عبقري ومتجاوز للمألوف واستثنائي في مسيرة الفن التشكيلي العربي عبر العصور، الساحر القادم من جناكليس وضواحي الرمل في عروس المتوسط بكل مفارقاته وتناقضاته وجنونه، الأرستقراطي السكندري، ابن رئيس وزراء مصر في بدايات القرن الماضي محمد سعيد باشا، وأغلى فنان تشكيلي عربي طبقاً لبعض الأرقام.
نجول مع الفنان المصري محمود سعيد في أسرار بداياته، تزامناً مع ذكرى ميلاده ورحيله معاً في مثل هذا اليوم المصيري في حياته 8 نيسان/ إبريل، الذي شهد لحظة الميلاد ومشهد الرحيل، لنستكشف طريق عبقرياته وصندوق أسراره.
وجه لا ينسى من مصر، رغم أنه خرج من قصورها، عشق طيبة البسطاء وابتسامتهم الصامدة في وجه الحياة، واختزل الروح المصرية في لوحاته حتى نجح في إعادة تشكيل الهوية المصرية بريشته المتفردة، ليصبح من الزعماء التاريخيين للأمة المصرية، وهي المرتبة التي لم يصعد لها إلا القليل من المبدعين المصريين، على رأسهم النحات الكبير محمود مختار، ونجيب محفوظ، وكوكب الشرق، وسيد درويش، والذين نجحت مشروعاتهم الفنية في إيجاد الخصوصية، والتفرد في روح مصر.
أصدقاء "جماعة الخيال"
ولد محمود سعيد في 8 نيسان/ إبريل عام 1897 في ضواحي منطقة الرمل بالإسكندرية، وقد عاصر خلال بدايات مسيرته الفنية في العشرينيات من القرن الماضي، فترة التحولات الكبرى في المجتمع المصري التي أعقبت ثورة 1919.
في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 1924، قام الفرنسي روجيه بريفال، ومحمود مختار، وجاك هاردي، وألبير مزراحي، ومعهم محمود سعيد، بتأسيس "جماعة الخيال"، التي كان شعارها يتكون من آلهة مجنحة من طراز "الأرت ديكو" فوق قاعدة ذهبية، استدعت تلك الجماعة مساحة الخيال والحلم والإيروتيكية في هذا الشعار، كما سعت بشكل واضح لدعم الإنتاج المحلي لمجموعة واسعة ومتنوعة من الفنانين، وسعت الجماعة إلى ترسيخ صورتها الذهنية ككيان يجمع الأطراف المتعددة داخله، وساعد على ذلك كوزمبوليتانية أعضائها المؤسسين، وحالتهم الفنية المذهلة، التي أنجبت مشاريع عظيمة، أثرت الحركة التشكيلية المصرية والعالمية، هل نستطيع أن ننسى مختار ومحمود سعيد؟
عمل مشروع أفراد "جماعة الخيال" التي خرج منها محمود مختار ومحمود سعيد لصناعة ملحمة فنية ووطنية خالدة، على تصوير الموضوعات المصرية، وهو الأمر الذي ميزهم عن جمعية أصدقاء الفنون الجميلة، فقد كان الدافع الوطني ظاهراً في مشروع "جماعة الخيال"، والهدف هو تطوير ساحة فنية محلية تتسع لكل الفنانين، وليس إقامة المعارض الدولية الضخمة.
شارع الأنتيكخانة
في 14 شارع الأنتيكخانة بوسط القاهرة، دارت الجلسات الفنية التي غيرت الحركة التشكيلية في مصر، كان العنوان المذكور عنواناً لمرسم روجيه بريفال، كما كانت "جمعية أصدقاء مختار" تقع بالقرب منه في الشارع ذاته.
لعب بريفال دوراً مهماً في تحريك المياه الراكدة، واستغل روجيه المصور الفرنسي موقعه في الشارع الصاخب، الذي كان يشكل المركز الرئيسي للحياة الفنية التشكيلية في ذلك الوقت، ليجمع "مختار" و"سعيد" وأصدقاءهما لتأسيس الجمعية في مقر المرسم. تخلل جلسات "الخيال" منذ بداياتها سماع الموسيقى وتبادل الأفكار، وكان هناك دائماً العديد من الضيوف، منهم أحمد راسم، والفنان التركي هدايت، وأندرية قطاوي، ومصور البورتريه بوسنجيه، ومحمد ناجي.
كمال الملاخ يكتب رثاء محمود سعيد بصحيفة "الأهرام" القاهرية
بدأ نجم محمود سعيد في التحليق بعيد تلك الأيام، عندما نظمت "جماعة الخيال" أول معارضها أواخر كانون الأول/ ديسمبر 1924، وشهد المعرض مشاركة كل من الفنانين محمود سعيد ومحمد ناجي ورجيه بريفال وشارل بوجلان، ولم يكن هناك دليل يعبر عن صعود المرأة المصرية في ذلك الزمن، أكثر من أنه تم تخصيص يوم للسيدات في لفتة عبّرت عن أهمية حضور راعيات الفن.
كان جمهور الفن التشكيلي في ذلك الوقت يتألف من البارونات والباشوات ورجال السياسة والمال والقانون، وكان الحراك يمضي في هدوء سبق عاصفة صعود الشخصية المصرية التشكيلية إلى عليائها، كان محمود سعيد الأكثر نجاحاً، وكتبت عنه الصحف، بعد أن كان صيته قد وصل إلى المصريين عقب تصويره البديع للقرية المصرية في لوحات "المنصورة" و"القرية العربية" و"طلخا منازل عربية".
كما تفوق سعيد في تلك المرحلة في نقل المشاهد الأوربية في لوحاته، مثل "بحيرة الحب في بروج" و"سلسلة مناظر لمنطقة مون دور"، وذلك نتاج للفترة التي قضاها في منطقة أوفرني الفرنسية، كما تذكر الدكتورة نادية رضوان، في كتابها الفريد "الأمة تصويراً ونحتاً".
قرية سعيد وقاهرة محفوظ
لا يقل ما فعله سعيد بتصويره للقرية المصرية عما فعله "نجيب محفوظ" بنقل روح الحياة القاهرية إلى عالم الرواية، وكلا المشروعين لعبا دوراً مركزياً في إعادة صياغة الهوية المصرية بلمسة فنية، لا يوجد من فعل ذلك في تاريخ مصر الحديث إلا قلائل، منهم محفوظ وسعيد ومحمود مختار.
يقول الفنان محمد ناجي (توفي عام 1956) عن محمود سعيد، وتلك الفترة الثرية من تاريخ مصر، بحسب كتاب (الأمة تصويراً ونحتاً): "لقد رأى محمود سعيد بشكل مختلف، وأحس بالقرية بشكل مختلف، أنها هي القرية المصرية بروثها وسعف أسقف منازلها، بعيداً عن العناصر الداخلية والتوقعات السياحية، كلها تخرج حية من لوحات سعيد".
الجماعات الفنية بـ"قاهرة العشرينيات"
توازياً، وفي مكان آخر بالقاهرة، كانت تدور حكاية أخرى، إذ كان الناشر اليوناني ستافروس ستافرينوس المقيم في مصر، يمتلك مكتبته في 23 شارع قصر النيل، بالقرب من شارع الأنتيكخانة، وكانت تلك المكتبة ملتقى لفناني وأدباء القاهرة، تخصصت تلك المكتبة في بيع كتب الفن والمصنوعات الجلدية والأوراق بأنواعها ولوازم الفنانين، بالإضافة لمستنسخات من روائع الفن الأوروبي الشهيرة، وعندما جاء عام 1926، أسس اليوناني ستافروس مجلة أسبوعية تحت عنوان "لاسومان إجيبسيان"، أو "الأسبوع المصري"، وأسهمت فيها مجموعة من زوار المكتبة وأصدقاء ستافروس، منهم الشاعر والناقد أحمد راسم، والفنان روجيه بريفال، وشارل بوجلان، ورسام الكاريكاتير جوان سنتاس، وراعي الفنون "بول ألفريد" الابن، ولأن مؤسسي المجلة من الأعضاء المؤسسين لجماعة الخيال، فقد سارت المكتبة والجماعة جنباً إلى جنب، في ذلك الزمن الذهبي من عمر مصر.
لا يقل ما فعله سعيد بتصويره للقرية المصرية عما فعله "نجيب محفوظ" بنقل روح الحياة القاهرية إلى عالم الرواية، وكلا المشروعين لعبا دوراً مركزياً في إعادة صياغة الهوية المصرية بلمسة فنية
وعلى الجانب الآخر، كانت جماعة "أصدقاء الخيال" الأدبية تتأسس، وتضم في عضويتها كبار الصحافيين والنقاد، منهم محمد حسين هيكل، واللبنانية مي زيادة، وأحمد راسم، والناقدة إيتيان ماريال، كما خرجت مجلة "إيجيبت نوفل" التي روجت أيضاً لجماعة الخيال، وقد صارت تلك الأجنحة تقود الحركة الفنية في وسط القاهرة خلال العشرينيات.
محمود سعيد يتحدث
وسط أثاره الباقية وتراثه منذ رحيله عن الحياة في 1964، يكشف حوار خاص عن الكثير من التفاصيل الغائبة عن شخصية سعيد، نشر باللغة الفرنسية في مجلة "الأسبوع المصري"، مع الفنان محمود سعيد في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، وأجراه الناقد الكبير جون موسكاتيللي.
لوحة "آدم وحواء" لمحمود سعيد
يقول سعيد للمجلة الفرنسية: "ليوناردو دافنشي سحرني طويلاً، وسأظل مفتوناً بقوة مايكل أنجلو، فهو الوحيد الذي ارتفع إلى منزلة أعلى من الإنسان ليصير أشبه بإله".
وعن علاقته بالأدب، يقول: "الكتّاب الذين أفضلهم هم دوستويفسكي ومارسيل بروست، والشعراء بودلير والكونتيسة دي نواي، وللعلم أيضاً، تجذبني موسيقى بيتهوفن وباخ وفاغنر وسترافنسكي. لكن من أفضله وأهيم به في العالم كله هو ابنتي نادية".
"مايكل أنجلو، هو الوحيد الذي ارتفع إلى منزلة أعلى من الإنسان ليصير أشبه بإله، لكن من أهيم به في العالم كله هو ابنتي نادية"، يقول محمود سعيد أبرز فنان تشكيلي مصري لمجلة فرنسية
ويضيف سعيد عن رؤيته الفنية: "حتى عام 1922 كنت مأخوذاً بحياة روبنز الصاخبة، ثم بالضوء الساحر في أعمال رمبراندت. ولم يكن آنذاك فنانو فنيسيا الذين كنت أشاهد أعمالهم كل عام أثروا في نفسي إلا قليلاً، باستثناء جيوفاني بلليني وكرباتشيو، وبعد صعلكتي بين أعمال الهولنديين، كان الافتتان بالفنانين الفطريين في التصوير كما في العمارة، فان إيك ومملينج وفان دان فايدن كانا يذهلانني بتكويناتهما الدقيقة، وألوانهما العميقة الزاهدة، واستخدامهما للمادة ببراعة، وفهمهما العميق للفورم. وفوق كل ذلك رؤيتهما الإنسانية الثاقبة".
أول كتالوغ مُسبب لفنان عربي
عن دار سكيرا للنشر في إيطاليا، صدر كتالوغ لمحمود سعيد عام 2017، وهو أول كاتالوغ مسبب (وهو الحكم الأعلى على الأصيل والمزيف بشكل رسمي) لفنان تشكيلي عربي، يتضمن كتالوغ محمود سعيد المُسبب ترجمة للمقالات التي كتبت عنه إلى اللغة الإنجليزية لأول مرة من اللغتين العربية والفرنسية، ونشر دراسات جديدة عن الفنان، كُتبت خصيصاً للكتالوغ باللغة الإنجليزية، وتتبُّع وتحديد وتوثيق وتأريخ وتأكيد لصحة الأعمال الفنية الكاملة للفنان.
وقد أعد المصري د.حسام رشوان والفرنسية فاليري ديديه هاس هذا الكاتالوغ ليبقى محمود سعيد خالداً في ذاكرة الحركة التشكيلية العالمية بعد صعوده الكبير في مزادات سوق الفن، عندما أعلنت «دار كريستيز» أن مزاداً لها في دبي شهد بيع «أغلى لوحة تشكيلية في العالم لفنان عربي» بتسعة ملايين و350 ألف درهم إماراتي (2.546 مليون دولار أمريكي)، وهي لوحة «الدراويش» التي تعود إلى عام 1929.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Nahidh Al-Rawi -
منذ 10 ساعاتتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
Tester WhiteBeard -
منذ 12 ساعةkxtyqh
بلال -
منذ 23 ساعةحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 5 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.