نشرت منذ بضع سنوات الشاعرة السورية -الفلسطينية رنا زيد، على الفيسبوك، نصّاً تحدثنا فيه عن مفارقة اختبرتها حين كانت في حديقة اللوكسمبورغ في باريس، إذ التبس أمام عينها عجوز، أشيب، ذو عينين غائرتين، يمشي بين التماثيل ويتأملها، فاقتربت منه زيد وسألته: "ألست أنت ميلان كونديرا؟".
سؤال زيد في مكانه، فالعجوز يشبه كونديرا بصورة ما، كما أنها قرأت رواية كونديرا الأخيرة "حفلة التفاهة" التي تدور بعض أحداثها في ذات الحديقة، والتي يُعرف أيضاً أن كونديرا يتنزّه فيها بسبب قرب منزله منها، الأهم أن صاحب "خفّة الكائن التي لا تحتمل" متوار عن الأضواء (لا مقابلات، لا صور، لا تسجيلات) منذ ما يتجاوز الثلاثين عاماً، ولقاءه صدفة في الشارع فرصة يحلم بها الكثيرون من قرّائه.
تتابع زيد منشورها قائلة إن العجوز التفت إليها وقال: "ألم يمت كونديرا منذ زمن طويل؟". لا جواب عن هذا السؤال، وكتبت زيد مستطردة أنها إما كانت أمام مزحة "كونديرية" أو فعلاً العجوز لا يعرف إن كان كونديرا حياً أو ميتاً.
محاولات البحث عن كونديرا هاجس للكثيرين، ونقصد هنا تقفّي آثاره الشخصية، طباعه وعاداته، ومحاولة مقارنتها مع ما تحويه رواياته. هذا الجهد يراه كونديرا إهانة لشخص "الروائي"، بل محاولة لإقحام "الواقع" في الرواية
أغبط زيد كلما تذكرت هذه الحادثة، إذ ربما أتيحت لها فرصة تبادل بضع كلمات مع الكاتب المُختفي، الذي اختار أن يتلاشى كشخص على حساب رواياته، وعمل بجد وجدية على فصل حياته الشخصية عن صورته رواياته، ما تركنا أمام أحجية من نوع ما، كلما حاولنا حلها يتلاشى كونديرا أكثر، وتبقى رواياته ماثلة أمامنا.
محاولات البحث عن كونديرا هاجس للكثيرين، ونقصد هنا تقفّي آثاره الشخصية، طباعه وعاداته، ومحاولة مقارنتها مع ما تحويه رواياته. هذا الجهد يراه كونديرا إهانة لشخص "الروائي"، بل محاولة لإقحام "الواقع" في الرواية، مع ذلك تبنّت الصحفية الفرنسية أريان شومين المقاربة السابقة، وتتبعت في كتابها "البحث عن ميلان كونديرا" الصادر مؤخراً، خطوات الروائي منذ ميلاده حتى الآن.
فشومين التي قرأت "المزحة" في عشرينياتها، أسيرة كونديرا وعوالمه، علماً أنها لم تقابله طيلة حياتها، لذا اعتمدت في كتابها هذا على عدة تقنيات لـ"إيجاد" كونديرا الشخص، أولاً عبر أصدقائه ومعارفه في التشيك وفرنسا وما كتبوه أو ما قالوه لها، كزوجته السابقة، والأكاديميين والصحفيين الذين عرفوه، و ثانياً، زوجته، فيرا كونديرا، نجمة التشيك السابقة، والتي التقتها شومين عدة مرات في باريس، وتبادلتا أحاديث مقتضبة والكثير من الرسائل النصية.
تتبعت الصحفية الفرنسية أريان شومين في كتابها "البحث عن ميلان كونديرا" خطوات كونديرا منذ ميلاده حتى الآن، واطلعت على أرشيف المخابرات التشيكية الشيوعية التي راقبت كونديرا على مدى عشر سنوات
الأهم من ذلك، هو أن شومين اطلعت على أرشيف المخابرات التشيكية الشيوعية التي راقبت كونديرا على مدى عشر سنوات بين 1969 و1979 ، إذ دوّن أصحاب "المعاطف الرمادية" سيرة مذهلة لكونديرا، تقارير بلغ حجمها مجتمعة 2374 صفحة، تحوي صوراً ومحادثات مسجّلة.
إذ كان كونديرا، المطرود من الحزب الشيوعي ومن الجامعة، مُحاطاً بالمايكروفونات الخفية في منزله وجامعته وفي الشارع، كل ما يقوله مسجّل تحت اسم "الشاعر" الذي لقبته به المخابرات، في حين أن اسمه الحركي حين غادر إلى فرنسا كان "النخبوي 1"، وفيرا كان اسمها "النخبوي 2".
الرغبة بالتفاصيل
يدلّل الكتاب فضولنا ويجيب عن أسئلة كثيرة تتعلق بـ"حياة" كونديرا، إذ نقرأ مثلاً أنه لا يفضل الرسائل، بل يهدي من حوله رسومات تشابه ما ينجزه بيكاسو، تمتلك ليلى سليماني اثنتين منها في منزلها، كما نكتشف أنه قادر على العمل في أي مكان، الحديقة، منزله، منزل الأصدقاء، بشرط أن يحمل بيده كأس الروم الأبيض، أو مشروب الـpelinkovac الثقيل.
كان كونديرا، المطرود من الحزب الشيوعي ومن الجامعة، مُحاطاً بالمايكروفونات الخفية في منزله وجامعته وفي الشارع، كل ما يقوله مسجّل تحت اسم "الشاعر" الذي لقبته به المخابرات
كما نقرأ كيف ألقى على فيرا رواية "كتاب الضحك والنسيان" وهما في إجازة في إحدى الجزر الفرنسية، حينها كان يرتدي ثوب السباحة ويشرب النبيذ، أما السبب وراء تأليف الرواية هو "أنه يكتب كي تضحك فيرا"، التي اصطحبت معها الآلة الكاتبة إلى الإجازة بالرغم من معارضته لذلك، كما نقرأ أيضاً كيف تم تهريب ملاحظات كونديرا على مخطوط" كائن لا تحتمل خفته" في الحقيبة الدبلوماسية إلى فرنسا، عبر المركز الثقافي الفرنسي في براغ.
نقرأ أيضاً عن المترجم الذي "خان" كونديرا، إذ لم يقم بـ"ترجمة" رواية "المزحة" بل "أعاد كتابتها"، الأمر الذي اكتشفه كونديرا مصادفة عام 1979 أثناء لقاء صحفي كان يجريه معه صديق له.
هنا تحركت الشكوك حول مارسيل أيمونين، المترجم الخائن، المجهول، الذي يُظن أنه ينتمي إلى الاستخبارات التشيكية، ما دفع كونديرا إلى مراجعة رواياته المترجمة بشكل كامل، ثم اتخاذ قرار الكتابة بالفرنسية مباشرة دون مترجم، بل وتسوّق لنا الكاتبة حكاية مفادها أن مدرسة اللغة الفرنسية التي كانت تعمل معه قضت ساعات تناقش كونديرا حول ترجمة كلمة "نوستالجيا" من التشيكية إلى الفرنسية، في دلالة على حرصه الشديد على كيفية نقل رواياته من لغة إلى أخرى، فرواية "المزحة" لا تحوي سطراً دون ملاحظة من كونديرا حول خطأ في الترجمة التي أنجزها "المترجم".
ضد فضائحية كافكا
استقبلت المدرسة العليا للعلوم الإنسانية في باريس EHESS ميلان كونديرا في الثمانينيات، وهناك قام بإعطاء سلسلة من المحاضرات حول تاريخ الرواية في أوروبا الشرقية، جاعلاً من رواياته حتى موضوعاً للبحث، وتستذكر شومين مقاربته الشهيرة لكافكا، وكيف نقرأه بصورة خاطئة، "فكافكا كاتب كوميدي لا تراجيدي".
و يضيف كونديرا لاحقاً في سؤال إشكالي، أن كافكا ظلم، بل ويمكن القول كان ضحية الفضائحية، إذ لو كان هو مكان صديقه ماكس برود، لما قام بإحراق مخطوطات كافكا، بل كان نشرها، ما عدا يومياته التي لا تضيف إلى "أدبه" شيئاً، بل تفرض علينا قراءة محددة له.
مصير كافكا هو بالضبط ما يحاول كونديرا تفاديه باختفائه، فحتى الصور ممنوعة في حضوره. تقول زوجته أنه أشبه بكاهن هندي يخاف أن تسرق الصور روحه
مصير كافكا هو بالضبط ما يحاول كونديرا تفاديه باختفائه، فحتى الصور ممنوعة في حضوره، إذ تقول فيرا أنه أشبه بكاهن هندي يخاف أن تسرق الصور روحه، فتلاشي كونديرا وتحرره السياسي لاحقاً، هدفه نفي نفسه كفرد في التاريخ وإثبات صورته كروائي فقط.
وذلك لتفادي قراءة رواياته من منظار حياته الشخصية، تلك التي تظهر بعض معالمها في كتاب شومين، التي تسوّق نظرية تشابه بطل رواية "فالس الوداع" مع كونديرا، أو كيف ذُكر الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران في إحدى روايات كونديرا بعد أن جُنّس الأخير فرنسياً.
سيرة الاختفاء
نجح كونديرا في تفادي "صورة الكاتب في الإجازة"، "الكاتب كمدرّس"، "صورة الفنان في شبابه" وغيرها من القراءات التي تحيط بشخص المؤلف وتجبرنا على قراءة أعماله بأسلوب مختلف عمّا يقصده، إذ قام كونديرا مثلاً بحذف مقدمة الشاعر الفرنسي أراغون، من النسخة المنشورة من رواية "الحياة في مكان آخر"، كونها تسيّس الرواية بأسلوب مبالغ به.
هذا السعي الذي يقوم به كونديرا للحفاظ على "أعماله" وحدود تلقيها حد اختفائه الذاتي، فعّل جهوداً أخرى موازية، فمحاولات إنجاز سيرة لهذا الكاتب أشبه بالبحث عن شبح، لا نعرف إلا الأماكن التي مرّ فيها، إذ نقرأ تعليقاً على كتاب جاك نوفاك، التشيكي الذي أنجز كتاباً من 990 صفحة، نُشر العام الماضي، يحاول فيه اكتشاف سيرة كونديرا وانتهى به الأمر باتهام صاحب "الخلود" بتحويل حياته إلى صيغة سحرية لا يمكن الإمساك بها.
المثير للاهتمام هو إخلاص كونديرا لفنّه الروائي إلى حد تلاشيه الشخصي،فالرواية بحسبه لا يجب أن تكون سرداً تاريخياً، لا للأحداث ولا للأشخاص، بل استمرار للتاريخ الروائي، ذاك الذي يختفي وراءه الكاتب ليقدم "عمله" بعيداً عن "نفسه" وعن "السير الإعلامية" و"السير المخابراتية"
المثير للاهتمام هو إخلاص كونديرا لفنّه الروائي إلى حد تلاشيه الشخصي، الأمر الذي يتحدث عنها في كتبه الثلاثة عن فنّ الرواية، تلك التي لا يجب أن تكون سرداً تاريخياً، لا للأحداث ولا للأشخاص، بل استمرار للتاريخ الروائي، ذاك الذي يختفي وراءه الكاتب ليقدم "عمله" بعيداً عن "نفسه" وعن "السير الإعلامية" و"السير المخابراتية" التي تحاول أن تقرأ الرواية كنتاج لحظة زمنية وتجربة فردية، لا نتاج تطور روائي، تاريخه وتدفقه يختلف عن تدفق التاريخ الرسمي والشخصي والسياسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون