من المقولة الشائعة "العين بالعين والسنّ بالسنّ"، إلى رغبة إينيغو مونتايا في فيلم الأميرة العروس The Princess Bride، بالانتقام من الشخص الذي قتل والده، حين توجه له بالقول: "أنت قتلت والدي، فاستعدّ للموت"، وصولاً إلى فيلم جوكر الشهير، وبطله الذي يقرر الانتقام من المجتمع بدم بارد، مروراً بالعديد من الأفلام العربية التي جسدت قصص الثأر ببراعة بالغة، مثل: غرام وانتقام (1944)، أمير الانتقام (1950)، دعاء الكروان (1959)، اللص والكلاب ( 1962)، موعد على العشاء (1981)... استحوذ فعل الانتقام على اهتمام البشر لفترة طويلة.
أما بالنسبة للأغاني، فهناك الكثير من الفنانين والفنانات الذين تحدثوا عن الغرام والانتقام، كأغنية "جرب نار الغيرة" لوردة الجزائرية، "ما بقاش أنا" للفنانة السورية أصالة، "حخونك" للفنانة اللبنانية كارول سماحة، وفي السياق نفسه طرحت مؤخراً، الفنانة نوال الزغبي، أغنية جديدة تحت اسم "القوية"، والتي تحدثت من خلالها عن المرأة التي مرّت بتجربة الانفصال عن الحبيب، ورغم ذلك حافظت على ثقتها بنفسها وقوتها.
وبالنظر إلى التاريخ الطويل لهذا الموضوع، قد يظن البعض أن البحوث العلمية قد توصلت إلى توافق في الآراء بشأن العواقب العاطفية للانتقام، إلا أن آثار هذا الفعل تبقى معقدة وغالباً ما تكون متناقضة.
بين الحلو والمر
"يستفزونك ليخرجوا أسوأ ما فيك ثم يقولون هذا أنت، لا يا عزيزي، هذا ليس أنا، هذا ما تريده أنت" (جورج برنارد شو).
عميق، مظلم وفي بعض الأحيان عاطفي، هذا ما يبدو عليه سعي الإنسان للانتقام، والذي هو عبارة عن عاطفة معقدة لدرجة أن العلم وجد صعوبة في شرحها.
لا شك أن الرغبة في الانتقام هي فكرة جذابة لمعظم الناس لكونها متأصلة في الطبيعة البشرية، بحسب ما أكدته الدكتورة روبن غاينز لانزي، أستاذة السلوك الصحي في جامعة آلاباما، لصحيفة نيويورك تايمز: "كل شيء يبدأ من طبيعتنا، لأن البشر كائنات تسعى إلى الحماية، بخاصة عند الشعور بالتهديد"، وأضافت لانزي: "إذا كان أطفالنا أو شريكنا أو غيرهم من الأحباء، أو عملنا أو قضيتنا التي نحملها بشغف، متضررين أو مهددين بأي شكل من الأشكال، فمن السلوك الغريزي أن نرغب في فعل أي شيء حيال ذلك".
والواقع أن الانتقام هو عبارة عن قوة داخلية ورغبة سرية تجري في عروق كل شخص منّا، بهدف تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية، فقد يشعر المنتقم باللذة وبحال من الارتياح لكونه تعرض للظلم وتمكن من "ردّ الصاع صاعين"، فقد قال شكسبير: "إذا وخزتنا، ستجد أننا لا ننزف؟ إذا داعبتنا ستجد أننا لا نضحك؟ إذا سممتنا، ستجد أننا لا نموت؟ وإذا آذيتنا، فسوف لا ننتقم؟"، قاصداً من كلامه أن الانتقام هو أمر طبيعي يمكن التنبؤ به مثل شروق الشمس.
ولكن في المقابل، يشدد البعض الآخر على أن الانتقام يدمّر نفسه بنفسه، فقد قال كونفوشيوس: "قبل الشروع في رحلة انتقام، احفر قبرين"، وهو رأي وافق عليه مهاتما غاندي بالقول: "إن مبدأ العين بالعين يجعل كل العالم أعمى".
وعلى الرغم من الإجماع الشائع على أن "الانتقام حلو"، فإن سنوات من البحوث التجريبية أشارت إلى عكس ذلك، إذ وجدت أن الانتقام نادراً ما يكون مرضياً كما نتوقع، وغالباً ما يترك صاحبه أقل سعادة على المدى الطويل.
وفي هذا الصدد، أضاف بحث جديد من جامعة واشنطن لمسة على "علم الانتقام"، مشيراً إلى أن علاقة الحب والكراهية المتعلقة بهذه الرغبة المظلمة للانتقام، هي في الحقيقة "حقيبة" مختلطة، تجعلنا نشعر بالراحة والسوء في نفس الوقت، لأسباب غير متوقعة على الإطلاق.
الانتقام قوة داخلية ورغبة سرية تجري في عروق كل شخص منّا، بهدف تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية، فقد يشعر المنتقم باللذة وبحال من الارتياح لكونه تعرض للظلم وتمكن من "ردّ الصاع صاعين"، إلا أنه غالباً ما يترك صاحبه أقل سعادة على المدى الطويل
قال مؤلف الدراسة، فاد إيداه، وهو طالب دكتوراه في العلوم النفسية والمخ في كلية الفنون والعلوم: "أظهرنا أن الناس يعبرون عن كل من المشاعر الإيجابية والسلبية حيال الانتقام، بحيث أن الانتقام ليس مراً ولا حلواً، ولكنه كليهما"، وأضاف: "نحن نحب الانتقام لأننا نعاقب الطرف المسيء، لكننا نكرهه في نفس الوقت لأنه يذكرنا بالفعل الأصلي".
واللافت أن هذه الدراسة، التي أجريت مع باحثين من مختبر السلوك والإدراك الاجتماعي في نفس الجامعة، وعلى رأسهم الأستاذ المشارك آلان لامبرت، وطالبة الدراسات العليا ستيفاني بيك، قدمت فهماً أكثر دقة لكل من مزايا وعيوب الانتقام.
استندت نتائج هذه الدراسة، التي نشرت في مجلة علم النفس الاجتماعي التجريبي، على ثلاث تجارب، طُلب فيها من نحو 200 شخص، ملء استبيانات على الإنترنت، لتقييم شدة الحالة المزاجية والعواطف الناجمة عن قراءتهم لآخر الأخبار التي تظهر على حساباتهم الشخصية، بما في ذلك الأخبار التي وصفت مقتل زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، على يد قوات الولايات المتحدة، رداً على هجمات 11 سبتمبر 2001 .
وقد صممت هذه التجارب لاستكشاف ما إذا كان الأشخاص على حق في التفكير بأن الانتقام لديه القدرة على جعلهم يشعرون بالسعادة، على الرغم من أن الأبحاث الأخيرة كانت تشير إلى عكس ذلك.
وتعليقاً على هذه النقطة، قال إيداه: "لقد تساءلنا عما إذا كان حدس الناس حول الانتقام أكثر دقة مما كان متوقعاً"، وأضاف: "لماذا يوجد مثل هذا التوقع الثقافي المشترك بأن الانتقام حلو ومرضي؟ إذا كان الانتقام يجعلنا نشعر بالسوء، فلماذا رأينا الكثير من الناس يهتفون في شوارع العاصمة الأميركية واشنطن ومدينة نيويورك، بعد إعلان وفاة بن لادن؟".
نتائج التجارب
في التجربة الأولى، كان المشتركون يقرؤون إما "تم تحقيق العدالة"، فيما يتعلق بالأخبار الخاصة بمقتل بن لادن، أو يقرؤون أخباراً غير سياسية تتعلق بالألعاب الأولمبية، ثم قاموا باجراء تقييم لمدى قوة مشاعرهم الحالية من خلال مطابقتها مع قائمة عشوائية مؤلفة من 25 صفة مختلفة، مثل: سعيد، منفعل، راض، غاضب، جنون، مستاء، أو حزين.
وعلى الرغم من أن هذا الإطار للتجربة يشبه الإطار المستخدم في دراسة أجراها آلان لامبرت، في العام 2014، حول الانتقام، إلا أن الباحثين قاموا بتعديل مرحلة تحليل البيانات للتركيز على قياس حجم العاطفة، بدلاً من الحالة المزاجية.
كشف إيداه إنه "في حالة مقتل أسامة بن لادن، فإن هذا الشخص كان مسؤولًا عن فعل إرهابي بشكل واضح- هجمات 11 سبتمبر- وهو ما يوفر سبباً يشرح لماذا يمكن أن يكون الانتقام مصدراً غير مباشر للمشاعر السلبية"، مشيراً إلى أن ما أظهره البحث الحالي هو أن "الطريقة التي نقيس بها المشاعر يمكن أن تكون مهمة للغاية".
العاطفة والمزاج
"لست مع ثقافة الانتقام ولكن أؤمن أن البعض يحتاج إلى دروس تأديبية ومن حسن حظهم أنها مجانية" (جوكر).
في بعض الأحيان، يستخدم علماء النفس مصطلحي العاطفة والمزاج بالتبادل، ولكن هناك اختلافات هامة بينهما، كما يتضح من نتائج الدراسة.
فالعواطف ترتبط في العادة ببعض الإثارة الواضحة والمحددة، والتي يمكن أن تكون شديدة، لكنها غالباً ما تكون عابرة وسريعة الزوال، أما المزاج فقد ينشأ تدريجياً، يدوم لفترة طويلة وغالباً ما تكون شدته منخفضة.
وفي هذه الدراسة، استخدم إيداه وزملاؤه أدوات لغوية متطورة بالإضافة إلى وجود قائمة من أنواع المزاج القياسية، وذلك بهدف التغلب على الاختلافات في المشاعر التي يبلغ عنها المشتركون، بعد قراءة المقطع المتعلق بالانتقام.
وأدى هذا التحليل إلى تكرار النتائج السابقة، التي أظهرت أن القراءة عن عمليات الانتقام تضع الناس في مزاج أسوأ، لكن التحليل وجد أيضاً أن نفس التجربة كانت قادرة على توليد مشاعر إيجابية.
وقال إيداه إن الورقة البحثية "تظهر باستمرار أن العواقب العاطفية للانتقام هي عبارة عن حقيبة مختلطة، بحيث أننا نشعر بالسعادة والحزن في نفس الوقت عندما ننتقم من طرف آخر"، مشيراً إلى أن هذه النتائج تتعارض مع بعض الأبحاث السابقة حول هذا الموضوع، والتي أظهرت أن الانتقام يضع الأشخاص في مزاج سيء بالكامل.
وبهدف اختبار هذه النتائج، كرر الباحثون التجربة باستخدام فقرات أخبار معينة لتجنب العبارات أو المحتوى الذي قد يهيء القارئ نحو مشاعر أو مزاج معين، فمن باب تجنب تحفيز المشاعر الوطنية، على سبيل المثال، أزال الباحثون الأخبار المتعلقة بالألعاب الأولمبية، واستبدلوا بها أوصافاً عامة للحساسية الغذائية، كما أنه جرى تغيير الصيغ الخاصة بخبر أسامة بن لادن، بحيث لا يشار إلى أن مقتل أسامة بن لادن جاء انتقاماً لهجمات 11 سبتمبر.
وعلى الرغم من هذه التغييرات، ظلت النتائج على حالها إلى حد كبير.
قال إيداه: "نحن نعتقد أن سبب شعور الناس بالرضا عن الانتقام، هو أنه يتيح لنا الفرصة لتصحيح الخطأ وتنفيذ هدف معاقبة شخص سيء"، مضيفاً بأنه من خلال الدراسة أعرب الأميركيون عن ارتياح كبير لوفاة بن لادن، "لأنه من المفترض أننا قد أنهينا حياة شخص كان العقل المدبر وراء تنظيم إرهابي".
سلاح ذو حدّين
يمكن القول إن الانتقام سلاح ذو حدّين، فمن جهة يولد الشعور بالارتياح، بخاصة عند التعرض للخيانة وغيرها من طعنات الحب، ولكن في المقابل تبيّن أنه يعيد وضع الإصبع على الجرح وإثارة المواجع من جديد، لكونه يذكر الضحايا بالأفعال الأصلية التي ارتكبت بحقهم، الأمر الذي من شأنه تدميرهم مرة أخرى، بمعنى آخر، إن الشخص الذي يفكر دوماً بالانتقام هو شخص يبقي جراحه مفتوحة.
في حديثها مع موقع رصيف22، أكدت الأخصائية في علم النفس نرمين مطر، أن الانتقام مبني في الأساس على المشاعر الأولية التي تكون في العادة سلبية.
وأوضحت مطر أن الرغبة بالانتقام تختلف من شخص إلى آخر، شارحة ذلك بالقول: "المرء قد يلجأ إلى الانتقام من أجل الوصول إلى الرضا الذاتي، إلا أن حدّة الانتقام تتفاوت بين الناس بحسب تجاربهم وخبراتهم الشخصية وخلفياتهم"، مشيرة إلى أن بعض الأشخاص يحاولون تزييف الأمور وتصبح ردات فعلهم fake "متصنّعة"، فيما البعض الآخر يقرر أن "ينام" على جرحه لبعض الوقت.
لا يمكن التحكم في الوقت الذي تغمر فيه العواطف السامة عقولنا، لكن يمكن التحكم في ما نقوم به رداً على الممارسات المجحفة التي ارتكبها البعض بحقنا
ولكن مهما اختلفت ردات الفعل، فإن الشعور الأولي السلبي لا مفرّ منه، على حدّ قول نرمين مطر، والتي ركزت على ضرورة أن يعود المرء إلى داخله، لفهم حقيقة ما يحصل و"مصدر الوجع"، قبل القيام بأي ردّة فعل سلبية قد يندم عليها في وقت لاحق.
صحيح أنه لا يمكن التحكم في الوقت الذي تغمر فيه العواطف السامة عقولنا، لكن يمكن التحكم في ما نقوم به رداً على الممارسات المجحفة التي ارتكبها البعض بحقنا، فقد يبدو السعي الى الانتقام من شخص جرحنا وكسر قلبنا فكرة جذابة، ولكن على المدى البعيد من المحتمل أن تلحق بنا ضرراً كبيراً، وبالتالي فإن الخيار الأفضل هو العودة إلى داخلنا ومحاولة معرفة جذور هذا الشعور الذي يسيطر علينا، واستخدامه كتجربة مثمرة، أو كإشارة تحذير، بينما نمضي قدماً نحو شيء أفضل، فإذا ركزنا انتباهنا على كيفية النهوض بحياتنا العاطفية وبصحتنا العقلية والجسدية، فلن نشعر بتحسن فحسب، بل سنكون قادرين على التعامل مع صعوبات المستقبل بمزيد من الذكاء والحكمة.
هنيئاً لمن يحمل قلباً لا يعرف معنى الكره والظلم والعداوة، وهنيئاً لقلب يسامح كل من يخطيء إليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع