ولدت حليمي في 1927 في تونس، في عائلة يهودية يسيطر عليها النظام الأبوي، حيث كان مجرّد إنجاب فتاة يمثل كارثة، هذه التجربة التي تشاركتها مع أختها ووالدتها دفعتها لأن تحلم بتمثيل دور المحامية والمدافعة عن حقوق المرأة، ورفض المصير الذي يحضّره لها المجتمع ممثلاً بالعقلية البطريركية المؤثرة، تقول في مقابلة معها: "كانت الفتاة في ذلك الوقت عبئاً اقتصادياً، لـأنها ليست مؤهلة للحصول على لقمة العيش، كما كانت عبئاً اجتماعياً بسبب كل تلك القيود على حركتها والخوف على عذريتها".
لم تلق جيزيل باللوم على والديها اللذين كانا جزءاً فقط من نظام اقتصادي اجتماعي أنتجهم، وأعادوا هم إنتاجه في حركة دائرية مستمرة، لكنها رفضت أن تدخل في "دائرة إنتاج العبودية" هذه، "غريزتي الأولى، قراري الحيوي الأول كان: لن أطلب مالاً من أحد، لن أعتمد على أحد".
صارعت حليمي للهروب من الحياة "المدبرة" تلك، قرأت ودرست وأعدت لنفسها خطة تعليم ذاتي، ورفضت زواجاً مدبراً عندما كانت في الخامسة عشر من عمرها، بل نفّذت في ذاك السن إضراباً عن الطعام ضمن الأسرة، رفضاً لفكرة أن تقوم الفتيات بخدمة أفراد الأسرة الآخرين على طاولة الطعام، بتأثير من عمها الشيوعي الملحد، الذي "لطّخ" اسم العائلة كما اعتبره والدها.
توفيت يوم الثلاثاء، 28 تموز/ يوليو، عن عمر 93 عاماً، في باريس.
في عام 1945، وبعد الحصول على الباكالوريا، تضع في جيبها القليل من المال الذي ادخرته من تقديم الدروس الخاصة، وبعنادها منقطع النظير ذهبت إلى ليون بالطائرة ثم بالقطار إلى باريس، لتكتشف العالم وأيضاً لتحرير نفسها من هيمنة السلطة الأبوية والدينية، تقول: "في القطار، أمضيت الليل مستيقظة لرؤية الأشجار من خلال الأضواء، كان لدي حب لفرنسا وما تمثّله".
"بدا لي وقتها أن الوصول إلى باريس هو المفتاح. بمجرد وصولي أردت التسجيل في جميع الكليات، أردت أن أعرف كل شيء وأن أتعلّم كل شيء. لم أكن أدرك وقتها أن المعرفة هي القوة، بهذه الصياغة، لكنه كان إحساساً غريزياً. لم أكن أملك المال، لكني امتلكت عطش المعرفة، قلت لنفسي: هذه القوة هي ما أحتاج".
التزمت جيزيل حليمي بالدفاع عن استقلال تونس والجزائر، ولم تكن محامية تقليدية، إذ كان المبدأ الذي تقوم عليه مهنة المحاماة في الخمسينيات هو إخفاء رأي وشخصية المحامي تحت غطاء الحياد، وهو ما لم تقبل به: "أن أكون محامية يعني محاولة تغيير ما لا يعجبني في العالم: الظلم وتوازن القوى وازدراء الضعفاء واحتقار النساء". تفرض خصوصيتها في المهنة وترفع صوتها عالياً بوجوب الحصول على الحقوق ولا تترافع عن قضية ما لم تقتنع بها، ما أكسبها صفة "المحامية غير المحترمة"، وبدأت مهنتها في تونس في المحاكم العسكرية مع اقتراب الاستقلال، كما شاركت في الدفاع عن المتهمين بالنضال ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر (جبهة التحرير الوطني)، وقضت ثماني سنوات برفقتهم، ما أعاد تشكيل وعيها من جديد إزاء العدالة ودور القضاة والقانون، وهو ما دفعها لاحقاً للالتزام بالدفاع عن القضية الفلسطينية ومعارضتها للكيان الصهيوني، فقد مثّلت مروان البرغوثي، أحد أبرز قادة منظمة فتح في الضفة الغربية ومن أهم رموز مناهضة الاحتلال الإسرائيلي، بعد اعتقاله عام 2002، وكانت جزءاً من محكمة رأي شعبية "راسل" التي تأسست في آذار 2009، لتعبئة الرأي العام العالمي ضد ممارسات الكيان الصهيوني.
كتبت خلال حرب غزة 2014 مقالاً ضد الحرب: "إن الشعب الفلسطيني الأعزل يذبح. الجيش الإسرائيلي يحتجزه كرهينة. إن قضية فلسطين قضية عادلة وسيتم الاعتراف بها مهما طال الزمن".
ولدت حليمي في 1927 في تونس، في عائلة يهودية يسيطر عليها النظام الأبوي، حيث كان مجرّد إنجاب فتاة يمثل كارثة، هذه التجربة التي تشاركتها مع أختها ووالدتها دفعتها لأن تحلم بتمثيل دور المحامية والمدافعة عن حقوق المرأة
النسوية والسياسة
جميع التزامات حليمي كانت ذات بعد سياسي رغم أنها رفضت الالتزام بحزب، وإذا أزحنا جانباً انتخابها كنائبة في البرلمان الفرنسي عام 1981، التي كانت فترة قصيرة اعتبرتها غير سارّة في حياتها، كما عملت كسفيرة لفرنسا لدى اليونسكو لمدة سنة واحدة. لم تصنع مهنة سياسية. تشرح المسافة التي اتخذتها بعيداً عن السياسة: "أردت السياسة ولم تكن تريدني، السياسة بشكل عام هي للذكور في ذلك الوقت، كانت شيئاً ذكورياً، القادة جميعاً والخطباء والسياسيون الموهبون، كلهم من الذكور، اعتقدت أن السياسة الحقيقية هي الحركة النسوية".
فترة السبعينيات كانت فترة خيبة أمل بالنسبة لها، إذ اكتشفت أن أصدقاءها من المشاركين في ثورة الطلاب، إيار/ مايو 1968، مهما بلغت درجة تحررهم، كانوا يعتقدون أن على النساء البقاء في أماكنهن والاعتناء برجالهن.
ارتبط اسمها في عام 1972 بما يدعى "محاكمة بوبيني"، وهي أول محاكمة لمتهمة بالإجهاض على أساس قانون تم وضعه في 1920، لتتحول إلى قضية سياسية، كما ارتبط اسمها ببيان "343" الذي وقعته نسويات فرنسيات بينهم سيمون دو بوفوار، رومي شنايدر وسينتا برغر، يقول البيان الذي كتبته بوفوار:
"مليون امرأة تجهض في فرنسا كل عام.
إنهن يفعلن ذلك في ظروف خطرة بسبب السرية التي يحكم بها عليهن، في حين أن هذه العملية، بسيطة للغاية، حين تتم تحت إشراف طبي.
نحن نسكت عن هؤلاء الملايين من النساء.
أعلن أنني واحدة منهن، أعلن أنني أجهضت.
كما نطالب بالوصول المجاني إلى موانع الحمل، نطالب بالإجهاض المجاني."
وهو ما أطلقت عليه الصحافة الفرنسية المتزمتة آنذاك "بيان العاهرات" وهي المحامية الوحيدة التي قامت بذلك، تحت طائلة خطر الشطب من النقابة، وكانت هذه خطوة مهمة في السير نحو قانون تشريع الإجهاض في عام 1975.
رغم كراهيتها للسياسة اختارت أن تصبح عضواً في البرلمان، بدافع الفضول أولاً كما تقول، ومن إيمانها بقوة السلطة التشريعية، وعملت بقوة مع الرئيس ميتيران، رغم أنه "لم أعرف رجلاً أقل نسوية منه، كان فيه كل الجانب المحافظ، لكن كان لديه أيضاً جانب شجاع ... بالتعليم أصبح تدريجياً نسوياً".
كتبت خلال حرب غزة 2014 مقالاً ضد الحرب: "إن الشعب الفلسطيني الأعزل يذبح. الجيش الإسرائيلي يحتجزه كرهينة. إن قضية فلسطين قضية عادلة وسيتم الاعتراف بها مهما طال الزمن"
في الجانب الشخصي والخاص
هذا الصراع الذي عاشته جيزيل لم يكن يعني أنها "تعادي" الرجال، كانت ملتزمة بالحصول على حق المرأة بالإجهاض وساعات عمل مساوية للذكور وأجر مساو، ولطالما أصرّت أن الصراع له خصوصية عدم القضاء على الظالم/ الرجل، بل تحصيل الحقوق منه وتوعيته "أدركتُ أن النسوية ثورة استثنائية، لأنها تثير الأسئلة حول جميع المحرّمات، هذه الثورة، وعلى عكس الثورات، لا تستخدم الترهيب وليس لها ضحايا. النسوية ثورة إنسانية في جميع الوسائل التي تستخدمها".
أما بخصوص التعايش مع "الظالم" فتعتقد أنها كانت محظوظة بالعثور على زوج داعم للنسوية وملتزم بها قبل أن يعرفها، "كان لدينا أكثر من قاعدة مشتركة، لم أكن لأعيش مع شخص لا يفهم القضية النسوية، لكنه فهمها على الفور".
أنجبت ثلاثة أبناء، ومع ذلك شعرت بالندم لأنها لم تحصل على فرصة إنجاب طفلة، "لترى ابنتها تنظر إلى نفسها بعيون امرأة، لتعرف كيف ستصنع ابنتها شخصيتها النسوية الخاصة".
تقول: "النساء أمامهن المستقبل، بينما الرجال يملكون القوة فقط. القوة تجفف المستقبل، وما نريد بناءه هو عكس ذلك"، بالرغم أن جيزيل تعرّف الرجل بالظالم والقامع للحقوق، وتعي الخطاب المتمايز للرجال والنساء، إلا أنها تمتلك اليقين بأن النضال التحرري لا يمكن أن يعزل الرجال عنه، "يجب أن تفهم المرأة أن ما يمنحها ميزة استثنائية على الآخرين هو أنها امرأة بالتحديد، وأن النساء لأنهن زوجات وأمهات، مهتمات أكثر بالصالح الاجتماعي، بالعلاقة مع الآخرين والتقدم الاجتماعي مع الرجال الذي يعملون في السياسة بدون غرور".
توفيت يوم الثلاثاء، 28 تموز/ يوليو، عن عمر 93 عاماً، في باريس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه