قد يحدث أننا ننسى في معظم الأحيان، حين نتحدّث عن وضعية المرأة الصعبة بشكلٍ عام، في العالم العربي ومناطق أخرى على وجه المعمورة، أن الطرف الآخر والأساسي في المعادلة الذي هو الرجل، يعيش أيضاً ظروفاً ليست بالهيّنة بتاتاً.
فكلّما أردتُ أن أكون مدافعةً عن بنات جنسي وأنتفض لقضاياهن، لأنها تهمّني وتعنيني بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر، كلّما كرهت الصورة التي يُقدَّم فيها الرجل في خضمِّ كلّ هذا على أنه العدّو – الديكتاتور، وقاهر النساء في كلّ زمان ومكان، لأن هذا يبدو تطرّفاً واضحاً، ولا يمتّ للحقيقة بكل أجزائها بصلةٍ، ولا أحبّذه مطلقاً.
لطالما اعتقدت أن نسبة كبيرة مما قد تعانيه المرأة هو نتاج عوامل مختلفة، قد تشارك فيها المرأةُ الرجلَ في سلوكيّات شبه رجعيّة ومواقف تعجّل من تحقيق كوارث على مستوى العلاقات، وفشلٍ ذريعٍ في الحياة عموماً، ما يعني أن جزءاً من النساء هو شريك، بشكلٍ أو بآخر، لقمعها وقمع أخريات، لذا فتركيزي في هذا المقال على الرجل العربي لا يعني بتاتاً أن نظيرته المرأة العربيّة تتفوّق عليه في الحياة.
أن يكبر ويصبح "رجلاً"
تربّى أجيال من الرجال لأزمنةٍ طويلةٍ على يد أمّهاتٍ يعتقدن أن مفهوم الرجولة يرتبط بالقسوة، الصرامة والصلابة، حيث أسلوب التربية والتعامل الذي تتبنّاه الأم مع ابنها، يتحكّم فيه خوف دفين بأن لا يكبر ليُصبح رجلاً بالمعنى المجتمعي المُتعارف عليه، وأن يُظهر، بشكل أو بآخر، شيئاً من النعومة والليونة في طفولته، فتكون أصابع الاتهام موجهةً لها مباشرة، من طرف الوسط الذي تعيش فيه، وبالأخصّ شخص الأب الذي يكون قد تخلّى أصلاً عن دوره الأساسي في تربية الولد، منذ المراحل الأولى من عمره، طبعاً لأن الاعتقاد السطحي الشائع، أن الأم هي المكلّفة بتلبية الاحتياجات الأساسيّة للأبناء .
ما لا يدركه الرجل العربي هو أن التعبير عن المشاعر كالحبّ، الإعجاب، الإحباط والضعف، هو حاجة إنسانيّة ماسّة ليظلّ متواصلاً وواعياً بذاته، وهو ليس صفة تخصّ المرأة فقط
وفي بيئةٍ مثل هذه، حيث المسؤوليّة عن شخصية الطفل، مجموع سلوكيّاته وكيف يبرز في المجتمع لاحقاً، تكون ملقاةً بالكامل على عاتق الأم التي بدورها تضع عبء كلّ أحلامها الضائعة، إحباطاتها الشخصيّة واحتياجاتها الحسيّة والماديّة أحياناً، على كاهل هذا الطفل الذكر، الرجل البالغ مستقبلاً، ودون وعي ذاتي بحالتها النفسيّة العاطفيّة وتأثيراتها المباشرة على جودة أمومتها، ومدى قدرتها على رؤية ابنها الطفل، وليس الرجل الذي سيغدوه عندما يكبر، يصبح تدريجيّاً جلّ تركيزها على "تجنيده" عوض تربيته وإعداده ليكون إنساناً واعياً أوّلاً، ثمّ رجلاً لا يهاب أن يُظهر جوانبه الليّنة، في المواقف التي تحتاج ذلك، مع حبيبته مثلاً، شريكة حياته أو أطفاله الذين يكونون الضحيّة الأولى للانسداد العاطفي عند والدهم.
غارقون في فانتازيا الذكورة فاقدين لإنسانيتهم
غير أن الحقيقة مؤلمة للأسف، وهذا ليس مبالغة أبداً، حين نرى رجالاً يمضون معظم حياتهم في احتفالٍ دائمٍ برجولتهم، غارقين في فانتازيا الذكورة، يفقدون إنسانيتهم على الآخر، فلا يبقى في أدمغتهم الصغيرة سوى فكرة أنهم رجال! وآخرين ضائعين في ازدواجية الأدوار المُسندة إليهم من طرف المجتمع، مساكين حائرين، بين لعب دور الجنتلمان أو "سي السيّد"!
ما لا يدركه الرجل العربي هو أن التعبير عن المشاعر كالحبّ، الإعجاب، الإحباط والضعف، هو حاجة إنسانيّة ماسّة ليظلّ متواصلاً وواعياً بذاته، وهو ليس صفة تخصّ المرأة فقط، وما لا يستوعبه أيضاً أن الأنثى تحبّ أن تسمع ما يحمله اتجاهها من مشاعر حتى لو كانت سلبيّة، خاصّة إذا تعلّق الأمر بغضبٍ أو عتابٍ معيّن، غياب هذه القدرة أو عدم نضجها عند الرجل يضطرّها للقيام بمجهودٍ فكريٍّ ونفسيٍّ مضاعف لترجمة أدائه وتحديد نواياه، مواقفه و مشاعره، أي إنسان كان ذكراً أم أنثى غير متواصل مع مشاعره الحقيقيّة، يجد صعوبةً في تسميتها ويُقاومها بشكل دائم، قد يحكم على نفسه بالتشتّت والتعاسة، وليس هناك تعاسة أكبر من أن يخسر شخص أحباءه لأنه عاجز عن معالجة أحاسيسه.
تربّى أجيال من الرجال لأزمنةٍ طويلةٍ على يد أمّهاتٍ يعتقدن أن مفهوم الرجولة يرتبط بالقسوة، الصرامة والصلابة، حيث أسلوب التربية والتعامل الذي تتبنّاه الأم مع ابنها، يتحكّم فيه خوف دفين بأن لا يكبر ليُصبح "رجلاً".
غير أن الحقيقة مؤلمة للأسف، وهذا ليس مبالغة أبداً، حين نرى رجالاً يمضون معظم حياتهم في احتفالٍ دائمٍ برجولتهم، غارقين في فانتازيا الذكورة، يفقدون إنسانيتهم على الآخر، فلا يبقى في أدمغتهم الصغيرة سوى فكرة أنهم رجال!
لا يجرّمه أحد إذا بكى قائلًا: "الرجال لا يبكون!"، لأن هذه أكبر جريمة في حقّ طفل سيكبت أحاسيسه في الربع الخالي من لاوعيه، ويتبرمج على فكرٍ مسطّحٍ، فحواه أنه رجل والعاطفة تساوي ضعفاً.
احتواء الطفل الذكر
أعتقد بشدّة بأن بناء جيلٍ من الوعـي الكامل لدى الرجال يعود أوّلاً إلى ضرورة وجود أمٍّ واعيةٍ بذاتها، لأنها تمثّل القوة المُشكّلة لمستوى جودة الحياة ونوعيّة العلاقات التي يعيشها الأشخاص البالغين، أمّ تحتوي طفلها الذكر وتُتيح له المساحة المعنويّة لأن يكون طفلاً فقط، وما لا شك فيه أن هذا دور الأب أيضاً، فلا تُجرّمه إذا بكى قائلةً: "الرجال لا يبكون!"، لأن هذه أكبر جريمة في حقّ ذاك الطفل الذي سيكبت أحاسيسه في الربع الخالي من لاوعيه، ويتبرمج على فكرٍ مسطّحٍ، فحواه أنه رجل والعاطفة تساوي ضعفاً، وبناءً على هذه الخزعبلات تُصبح المرأة مرادفاً للنقص عنده، إذا كانت أكثر تواصلاً منه مع عوالمها الداخليّة.
على كلّ عربي تجاوز إيغو الرجولة الشرقيّة، ويعي حاجته للعمل على تحرير مشاعره، أن يتوقّف عن الهروب، ويخصّص جلسة تفكير وتأمل مع نفسه، حتى يستطيع أن يحسم أمر عواطفه المكبوتة، ويجد طرقاً خلاقةً ليعيشها بالكامل، بكلّ بساطة وإلى الآخر، مهما كانت النتائج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...