يشغل القضاء العشائري في النقب؛ جنوب الداخل الفلسطيني، حديث أهله. ويشعر البدوي بالفخر دائماً في الحديث عن المنظومة العشائرية التي ادار فيها عرب النقب شؤونهم منذ فجر روايتهم الشفهية. يخاف عرب النقب من إنتهاء المنظومة العُرفية ودائماً ما يُربط ضعفها بضعف المجتمع، في المحصلة لا مجتمع عربي بدون "حق عرب "، هكذا يرى عرب النقب نظامهم القضائي العشائري التقليدي.
لم تضعف المنظومة العرفية العشائري في النقب جنوب فلسطين في السابق أبداً، بل كانت خط دفاع عرب النقب أمام محاولات الدولة التركية فصل القرار الواحد للقبائل البدوية وتفريق وحدة أهل النقب عبر محاولات الهيمنة واجتذاب الأشخاص إليها. فاضطر الانتداب البريطاني إلى التعامل الحذر مع عرب النقب، وإعطائهم حرية إدارتهم لشؤونهم، فلا تُمس أرضهم، ويحكمون بين أنفسهم بنفسهم عبر منظومتهم العرفية الخاصة.
وعلى الرغم من صورة القضاء العشائري القبليّة، التي قد تتمظهر بأشكال تقليدية في قضايا تخص حقوق الفرد وحريته وتخص النساء وقضايا ما يسمى بـ"شرف العائلة"، إلا أنّ المنظومة استطاعت أن تخلق لنفسها صورة عادلة تضع الفرد المظلوم أو المخطئ، بنظر المجتمع، على حد سواء، في حمايتها. ووسط محاولات إسرائيل، الناجحة في بعضها، في هدم هذه المنظومة، تظلّ الأخيرة تتشبّث بالزمن في محاولة لفرض عدل الصحراء الذي لا يُظلم فيه أحد ولا يُسجن فيه أحد.
الحُكم الذاتي العشائري
هي أشبه بحالة من الانفصال والاستقلال الذاتي. لا يهم من يحكم البلاد؛ تركيا أم بريطانيا أم غيرها. "لا تتدخلوا في أرضِنا أو عُرفنا ولا نتدخل بكم"، وبالفعل كانت نقاط التقاء البدو مع الاحتلالين التركي والبريطاني تحمل قدراً كبيراً من الندية. في الذاكرة الشفهية لعرب النقب قصص كثيرة تحولت إلى قصص فولكلورية عن الأخذ بالثأر بالمعايير العُرفية والتعامل الندي، فلا فرق بين قتل ابن قبيلة معينة لابن قبيلة أخرى وبين قتل العساكر الإنجليز أو العثمانيين " العار لاحق والدم واصل "، يقولون؛ أي أن القصاص فرض حتى ولو كان قاتل أخيك دولة ً.من جانب آخر، تكثر القصص المتناقلة حتى عن اضطرار رجال شرطة إسرائيليين للجوء إلى القضاء العشائري، ومن أشهرها اعتداء عنصري على شاب بدوي في محطة شرطة إسرائيلية وتهديده بالسلاح. لم يستطع الشاب تجاوز ثأره فجعل حياة الشرطي جحيماً لأسابيع بأن لاحقه وحاول إيذاءه دون أن يستدلّ الشرطي على دليل واضح على ملاحقات الشاب التي وصلت حدّ وضع رصاصة رمزية في سرير طفل الشرطي لإخافة الشرطي. مما اضطر الطرف الاسرائيلي الجلوس في مجلس بدوي وطلب الصفح من إحدى عشائر النقب، في مشهد سريالي كان الاستعمار فيه محكومًا من أهل الأرض.
ودك حَق عرب ولا حق إسرائيل؟
أول جملة تُسمع عند التوجه للقضاء العشائري لحل قضايا الدم أو النزاع اليوم هي "ودّك (تريد) حق عرب ولا حق إسرائيل"، وتفيد الجملة أن من يريد اللجوء للقضاء العشائري لحل نزاع معين يمنع عليه التوجه للشرطة الإسرائيلية، واذا تم التوجه للشرطة قبل الاقتضاء يسقط حق المتوجه في العُرف العشائري وترفض دعوته للتقاضي.لا يشفي القانون الإسرائيلي الغليل، فمحاكم البدو بلا سجون وفيها يُحاكم الرجال. أما حُكم إسرائيل، بالنسبة للبدو، فيعقّد الأمور فقط. فلم تحل قضية لبدوي يوماً بشكل كامل في محكمة إسرائيلية يقول البدو إن "عُرف اليهود فاسد"، وهي واحدة من الجمل البسيطة التي تسمعها عند الحديث عن القضاء العشائري مع أي بدوي. "العُرف كَنز البدوي"، يقول الشيخ علي الزنيد لرصيف22، وهو أحد كبار رجال الإصلاح من عشيرة العزازمة العريقة في النقب، ويضيف: "مجتمع الصحراء صعب والعُرف العشائري أنقذه على مدار مئات السنوات. القانون العشائري منظومة مرتبة فيها إجابة محفوظة لكل قضية قد تؤدي لنزاع أو يظلم فيها إنسان. والأصل فيها في المبدأ هو لجوء الفرد أو الضعيف أو المطارد إلى طرف قوي وهو الشيخ أو القاضي لحمايته وحل مظلمته في عُرف العشائر وبحق الله".
العُرف العشائري هو منظومة عقوبات كاملة دون سجون ولا يمكن للمجتمع البدوي قبول أن يحكمهم عُرف عدا عرفهم
ويؤكد الزنيد على أنّ أصعب القضايا هي قضايا الدم و"الشرف"، فيقول: "دور رجل الإصلاح هو تقريب النفوس وحل النزاع. ودور القاضي هو إنزال العقاب على الظالم وإعادة الحق للمظلوم. العُرف العشائري هو منظومة عقوبات كاملة دون سجون ولا يمكن للمجتمع البدوي قبول أن يحكمهم عُرف عدا عرفهم. حدث كثيرًا أن تسجن إسرائيل قاتلًا لعشرات السنوات وعند خروجه من السجن يأخذ أهل القتيل قصاصهم منه. قانون إسرائيل يعقّد الأمور فقط. أما الحل الجذري العرفي ينهي النزاعات".
ويضيف عودة الزنيد: "كما تشدد المنظومة العرفية على الحق في القصاص من القاتل؛ تشدد على معنى الكرم في الدم أي أن أكرم الرجل في الصحراء هو من يعفو عن الدم. الكرم في الدم تاريخيًا هي صفة تلازم من يقدّمها لكل حياته. ويكون أكرم عرب الصحراء هو من عفا عن قاتل أحد أفراد عائلته. لكن ذلك لا يحدث من تلقاء نفسه، بل تقتضي المنظومة العرفية بالعديد من الإجراءات لحل قضايا الدم، منها الجلاء؛ وهو الرحيل من منطقة سكن أهل القتيل والابتعاد كثيرًا لسنوات، أو دفع دية نفس بعد تحديدها- وفي العديد من الأحيان يعفي الكريم عن الدية أيضًا- أو استمرار عمل رجال الإصلاح بين الطرفين حتى قبول عشيرة القتيل بانتهاء جلاء عشيرة القاتل إذا أرادت. ويسمى العافي عند قدرته بكريم الدم وهذه مرتبة اجتماعية شرفية بالنسبة لبدو النقب.
المرأة صائحة المسا وصائحة الضحى
لقد أعطيت نساء النقب نظرة مستحدثة تختلف عن النظرة الماضية، فتصوّر النظرة الحديثة النساء على أنهن ضلع قاصر في المجتمع، لا يخرجن من منازلهنّ حيث يقمن بدورهن الاجتماعي الأسري، ويدخلن بإرادتهن أو دونها نظام تعدد الزوجات. أما صورتهن الماضية فيعرفها جميع من تحدّثه من كبار السن؛ فقد مثّلت نساء النقب عناصر فعالة جدًا في المجتمع البدوي قبل نكبة عام 1948 وخلال حياة الخيام. تخرج النساء إلى العمل بجميع أشكاله كالتجارة وغيرها، تستقبل البدوية الضيف وتكرّمه في غياب الرجل، وتشارك الرأي في قضايا العُرف العشائري. وللبدوية قصاص مختلف في حال التسبب بالأذى للبدوية أو قتلها فهي تساوي أربعة رجال؛ أي أن قصاصها لا ينتهي بقتل قاتلها كما في القصاص بالرجل.ومن بين القصص المعروفة حسب قول الشيخ صياح الطوري لرصيف22: "في النقب كان باستطاعة المرأة إيقاف حرب بين العشائر، إذا خافت المرأة على زوجها أو رأت أن الحميّة (الاندفاع) الجماعية أخذت الرجال إلى حرب لا حق فيها، تقتحم المرأة ساحة المعركة وتقف بين الفريقين قبل بدأ القتال وتصرخ قائلة: "وجه الله بينكم"، فيترك الرجال الحرب وتتوقف في نفس اللحظة من الطرفين فور حدوث هذا المشهد. كما أنه من المعروف إذا وجد شخص ما غريمه الذي يبحث عنه،ولو غاب عنه لسنوات، يقوم بتركه وشأنه إن كانت برفقته امرأة".
يقول الطوري عن "قضايا الشرف": "إن لها منظومة قضائية خاصة بها تسمى "المنشد"؛ وتعدّ من أصعب العقوبات في القضاء العشائري، كالاقتصاص بأربعة رجال في حال مقتل امرأة. أما في حالة الاعتداء على النساء فنسمع مصطلح: "صائحة المساء وصائحة الضحى"؛ وهو المصطلح الذي تُسمى به من تستنجد بالناس لحماية نفسها من اعتداء على جسدها. ويقضي النظام العشائري بأن يعطى المرأة وأهلها الحق بأخذ قصاصها من المعتدي عليها- بيدها- أمام عشيرتها وعشيرة المُعتدي عليها".
الشيخ فريح أبو مدين- قاض عشائريّ (أرشيف مكتبة الكونغرس)
الدخيلة أو اللاجئة في قبيلتها
تمثل عملية الدَخالة أو اللجوء أكبر مسؤوليات العربي البدوي. والدخيل والدخيلة هم اللاجئون/ اللاجئات وهم كل مُطارد أو مطاردة أو مهدّد ومهدّدة يشعرون بالخطر أو التهديد على حياتهم سواءً كانوا مظلومين أم مخطئين. يقول الشيخ صياح الطوري:"بإمكان أي رجل أو امرأة الدخول على أي بدوي وطلب اللجوء عنده. وفي حال الدخول تصبح لطالب الدخول، بشكل ضمنيّ، عشيرة جديدة. فإذا مسه أو مسها أي أذى من مطارديه، يمس هذا بكرامة العشيرة التي دخل عليها وداس بساطها. ويصبح الثأر مطلباً للعشيرة التي وفرت الحماية للدخيل أو الدخيلة حتى من أهلها أو أهله. قد تتعدد أسباب الدخول لكن لا يمنع أي سبب عملية الدخول أو اللجوء مهما كان الجُرم. وإذا كانت الدخيلة فتاة تعتبر ابنة الشيخ بشكل تلقائي؛ يدفع ديتها إذا احتاجت أو يزوجها لمن أرادت في حال كانت هذه هي المسألة".تاريخيًا أُعتبر "لقب أبو البنات لقبًا مشرّفاً جداً بالنسبة لبدو النقب؛ يُمنح للقاضي العشائري الذي تلجأ عنده بنات النقب في حال شعورهن بالظلم، حتى إن كان الظلم من أهلهن، فيطلبن عدله وعنايته. ومن الأسماء المعروفة التي مُنحت هذا اللقب هو القاضي الشيخ سليمان العقبي الذي سمّي برائد تعليم البنات وأبيهن. وحتى يومنا هذا يعتبر كريمًا من حمى دخيلته رغم محاولات إسرائيل المستميته لتدمير هذا المفهوم واستبداله بما يسمى البيوت الآمنة، ما أدى الى انتهاء مفهوم الدخيلة تقريبًا من النقب.
يقضي النظام العشائري بأن يعطى المرأة وأهلها الحق بأخذ قصاصها من المعتدي عليها- بيدها- أمام عشيرتها وعشيرة المُعتدي عليها
حرب إسرائيل على العُرف العشائري
فهم الاحتلال الاسرائيلي مع السنوات خطورة القضاء العشائري وما يمثله من استقلالية عُرفية أقرب الى الحكم الذاتي لعرب النقب. مع بداية تأسيسها، اعترفت إسرائيل بالقضاء العشائري فأعاد القضاة الإسرائيليون قضايا عرب النقب لقضاة العشائر من أجل البت فيها. لكن مع الوقت خافت إسرائيل من تكريس القضاء العشائري لترابط المجتمع والوحدة في قضايا الأرض والقضايا الوطنية. فبدأت بالتغلغل في القضاء العشائري بشكل تدريجي؛ في العقدين الأخيرين زرعت إسرائيل شيوخاً بفكر مُأسرل في قلب المجتمع، وقامت بحماية القَتلة في حال تعاونهم مع الاحتلال، ما أضعف القدرة التنفيذية للمنظومة القضائية. ثم قامت بدعم شيوخ آخرين همّهم هو المال، فالقضاء الذي كان العدل سمته ويعبّر عن كرم الشيخ، استغله بعض شيوخ في جني الأموال. يضاف ذلك إلى عدم تناقل الموروث الفكري للقضاء العشائري بشكل سلس وعدم تدوينه بالشكل الكافي.يخاف عرب النقب من اندثار هذا العُرف. لكن لا تزال تُسمع حتى اليوم الجملة الأولى التي يلقاها البدوي العربي عند التوجه للقضاء العشائري: "ودك حق عرب ولا حق إسرائيل". يقول الباحث في القضاء العشائري قاسم الصرايعة لرصيف22: "العُرف العشائري هو منظومة قيمية بالدرجة الأولى؛ يحركه الشعور بالانتماء للجماعة، وهو ما يجبر الفرد على الامتثال للقضاء أكثر من قوة الردع. يخاف العربي البدوي أن تُمس "مراجلة" (رجولته) وقيمه أو أن يُطعن في كرمه أو تسقط كلمته او تقل هيبته. على هذه القيم التقليدية قام هذا النظام؛ الذي أجبر عليه الاتراك والبريطانيون، وتحاول اسرائيل اليوم تدميره".
ويضيف الصرايعة: "يعتبر البدو أنّ انتقال هذا الموروث إلى الجيل الشاب هو مهمة أساسية. كما أنّ السماح له بالتطور بما يلائم العصر واجب. ومن الأمثلة المهمة على تطور المنظومة التي عُمل بها هي إهدار دم تجار السموم الثقيلة الذين يبيعونها لأبناء العرب، حيث تمت ملاحقتهم عشائريّاً بسبب تدمير الشباب، محاكم البدو هي محاكم بلا سجون يحاسب فيها المخطئ على كل خطوة مشاها إلى مكان تنفيذه للخطأ ويجزى الكريم بكرمه وتذكر محاسنه أمام الجميع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...