديث بقية؛ للنضال بقية؛
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون