يعرّف الروائي المصري الراحل أحمد خالد توفيق، صاحب سلسلة ما وراء الطبيعة، الخوفَ في روايته "السنجة"، بأنه الخوف البرجوازي القديم؛ بعد موت ما يسمّيه بـ"المخاوف الدينيّة"، لم يبق إلّا هذا الخوف المتمثّل في: الخوف من الفضيحة، الخوف من عيون الآخرين، الخوف من أن تفعل شيئاً لا يليق بطبقتك، الخوف من أن تفعل شيئاً لم تر أباك يفعله قط.
يشكّل "الخوف البرجوازي القديم" بتعريفه عند خالد توفيق، هاجساً مستمرّاً في حياة المصريّين، فتكاد لا تخلو قصص الحب والمواعدة من الفضيحة، سواءً من الأعمال التي تجرّمها التقاليد الشرقيّة، كالارتباط والجنس خارج إطارهما الرسمي.
الخوف من الفضيحة: "بيتلصّصوا عليّ"
أسماء علي، فتاة عشرينيّة، تعيش في حي دار السلام الشعبي، جنوب القاهرة، تتبنى أسلوب حياةٍ محافظٍ، ترتدي غطاء رأس، وبنطلون واسع، داخل منطقتها، وتخلعه بمجرد خروجها؛ هناك لا تستطيع مواعدة حبيبها، ولا ترتدي ملابسها المفضّلة، خوفاً من عيون أبناء حيّها.
تحكي علي، العاملة في مجال التسويق، أنَّ أحد جيرانها تلصّص على مقابلاتها العاطفيّة حتى رآها مرة في مكان عام خارج حيها، ومنذ ذلك التوقيت يطاردها بنظراته كلّما رآها في الشارع.
"أعيش في خوفٍ مستمرٍّ من أبناء منطقتي، لا يحترمون الخصوصيّة، ولا يعرفون معنى كلمة مواعدة غراميّة لفتاةٍ بدون خطوبة أو زواج".
تخشى الفتاة من المجاهرة بعلاقتها "السريّة" وسط أسرتها، فأبوها سيعتبرها ساقطةً لإقامتها علاقة غير رسميّة، وهو ما يجعلها تعيش في قلقٍ دائم، رغم إدراكها أنها لم ترتكب ما يخالف قناعاتها.
تتشابه حكاية أسماء مع حكاياتٍ كثيرةٍ لفتياتٍ مصريّات تمتلكن رصيداً كبيراً من هواجس الفضيحة والابتزاز بأشكالٍ مختلفة، تسيطر عليهن باستمرار، ما قد يدفعهن للانتحار في أي لحظةٍ بسبب الخوف من الفضيحة، وعدم قدرتهن على مواجهة الأسرة والمجتمع.
بعد موت "المخاوف الدينيّة"، بحسب الروائي أحمد خالد توفيق، لم يبق إلّا الخوف المتمثّل في: الخوف من الفضيحة، الخوف من عيون الآخرين، الخوف من أن تفعل شيئاً لا يليق بطبقتك، الخوف من أن تفعل شيئاً لم تر أباك يفعله قط.
علياء الصاوي، سقطت في فخ الابتزاز الجنسي على مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما أرسلت صورها بدون غطاء رأس وبعض أجزاء عارية من جسدها لحبيبها في إحدى المحادثات. قرار ندمت عليه الفتاة ذات الـ19 عاماً بعدما فوجئت بتهديدها من الشاب بنشر صورها إن لم تقم معه علاقة جنسيّة.
عاشت علياء أسابيع طويلة من القلق بسبب الخوف من الفضيحة، بعدما أغلقت حساباتها الإلكترونيّة للهروب من طلب الشاب.
تقول بحسرة: "تعاملت بحسن نيّة لكني فوجئت بخسّة الشاب، وعشت في قلقٍ رهيبٍ لم أتعاف منه حتى الآن، لا أعلم ما ينتظرني في المستقبل".
هناك من يواجه شبح الفضيحة بجرأةٍ وثباتٍ انفعالي خصوصاً في موضوع الابتزاز الجنسي، وهو ما قدّمته الناشطة النسويّة غدير أحمد، صاحبة مبادرة "ثورة بنات" التي تطالب بمزيد من التحرّر للنساء، بعدما أرسلت فيديو وهي ترقص بملابس كاشفة في منزل إحدى صديقاتها إلى حبيبها، إلى أن تحوّل هذا الفيديو بعد انتهاء العلاقة إلى مستندٍ سرّي قام بنشره أمام الجميع على السوشيال ميديا.
ربما هزّها الموقف في السابق، لكن غدير التي استقلّت عن أسرتها التي تعيش في دلتا مصر، قرّرت فيما بعد أن تنشر الفيديو على صفحتها وهي ترقص لإغلاق تلك الصفحة من حياتها، قائلة: "الوقت قد حان لوقف استخدام أجساد النساء لإشعارهن بالعار ولإسكاتهن. وقالت: شاهدوا الفيديو. أجيد الرقص. لا يوجد ما يُشعرني بالعار".
أزمة الفيديوهات برزت بشدّة في الآونة الأخيرة بعدما قاد فيديو مسرّب للممثلتين الشابتين منى فاروق وشيما الحاج، بصحبة المخرج المعروف خالد يوسف، إلى السجن، حيث وجّهت النيابة لهما تهم ارتكاب فعلٍ فاضحٍ والتحريض على الفسق. انتصرت سلطة المجتمع، واجتماعياً، كرّست الأزمة مبدأ "الرجل دائماً على حق".
وبحسب إحصائيّات وزارة الداخليّة، جرى ضبط قرابة 200 ألف حالة تحرّش منذ عام 2016، منها 50 حالة ابتزازٍ جنسي على صفحات التواصل الاجتماعي كلّ 10 أيّام، حسبما صرّح النائب شريف الورداني، أمين سر لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان المصري.
الخوف من الفقر: "الزمن غدار"
بجانب الخوف من الفضيحة، يتصدّر الخوف من الفقر لائحةً طويلةً من أنواع الخوف عند المصريين، وهو ما يجعلهم قلقين على مستقبلهم باستمرار، خصوصاً في ظلِّ تأرجح الظروف الاقتصاديّة وتآكل مدّخراتهم خلال السنوات الأخيرة، فلم يعد المتمرّغ بالميري (الوظيفة الحكومية) مستقرّاً وهادئ البال كما كان، ولا يأمن "الأرزقي" صاحب العمل الحرّ، "غدر الزمان" طوال الوقت.
"الخطر يلازم حياتنا، والخوف يحاوطنا بشكل مستمر، والمخاطرة موجودة" يتحدث بحراوي متحديا مخاوفه، ومتحمّساً للعالم الجديد الذي بدأ في اكتشافه.
"لم أكن أتخيّل أن ألجأ لعملٍ إضافي بجوار وظيفتي الحكوميّة" يقولها أكرم سعيد، مدير إحدى الهيئات الحكوميّة بقطاع الغزل والنسيج، حيث يخصّص الآن بضع ساعات من وقته للعمل على عربته بشركة أوبر للنقل الخاص.
يعمل سعيد صاحب الـ50 عاماً، في القطاع الحكومي منذ 30 عاماً، أي بعد تخرّجه من الجامعة مباشرة، ويعول أسرةً مكوّنةً من 3 بنات وولد، وهو ما دفعه لزيادة دخله لتوفير مصروفات زواجهن.
"ما أتحصّل عليه لم يعد يكفي الحياة اليوميّة، لذا ألجأ لإجراء توصيلات أوبر بعربتي الخاصة في فترة الليل.. في الصباح مدير في المصنع والمساء سائق" يقولها الرجل بمرارة ثم يضيف: "أخشى وفاتي قبل سترة بناتي".
ويوجد في مصر نحو 5.2 مليون موظف بالقطاع الإداري للدولة، تسعى الدولة لتقليص هذا الرقم من خلال نظام الترقيات في قانون الخدمة المدنيّة، الذي بدأت تطبيقه قبل عامين ونصف العام، ما أثار مخاوف كبيرة وسط موظفي الحكومة، ومن بينهم أكرم سعيد، الذي يخشى الإطاحة به في أي وقت.
سابقاً، كان سعيد يعتقد أن دخله الحكومي لن يتأثّر بأيِّ اضطراباتٍ اقتصاديّة، حتى عصف به قرار تعويم الجنيه، في ظلّ ما تسميه الحكومة بفاتورة الإصلاح الاقتصادي التي انطلقت في شتاء 2016، لتجرّده نار الأسعار من مميزات العمل الحكومي وعائده المستقرّ.
طوال العقود الثلاثة الماضية لم يشعر الموظف الخمسيني بالخوف إلا في السنوات الصعبة الأخيرة، يقول: "المستقبل المادي لأسرتي بات محفوفاً بالمخاطر، فلم أعد عضواً بالطبقة المتوسّطة التي تمتلك مدّخراتٍ ثابتةً وتصيّف باستمرار، الآن نتحسّر على تلك الأيام".
وانزلق الملايين من المصريين من الطبقة المتوسّطة إلى فئة محدودي الدخل، لينخفض عددها من 5.7 مليون شخص بالغ في عام 2000 إلى 2.9 مليون بالغ في 2017، يمثلون الآن 5% فقط من إجمالي البالغين، حيث فقدت تلك الشريحة أكثر من 50% من إجمالي دخلها ورقياً بعد تعويم الجنيه المصري.
تجاوز سعد جمعة الخامسة والستين من عمره، لكن ما زال يعمل في حرفة الرخام الشاقّة، التي يمتهنها قطاع كبير من عمّال اليوميّة، يتجاوز عددهم 5 مليون مصري، أغلبهم من الأميين وممن لم ينالوا حظهم من التعليم.
قضى سعد نصف عمره تقريباً في هذه الحرفة، ولا يستطيع التخلّي عنها اليوم رغم أضرارها الصحيّة، وتخطيه مرحلة المعاش المرتبطة بالستين في مصر، كونها مصدر دخله الوحيد الذي ينفق منه على أسرتين من 7 أفراد، لفشله في جمع مدّخرات تريحه في سنواته الأخيرة.
"أخاف الاحتياج والفقر، رغم تراجع صحّتي بسبب الربو الناتج عن الرخام، لكن لا أفكّر في التقاعد، فإذا جلست في بيتي يوماً واحداً لن أجد طعام زوجتي وأولادي" يتحدّث سعد عن شبح الخوف من الفقر الذي يلازمه كلّما فكّر في ترك حرفته.
يستيقظ في الخامسة ولا يعود إلى منزله إلا قبل غروب الشمس، روتين اعتاده سعد ولم يتغيّر طوال عمله في تشطيب المشروعات الإنشائيّة بمناطق مختلفة. "أشعر بأنني قصّرت في حقِّ نفسي بسبب عملي بعد بلوغي الـ65، فغيري يستمتع بالتقاعد في منتجعات سياحيّة أو وسط أحفاده، لكن لا أعرف طعم الراحة بل أخشاها، حتى لا أجد نفسي سارقاً أو شحّاذاً في آخر عمري".
رفاهية تغيير المهنة غير موجودة عند قطاع كبير عند المصريين، لكن بحراوي امتلك الشجاعة
مستوى آخر من الخوف يعيشه الشاب أحمد بحرواي، الذي غامر بالكثير من ماله وأجزاءٍ من حياته بحثاً عن الوظيفة المثاليّة له، فصاحب الـ26 عاماً تنقّل بين المحاماة والمحاسبة، ووجد ضالّته في مهنة التسويق الرياضي.
"خايف لكن بواجه واخاطر"
بدأ بحراوي مشواره مع الوظيفة بالعمل في مكاتب المحاماة المستقلّة والتابعة لمنظمات حقوقيّة، بعد تخرّجه في كلية الحقوق، ثم التحق بأحد مكاتب المحاسبة والمحاماة في دبي لفترة، ليقرّر العودة إلى نقطة الصفر في مجال كرة القدم التي يحبّها منذ نعومة أظافره، فهو الآن يتجوّل بين الملاعب لاكتشاف لاعبين واعدين يسوّقهم للأندية المحترفة.
"قرّرت ألا أكون محاسباً أو محامياً، وبحثت عن نفسي في مجالات أخرى كالسياحة والسينما والموضة، حتى وجدت ضالّتي في الكرة بمجال التسويق الرياضي".
رفاهية تغيير المهنة غير موجودة عند قطاع كبير عند المصريين، لكن بحراوي امتلك الشجاعة لأنه لم يكن مرتبطاً وغير ملتزم بأي مسؤولياتٍ اجتماعيّة تجاه أيِّ شخص، كما يقول.
وحدّدت دراسة حديثة الأسباب التي يستقيل بسببها المصريّون من وظائفهم، التي صبّت في 3 اختيارات هي: الخلافات مع المدير، وعدم وجود احتمالية للنموّ والتطوّر، وعدم وجود نظام داخل مكان العمل، فيما أرجعت احتمالات البقاء إلى إمكانية التعلّم ونظام الأجر.
يخشى بحراوي العمل الحرَّ غير المرتبط بأجرٍ ثابت، فمهنته الجديدة تنتعش في موسمي الانتقالات الصيفيّة والشتويّة، فمازال المستقبل مجهولاً حتى الآن رغم شغفه بكرة القدم التي مارسها بشكلٍ غير محترف في صباه.
"أي حدّ يمتلك أسرة وبيقبض 5 آلاف جنيه فقط هو معرّض للخطر، لذا عليه البحث عن مهن حرّة مع هامش المخاطرة، الخطر يلازم حياتنا والخوف يحاوطنا بشكل مستمر والمخاطرة موجودة".. هكذا يتحدث بحراوي متحديا مخاوفه، ومتحمّساً للعالم الجديد الذي بدأ في اكتشافه منذ 6 أشهر فقط، رغم أن المخاوف تراوده بين الحين والآخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...