اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي غضباً في غزة بعد خبر مفاده "تنازل زوجة الفاعل عن القضية وتخلية سبيله".
في التفاصيل، فقد أودى الأب (46 عاماً) بحياة ابنه البالغ من العمر تسع سنوات، بعدما انهال عليه بالضرب المبرح أثناء العمل معه، وبعد أن ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بحالة من السخط حيال ما جرى، وطالب المعلقون إيقاع أقسى درجات العقاب على الأب الجاني، انتشر في اليوم التالي للجريمة خبر يفيد بتنازل الأم عن القضية، وإخلاء سبيل الأب مما شكل صدمة مدوية، واشتد السخط مرة أخرى ولكن هذه المرة على الأم التي فرطت في حق طفلها البريء، وحقها الشخصي في المطالبة بعقاب الأب، لكن كما يقال فإن وراء الأكمة ما وراءها، فما الذي يدفع النسوة اللاتي حدثهن رصيف22 للتنازل عن هكذا نوع من القضايا؟ وهل يمارسن بعد هذا التنازل تنازلاً من نوع آخر؟
"خايفة من أهله"
تنازلت المطلقة الأربعينية رفيف عبدو (اسم مستعار)، فلسطينية من قطاع غزة، عن قضية قتل زوجها لابنتها البالغة من العمر 19 عاماً، التي تعيش مع والدها بعد طلاق الأم، وقتلها أبوها لأنها تواصلت مع أمها يوم عيد الأم، لتقول لها كل عام وأنت بخير.
تقول رفيف: "ما إن علم أبوها أنها اتصلت بي حتى ضربها ضرباً قاسياً، فارقت الحياة بعده".
وفي سؤال حول الأسباب التي دفعتها للتنازل، تقول: "خفت من أهله، فقد قاموا بتهديدي في حال لم أتنازل عن القضية، في البداية لم أخف، ولكن حين اقتنعت بأن ابنتي الوحيدة لم تعد موجودة، رأيت أنني لن أستفيد شيئاً من محاكمته، فأنا لا أريد مزيداً من المشاكل، خاصة أنني على ذمة رجل آخر قد تتأذى حياتي معه جراء ملاحقة طليقي في المحاكم".
لا معيل غيره
عدم وجود معيل غيره، دفع رشيدة أحمد (54 عاماً) وهي ربة منزل من قطاع غزة إلى التنازل عن قضية قتل زوجها لابنها.
تنازلت رشيدة عن قضية "ولاية الدم"، بعدما قتل زوجها ابنها البالغ تسع سنوات، على إثر مشادة بينها وبينه بسبب شكه في أن هذا الولد ليس من صلبه، "فنحره بسكين رخيص"، بحسب تعبيرها.
تقول رشيدة لرصيف22: "تنازلت عن القضية لأنه لا معيل لنا غيره، فإن بقي في السجن من سيصرف علينا، خاصةً أن لدي أربعة أطفال".
"أتردد على طبيب أمراض نفسية وأعصاب لأنني لا زلت أعيش الصدمة، كما أنني أخاف من الآتي، وأخاف أن يعيد ما فعله مع أحد أطفالي، أعيش كابوساً لا يعلمه سوى الله"
وتعيش السيدة نوعاً آخر من التنازل، فتقول: "لا أعيش معه حياتي كما السابق، فأنا في رعب يومي، كما أن حياتنا الزوجية "الحميمية" قد انتهت، لم أعد أطيق وجوده بقربي، وهو يعلم جيداً أنني أعيش معه لأن لا خيار آخر لدي".
وتضيف بعد صمت ثقيل: "أتردد على طبيب أمراض نفسية وأعصاب لأنني لا زلت أعيش الصدمة، كما أنني أخاف من الآتي، وأخاف أن يعيد ما فعله مع أحد أطفالي، أعيش كابوساً لا يعلمه سوى الله".
مطالبات بتعديل القانون
ترى رناد زهرة (56 عاماً)، حقوقية من غزة، أن قانون الصلح الجزائي المعمول به في فلسطين يتعامل مع الجنايات وجرائم القتل في نطاق العائلة، على أنها أشياء بسيطة، يتم التنازل عنها من "أولياء الدم" حسبما يجري عرفاً، وأن القانون يتعامل مع الجريمة على أنها ضرب أفضى للموت.
وتلفت زهرة إلى أن المطلوب هو نسف الحل الجزائي في مثل هذا النوع من الجرائم التي تُظلم بسببها المرأة مرتين، مؤكدة أنه ليس من حق أحد التنازل عن حق أي واحد من عائلته.
يعرف التنازل عن هكذا قضايا في غزة عشائرياً باسم "تنازل ولي الدم"، إذ يتم تنازل رب الضحية عن حقه الشخصي في القضية، وهو عرف يراه البعض في غزة مغذياً للعنف الأسري.
نوع من تهاون المنظومة القانونية في قضايا العنف العائلي.
ويفجر هذا النوع من التنازل حالة غضب عارمة في الأوساط النسوية والمجتمعية الحقوقية، ويسلط الضوء على خلل يتطلب الحاجة لتعديل بنود هذا القانون الرجعي الذي ينص فيه الصلح الجزائي على عقوبة مالية على القتل غير المتعمد لا تتجاوز 2000 دولار، إذا تنازل ولي الدم عن القضية، وهو بحسب مراقبين نوع من تهاون المنظومة القانونية في قضايا العنف العائلي، كما يسلط الضوء على سيكولوجية المرأة في هذا المضمار، وكيف تعيش جحيماً لا يطاق سواءً تنازلت أم لم تتنازل.
هذا وقد قتلت 10 سيدات وفتيات على أيادي عائلاتهن في غزة منذ بداية عام 2020، بحسب حديث أريج الأشقر، مسؤولة اتحاد لجان العمل النسائي بالجبهة الديمقراطية لرصيف22.
يشار إلى أن المشرع الفلسطيني استحدث مادة في قانون العقوبات رقم 74 لسنة 1936 بإضافة مادة 8 مكرر تجيز للمحكمة اعتبار عفو ولي الدم أو دفع الدية سبباً مخففاً للعقوبة.
الأم والمجتمع القبلي
وحول ما يدفع النسوة إلى إسقاط حقهن في هكذا قضايا، تقول الأخصائية الاجتماعية ريم مهنا (45 عاماً) من الضفة الغربية: "في المجتمع القبلي عامة تخضع النساء لضغوط اجتماعية واقتصادية هائلة، لإجبارهن على التنازل عن هكذا قضايا، وفي حالات أخرى تضطر النساء لعدم التبليغ عن الإساءات التي يتعرض لها أطفالهن بفعل التهديدات".
وتضيف: "تتعلق هذه التهديدات بجوانب اجتماعية، كالخوف من نظرة المجتمع للأسرة، الأمر الذي قد يؤثر على فرص بناتها في الزواج إذا بقي الأب في السجن، بالإضافة إلى الخوف من تهديد عائلة الزوج بالتخلي عن عائلته، وعدم مساعدة الأم مالياً".
وترى مهنا أن المرأة هنا تقع بين خيارين كلاهما مر، فهي إن تنازلت عن حقها تصبح مهددة في ظل أب قاتل فالت من العقاب بغطاء قانوني لا إنساني، ومن جهة أخرى إن لم تتنازل فهي مضطرة لمواجهة مجتمع بأكمله، الأمر الذي قد لا تستطيع تحمله في ظل مجتمع ذكوري، يرى أنها "سجنت زوجها وأودعته خلف القضبان".
"لم أتنازل"
على عكس رفيف ورشيدة، لم تتنازل الثلاثينية والدة الطفل قصي، الذي لقي حتفه على يد والده، قبل ستة أعوام، فما تزال هي وأطفالها يدفعون ثمن عدم تنازلها عن حقها الشخصي، في وقت أطلق سراح الأب بعد ثلاثة أعوام ونصف العام من وفاة الطفل.
وتوفي الطفل قصي (13 شهراً) عام 2009، إثر تعرضه لضرب مبرح من قبل والده كـ"وسيلة للتنفيس عن غضبه ومشاكله في العمل"، فيما كانت الأم تقف عاجزة عن حماية أصغر أطفالها، كونها هي الأخرى، "كانت تتعرض لأسوأ أشكال العنف".
عجزت والدة قصي عن حماية طفلها في حياته، لكنها أخذت عهداً على نفسها ألا تتنازل عن حقه، وأن تحمي إخوته الآخرين، هذا العهد تسبب بضغوط اجتماعية وأسرية واقتصادية عالية، وامتناع الأب وعائلته عن دفع النفقة والتكفل بمصاريف الأبناء.
تقول الأم، وهي أردنية تعيش في بيت متهالك بعد أن طردتها عائلة الزوج من بيتها: "تعرض ابني لأسوأ أشكال العنف، وعلى مدار سبعة أشهر من عمره القصير، كان والده العاطل عن العمل، يضربه بشكل يومي على سبيل التنفيس، لم يكن قصي الوحيد الذي يتعرض للضرب، بل كذلك إخوته الستة وأنا، لكن كونه الأصغر سناً، لم يتحمل الألم ورحل عن الحياة”.
وتعرضت والدة قصي لضغوط وتهديدات من عائلة زوجها بأنه في حال توجهت للشرطة، فإنها وأولادها سيصبحون في الشارع.
إن تنازلت عن حقها تصبح مهددة في ظل أب قاتل فالت من العقاب بغطاء قانوني، ومن جهة أخرى إن لم تتنازل فهي مضطرة لمواجهة مجتمع ذكوري يرى أنها "سجنت زوجها وأودعته خلف القضبان"
تقول: "حين عاود زوجي ممارسة العنف على بقية أطفالي، تأكدت أن سكوتي يعني كارثة أخرى، وأن روح ابني لن تسامحني أبداً، فتوجهت لمركز الشرطة واعترفت بأن قصي لم يمت قضاءً وقدراً بل نتيجة ضرب مبرح”.
خضع الأب للمحاكمة وفقاً لقانون العقوبات المعمول به، وحكم عليه بارتكاب الإيذاء المفضي إلى الموت، ونال الحد الأدنى من العقوبة، وهو خمس سنوات.
وحسب الأم، فقد مورست عليها ضغوط من قبل عائلة الزوج، حتى تسقط حقها الشخصي، لكنها رفضت، وخلال فترة وجود الزوج في السجن حصلت على الطلاق بمساعدة قانونية من مجموعة القانون لحقوق الإنسان “ميزان”.
وحول توجهها للحديث إلى الإعلام، بعد ست سنوات من وفاة طفلها، تقول الأم: “لدي رسالة. غالباً ما توافق الأمهات على إسقاط حقهن الشخصي نتيجة ضغوط اجتماعية شديدة، أو نتيجة أبعاد اقتصادية، في حالتي كان ثمن رفضي إسقاط الحق الشخصي باهظاً جداً”.
وتتابع: “أتمنى أن يلغى بند إسقاط الحق الشخصي في هذه القضايا، أولاً لتحقيق العدالة وضمان حقوق الضحايا، وثانياً لتجنيب الأهالي، تحديداً الأمهات، الضغوط التي من الممكن أن يتعرضن لها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...