شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
التحولات الروائية بين الذكورة والأنوثة في اللوحة والمسرح والكتابة‬

التحولات الروائية بين الذكورة والأنوثة في اللوحة والمسرح والكتابة‬

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 26 أبريل 202110:18 ص

في روايته "الإصبع السادسة"، يختار الروائي خيري الذهبي لحظة تاريخية مفصلية في دخول الفنون الحديثة: اللوحة والمسرح، إلى مدينة دمشق، بداية القرن العشرين، للتعبير عن التحولات الاجتماعية والثقافية في تلك الفترة، من خلال حكاية "أروى"، التي لا ترمز إلى رغبة المرأة بالتحرر والتجريب فحسب، بل أيضاً، تدخل في تجارب جسدية، حسية، ذهنية، لكل ما تحمله فنون اللوحة والمسرح من إمكانات التحول بين الذكورة، الأنوثة، الخنوثة، وكذلك التماهي مع كائنات عابرة للجنسانية.

احتمالات اللوحة والرواية والمسرح

حسن، الآغا الذي تعاطف مع المناضل الثوري الإيطالي برناردو، الرسام الهارب من إيطاليا إلى مصر فسورية، يخبئه في الأقبية والممرات السرية تحت بيته العربي الكبير. لا أحد يعلم بوجوده حتى أفراد العائلة، وكذلك لا يعرف برناردو أحداً من شخصيات الرواية أو أهالي المدينة إلا الآغا.

أروى، ابنة الآغا التي تمنعها أمها من القراءة وترفض تعليمها الكتابة، راحت تتسلل إلى مكتبة أبيها حيث كنز من الكتب والصور: "كانت قد سئمت النقوش التي تنسجها على البسط، وكان هذا كل ما تعلمته من أمها، مربعات، ومثلثات، ودوائر ومثمنات ومسدسات، كانت تغير وتبدل، وتضيف هذا النقش مرة، وتحذف ذاك النقش مرة". بحث أروى المستمر عن صور وبصريات جديدة يدفعها كل ليلة للتسلل إلى كنز المكتبة، حتى يقودها طريق سري في سراديب البيت العربي لاكتشاف لوحات برناردو المتخفي تحت الأرض، والذي لن يلحظ دخولها المستمر إلى مكانه حتى نهاية الرواية.

 رواية "الإصبع السادسة": "كانت حين تمسك بالريشة المغموسة بالحبر، وتضح خيالاتها على الورق، تعرف أنها تصنع شيئاً من الصعب نسجه على البساط، فقد كانت ألوان ريش الحسون مغرية حتى الجنون، ولكن، من يجرؤ على نسجها على بساط؟ ومن يسمح لنفسه برؤية مثل هذا الكفر؟ 

عبر تفكير أروى بالصورة، يدخلنا الروائي في تحليل القدرات المحدودة لفن البسط، والقدرات الواسعة التي تفسحها فن اللوحة: "كانت حين تمسك بالريشة المغموسة بالحبر، وتضح خيالاتها على الورق، تعرف أنها تصنع شيئاً من الصعب نسجه على البساط، فقد كانت ألوان ريش الحسون مغرية حتى الجنون، ولكن، من يجرؤ على نسجها على بساط؟ ومن يسمح لنفسه برؤية مثل هذا الكفر؟ كانت تخط وتلون على الورق، ثم تحرق ما لوّنت، كانت أصابعها تحكها بحثاً عما يشبع شهوتها في التعبير عما في داخلها".


اللوحة المتشكلة من خيال رجل وامرأة

يرسم برناردو جزءاً من لوحاته، وحين ينام تتمكن أروى التسلل ومتابعة العمل، أو تغيير الشكل المرسوم أو الإضافة إليه. وهكذا، عبر هذه الحبكة، يفتح الروائي السرد على إمكانية تحليل لوحات مرسومة بخيال وثقافة متبادلة، متفاعلة، متحولة بين رجل وامرأة. ليس فقط تحليلها، بل خلق حوار تشكيلي فني من خلال عملية الرسم المشترك.

وفي الرواية لا تمتزج فقط عملية الرسم، بل أيضاً عملية تلقي اللوحات، فالقارئ يرى اللوحات عبر أعين الشخصيات المتعددة التي تنظر إليها، هكذا تُحلل لوحات برناردو عن الوحوش من خلال عين أروى: "هل أرعبه هذا الوحش يوماً، فهو يحاول نزع هذا الخوف بإذلاله وحطه من عليائه؟"، تتساءل أروى عن الدافع النفسي وراء رسم الوحوش عند برناردو.

الجنة المتخيلة بين الرجل والمرأة

تبقى رسومات برناردو عن كائنات متوحشة، وكأنه الذكورة المعزولة في كهف، إلا أن يتهيأ له حضور أنثوي في فضائه، يغير رسوماته تماماً، كما تهذب عشتار وحشية أنكيدو في ملحمة "جلجامش"، يغير برناردو أسلوبه في الرسم، فيرسم لوحة نكتشفها أيضاً من خلال عيني أروى: "مضت إلى الرسمات وأخذت تتأملها في اندهاش، كانت لا تشبه رسمة الضبع المكتملة، فقد كانت الرسمات كلها لجداول شديدة الزرقة حتى النيلي، ولشجيرات شديدة الخضرة حتى لا تشبهها خضرة في أشجار الباحة المغبرة، وكانت الورود في حمرتها وصفرتها صارخة التكوين".

وتكتشف أروى أنها رسومات لجنّة تحوي النساء فقط. عبر أجساد النساء في اللوحة تكتشف أروى جسدها الخاص، عبر تأمل المرسوم يتمرأى جسدها في ذهنها، لكنها تلاحظ أن أجساد النسوة المرسومات في جنة الرجولة بلا أعضاء جنسية، كان نصفهن الأسفل جذوعاً ضئيلة لأشجار: "لماذا؟ أين سيقانهن؟ أين أردافهن؟ أين أنوثتهن؟"، كانت هذه أسئلة المرأة تجاه تجسيد رجولي لأجساد نسوية مرسومة من خيال رجل.

كان نصفهن الأسفل جذوعاً ضئيلة لأشجار: "لماذا؟ أين سيقانهن؟ أين أردافهن؟ أين أنوثتهن؟

جنّة الجسد المكتمل ذاتياً

وفجأة تنبهت أروى لجنّة برناردو: "الجنة للنساء فقط؟ تذكرت أن الرسمات كلها لم يكن فيها رسمة لرجل. لماذا؟ هل الجنّة للنساء فقط؟ وكيف تكون للنساء والرجل من رسمها؟ وقفزت الفكرة، إنها جنّته هو، جنّة من أشجار وأثمار ونساء"، وتشرع في التفكير بتجسيد جنتها هي، فترسم كائناً ثنائي الجنس، في ربلة ساقه ذكر وفي ربلة ساقه الأخرى أنثى، يزاوجهمها حين يشاء، ينجب ويملأ الدنيا بأطفاله دون حاجة إلى آخر يكمل به نقصه.

كان كاملاً بلا شهوة، وكاملاً بلا نشوة، وكاملاً بلا رغبة، وكاملاً بلا مطاردة. فالجنة بالنسبة لأروى هو الكائن الثنائي الجنس، القادر على التكامل جسدياً بين الذكورة والأنوثة، يمتلك أعضاء مشتركة لكلا الجنسين، الجنة من منظور أروى هي اكتمال الجسد الإنساني باكتفائه جنسياً بنفسه، وبتكونه من هوية جنسية ثنائية وأعضاء جنسية تجعله مستقلاً عن التواصل مع الأجساد الأخرى ليشبع شهوته وحتى ليتكاثر.

وهكذا، على طول الرواية تتداخل الكائنات المرسومة في اللوحات بين تصورات التأليف الرجولي حسب رؤية برناردو، وتصورات التخييل النسائي من ريشة أروى، وحين يرسم الرجل جسد المرأة بجزء سفلي من الشجر أو بسيقان مضمومة، تتدخل رؤية أروى لتعدل وترسم حقيقة الجسد السفلي العضوي لجسد المرأة، أو ترسم الساقين اللتين كانتا مضمومتين، منفرجتي وضعية الجلوس، مبرزةً الفرج الأنثوي. وتبقى براعة الرواية في الفقرات الممتعة التي تصف بصرياً تخيلات وفانتاسمات الجنسية والجندرية لجسد الذكورة والأنوثة.

الكائن الثنائي الجنس، القادر على التكامل جسدياً بين الذكورة والأنوثة، يمتلك أعضاء مشتركة لكلا الجنسين، الجنة هي اكتمال الجسد الإنساني باكتفائه جنسياً بنفسه، وبتكونه من هوية جنسية ثنائية وأعضاء جنسية تجعله مستقلاً عن التواصل مع الأجساد الأخرى ليشبع شهوته

الأدوار المسرحية بين الذكورة والأنوثة

شهدت تلك المرحلة التاريخية أيضاً نشأة المسرح العربي، وكان برناردو حريصاً على اصطحاب الآغا: "قوم بينا نتفرج ع المسرح، الكوميضا، التياترو". وسمعت أروى مرافعته في أنّ الكوميضا هذه المرّة بالعربية، وأنّ مجموعة من لبنان ستشخّص بالعربية، وأنّ الحكاية هي عن هارون الرشيد، وبسرعة قرّرت أروى أن تلحق بهما، هي لا تعرف أين يقع هذا "المرسح" الذي يتحدّثان عنه، ولذا فهي ستلحق بهما وتهتدي إلى المكان.

كانت هذه هي المرة الأولى التي تسمع أروى فيها عن هذا العالم الغامض المسمى بالكوميضا. ولكن الكلمة رنّت وكأنها ذكرى لعالم عرفته فيما مضى، الكلمة بحد ذاتها جعلتها تحسّ بالنشوة. فراحت تتسلل إلى المسرح، متنكرة بثياب رجل، إلى أن قرر الوالي العثماني إنشاء فرقة تمثيل، فكانت أروى أحد نجومها، حيث كان يظن الناس أنها رجل. وهكذا، عبر اختيار هذه اللحظة التاريخية في دمشق، أمكن للروائي اختبار التحولات بين الذكورة والأنوثة عبر اللوحة، والتبادلات بين الرجل والمرأة عبر المسرح.

تتابع الرواية حكاية المرأة الممنوعة من الدخول والمشاركة، بينما هي تسلل إلى المسرح بهوية رجل، دون حاجة للتنويه إلى الاحتمالات التي يفتحها المسرح، كما في اللوحة، بين الشخصيات المسرحية الرجولية والنسائية.

"كانت تسمع صرخات الاستحسان وآهات الافتتان وتتمنى لو كانت موجهة إليها حقيقة، إلى أروى المشتاقة إلى الإعجاب مثل كل النساء. ولكن أهي فعلاً نساء؟

الأسئلة التي يطرحها حضور المسرح على ثقافة المدينة دمشق في تلك الفترة حاضرة في الرواية، ومن بينها ما يندرج في إطار موضوعنا: أدوار النساء التي يجب أن يؤديها رجال، وهكذا تتعقد مرايا الهويات الجنسية والجندرية في شخصية أروى، المتنكرة بزي رجل لتؤدي أدواراً في المسرح، فتوكل إليها شخصيات نسائية كدائرة لا متناهية من متاهات التخييل والتماهي بين المؤدية-المؤدي، الشخص-الشخصية: "كانت وهي تسمع صرخات الاستحسان وآهات الافتتان تتمنى لو كانت موجهة إليها حقيقة، إلى أروى المشتاقة إلى الإعجاب مثل كل النساء. ولكن أهي فعلاً نساء؟ كان السؤال يحرجها". تتداخل على أروى مشاعرها الذاتية ومشاعر الشخصيات التي تؤديها، وكل من مميزات الرجولة والنسوية تجتمع في ذاتها الواحدة: "كانت الكوميضا هي الباب السري الذي دخلت منه لمواجهة نفسها حين شخصت أجمل التشخيصات النسائية، ولكن هي امرأة؟ فإن كانت امرأة، فلم كانت تتدرب في غرفتها وحيدة على دور علي نور الدين، ولم كانت تحب أن تكون علي نور الدين أكثر مما كانت تحب أن تكون أنس الجليس؟".

قاموس الكتابة عن الجنس الآخر

في روايته الصادرة مؤخراً بعنوان "قمل العانة" يقدم غسان الجباعي تجربة جديدة في احتمالات الرواية لتجسيد التحولات والتداخل ومرايا الرأي والرأي الآخر بين الذكورة والأنوثة والرجل والمرأة، تلك منها المتعلقة بفن اللوحة، وكذلك فن الرواية نفسه. فالفن الروائي هو موضوعة رواية "قمل العانة".

تتداخل في "قمل العانة" اللوحات التي ترسمها الشخصية النسائية "هند" مع تلك التي يرسمها الرجل "جفان". وتظهر في هذه اللوحات أجساد عابرة للهوية الجنسية، فاللوحة المركزية في الرواية تمثل جسداً ذكورياً عند الجبين والأنف والشفاه والذقن والعينان، لكنه يمتلك عضواً أنثوياً، فتجسد اللوحة قمل شعر العانة لجسد ذكوري. وتتداخل على القارئ إن كان هذا جسد جفان الحقيقي أم أنه جسد مرسوم في لوحة رسمها جفان، أم أنها لوحة رسمتها هند، كما يتضح لنا عند نهاية الرواية. هكذا لا تتداخل فقط جنسانية الكائن المرسوم داخل اللوحة، بل أيضاً الهوية الجندرية للفنان/ة مبدع/ة اللوحة.

رواية "قمل العانة": "لماذا تكتب عني؟ وماذا ستكتب؟ كيف تجرأت على وصف صدري بالذابل؟ هل رأيته؟ هل لمسته؟ أنا امرأة بلا صدر يا سيدي، ثديان وحلمة واحدة، ربما كنت ترغب في رؤيتي عارية. أهذا ما تريد؟ هل ترغب في ذلك حقاً؟ هل تشعر بمتعة ما، وأنت تصفني كيف أتلمس أعضائي وأغمض عيني؟"

ما تضيفه رواية "قمل العانة" إلى هذا الاستعراض لتداخلات الأنوثة والذكورة والتبدلات الجندرية بين الرجولة والنسوية، يأتي على صعيد فن الرواية. فبين الفصل والثاني يحصل الالتباس لدى القارئ، هل كاتب الرواية رجل أم امرأة؟ وإن كان السارد رجلاً فإنه بلا شك ينتظر أن تأتيه الحكايات من شريكته في الكتابة المرأة، وإن كانت الساردة امرأة فإنها مروية بمفردات وقاموس الرجل: "لماذا تكتب عني؟ وماذا ستكتب؟ كيف تجرأت على وصف صدري بالذابل؟ هل رأيته؟ هل لمسته؟ أنا امرأة بلا صدر يا سيدي، ثديان وحلمة واحدة، ربما كنت ترغب في رؤيتي عارية. أهذا ما تريد؟ هل ترغب في ذلك حقاً؟ هل تشعر بمتعة ما، وأنت تصفني كيف أتلمس أعضائي وأغمض عيني؟".

تفتح احتمالات السرد في الرواية على إمكانية نقد هند لصورة المرأة عند كاتب الرواية الرجل. وتثار نقاشات بين هند وبين كاتب الرواية حول مفردات أدب الرجال في وصف المرأة والتعبير عنها، بينما يوضح الكاتب الرجل أفكاره عن الأنوثة والذكورة: "كل منا يكمل الآخر، وما من خطيئة، صدقيني. من ذا الذي اخترع الخطيئة ونسي الخطأ؟ نحن مجبولون على النقص حتى نكتمل، النقص مجدنا وخلودنا. أجسادنا خلقت عائبة، وكل جسد يحتوي عيب الآخر من دون احتواء. لا وجود لذكر وأنثى في السليقة والإبداع. فالطبيعة أنثى، وكلاهما نسخة عنها. سننتظر كثيراً حتى نتشابه، ربما بضعة عقود، وريما يجب علينا أن ننتظر الموت، ليس موتك أو موتي، بل موت الحكايات".

في الفقرة السابقة مقولة لافتة، بأن الذكورة والأنوثة مستمرة في هذه الجدليات، ليس بناءً على الفارق العضوي الجسدي، بل بسبب التمييز الذي تكرسه الثقافة والذي تخلقه الحكايات، وهنا يمكن القول: كما أن الحكايات تخلق الفوارق المميزة بين الذكورة والأنوثة على مر التاريخ الثقافي، فإن هناك حكايات أخرى تبدع في ابتكار الجدليات التبادلية، والتأثيرية بين الذكورة والأنوثة وتختلق بالفن علاقات أكثر جمالاً وتعقيداً من تبسيطية التمييزية العضوية، ومنها هاتان الروايتان كما رأينا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image