افترض المُترجم ابن المقفع، في مقدمة كليلة ودمنة، أربعة أنواع من القرّاء، النوع الأول منهم، والذي يهمنا، هم أولئك الذين سيسارعون لاقتناء الكتاب (كليلة ودمنة) وقراءته، وهم "أهل الهزل من الشبان" لأن الكتاب يستميل قلوبهم، وهذا الغرض من نوادر من الحيوانات.
وكأن ابن المقفع يفترض أن كل كتاب، يحوي نسختين، أولى لأهل الهزل، السخفاء والمبتذلين، وأخرى لأهل العلم والفلسفة الذين لا يصدقون أن حيوانات يمكن لها النطق، بل يرون أعمق من ذلك، يجدون حكمةً يتبنون معانيها ولا يفهمها سواهم.
لا نعرف أي معيار عن أهل الهزل والسخفاء سوى أنهم من الشبّان، ويعلق عبد الفتاح كيليطو على هذا التقسيم في كتابة "الحكاية والتأويل" بقوله، إن القارئ السخيف هو "ذاك الذي يتوقف عند السرد، الهزل واللهو، أي عند الأحداث السرديّة في حدّ ذاتها".
لا تتلاشى شخصيّة القارئ السخيف، بل يمكن القول إنها ليست مرحلة يتمّ تجاوزها، بل يمكن لأي "قارئ" أن يكون سخيفاً، إما نتيجة سوء فهم عميق أو رغبة باللعب، كحالة ألونزو كيخادا الذي قرأ روايات الفروسيّة "كلّها" ثم قرر أن يصبح فارساً جوالاً.
القارئ الهزلي يبحث عن متعته، لا يقيم وزناً لـ"جدّية" الكاتب وجهده، حتى لو كان الأخير يكتب "مزحة"، أصدقاء فرانز كافكا ضحكوا منه حين قرأ لهم الفصل الأول من المحاكمة، وخصوصاً الجملة الأولى "لابد أن أحداً ما افترى على جوزيف ك، لأنه اعتقل ذات صباح دون أن يرتكب أي شيء خاطئ"، لا نعلم إن كان ضحكهم ساخراً نتيجة هزلهم، أم أنهم فهموا نكتة كافكا: كيف يمكن أن يعتقل شخص لم يرتكب أي جريمة.
ميلان كونديرا والصراط المستقيم
إذا افترضنا أن شخصيات هوغو تركض على الصراط بحماقة لا حياد فيها في سبيل الجنة، فإن سذاجة هذه القراءة ستودي إلى تأويل مبتذل، متخيل ديني إبراهيمي ضمن نظام النكات التي يقدمها كونديرا عن شخصيات روائية من القرن التاسع عشر.
يشير ميلان كونديرا، أن مشكلته مع الكثير من قرائه هي سوء فهم المزحات، تلك التي يحاول في نصوصه أن يجعلها منطقية ومشتركة بين الجميع، لكن ماذا عن المزحات المبتذلة، تلك التي لا يمكن أن تكون موضوعيّة، والتي قد تبدو "حمقاء"، لكنها تغري القارئ السخيف الذي يتتبعها ويلاحق جذرها وسياقها ليلتقط عبقرية يظن أنها موجودة في النص.
صدر عام 2006 كتاب "الستارة" لميلان كونديرا، وترجمه للعربيّة معن عاقل عام 2015، في الجزء السادس من الكتاب المعنون بـ"الستارة الممزقة"، فقرة بعنوان "النزول إلى قاع المزحة المظلم"، يخبرنا فيها كونديرا عن جدّية كافكا في تعامله مع نكتة المحاكمة، ويستطرد مستدعياً شخصيات من الأدب ومفهوم الحماقة، تلك التي لا تقلل من تراجيدية أي شخصية، بل تجعلها أقرب للطبيعة البشرية، ويستعيد في الفقرة ما قبل الأخيرة شخصيات فيكتور هوغو، ويقول: "تتبدى من جديد أمامي شخصيات هوغو الثلاث العظيمة، لانتوناك، سيموردان وغوفان، هؤلاء الأبطال الثلاثة النزيهون، الذين لا يمكن لأي مصلحة شخصيّة أن تحيدهم عن الصراط المستقيم، وأتساءل: أليست الحماقة هي التي تعطيهم القوة للإصرار على آرائهم، بلا أدنى شكّ وبلا أدنى تردد؟".
الصراط المستقيم؟ هل يمكن قراءة هذه الجملة دون أن تلتمع في رؤوسنا الحكاية الإسلاميّة الشهيرة عن الصراط الضيق، وكيف يركض عليه المؤمنون بسرعة ويجتازونه، في حين ينزلق عليه الكفار ويسقطون في جهنم؟
الترجمة الإنكليزية لذات الكتاب تستخدم عبارة Straight line، الخط المستقيم، ولا يهم في هذه النقطة معرفة الأصل الفرنسي أمام سطوة كلمة الصراط المستقيم، لكن ماذا لو تبنينا موقفاً سخيفاً حين قراءة هذا النص بالعربية، وافترضنا أن شخصيات هوغو تركض على طوال الصراط بحماقة لا حياد فيها في سبيل الجنة، سذاجة هذه القراءة تفتح الباب على تأويل مبتذل، متخيل ديني إبراهيمي ضمن نظام النكات التي يقدمها كونديرا عن شخصيات روائية من القرن التاسع عشر.
مغامرة القارئ السخيف
هنا نحن أمام "مزحة" جديدة، سوء فهم لا يقلل من قيمة الترجمة، ولا "تراجيدية" هذا الإقحام، بل ويمكن أن نقول إن كونديرا متواطئ مع هذه "الحماقة"، إذ يشير لورانس فينوتي، واحد من نقاد كونديرا، أن الأخير "يمتلك موقفاً ساذجاً بخصوص الترجمة، كونه كاتب يراهن على الأثر الأسلوبي، فكونديرا يفترض أن المعنى في نص أجنبي يمكن أن يتفادى التغيير في الترجمة، وأن نوايا الكاتب الأجنبي يمكن أن تعبر دون أن تمس، عبر التغيرات اللغوية والثقافية"، مع العلم أن كونديرا يشرف على ترجمة رواياته ونصوصه، بل ويغير من الترجمات بعد صدورها، وكأنه يعيد الكتابة في كل مرة.
يراهن كونديرا على أن المعنى في نص أجنبي يمكن أن يتفادى التغيير في الترجمة، وأن نوايا الكاتب الأجنبي يمكن أن تعبر دون أن تمس، مع العلم أنه يشرف على ترجمة نصوصه، بل ويغير من الترجمات بعد صدورها، وكأنه يعيد الكتابة في كل مرة
يهدد القارئ السخيف وأسلوب فهمه الهزلي أولئك القرّاء الجدّيين، الباحثين عن حكمة دفينة لا يفهمها غيرهم، خصوصاً أن القارئ السخيف يترك من يسمعه أمام الحماقة الفجّة، الواضحة والمشينة، التي لا يمكن سوى التأشير عليها، هي بريئة لا ترى ذاتها ولا تدرك ما تسببه، خصوصاً إن كان القارئ السخيف متسلحاً فقط بهزله، يرمي نفسه في مجاهل الكتب وبحار اللغة، تلك التي لا يدرك "حكمتها" إلّا الغواص الباحث عن الدرّ، فالسخيف يجد ما يطفوا على السطح: الخراء، الأوساخ وكل ما هو مهدد بأن ينجرف بيد أو يلفظ على الشاطئ.
في الجذر العربي لكلمة مغامرة، في باب غمر في لسان العرب، هناك إحالات إلى ما هو مجهول ومغفل، وإلى جانب الشجاعة واقتحام المهالك، المغامرة ترتبط بحمق ما، يعمي أعين "المغامر" الذي يرمي بنفسه في البحر/ الكلمات التي تــغمره، فعلى سبيل الهزل يمكن أن نستعيد نص لجورجيو أغمبين بعنوان "المغامرة" يشير فيه أن الفيلولوجيين يختلفون بأصل كلمة مغامرة- aventure في الفرنسية، هي ليست مشتقّة فقط من جذر "أن تجد-De trouver "، بل تعني أيضاً أن "تؤلف الشعر"، ولذا سميّ الشعراء الجوالون بالـ trobadorsو الـtrouvères، الباحثين عن شيء ما مجهول.
يمكن فهم مغامرة القارئ السخيف من خلال بحثه عن مجهول ما في بحر الكتب التي لا يجيد السباحة ضمنها، مع ذلك هو لا يغرق، بل يدهش المتأمل بمقدار حمقه وجديّته المفرطة بخصوص موقفه المبتذل
عبر المقاربات المفتعلة السابقة، التخبط في فهم النصوص وإساءة اقتباسها، يمكن فهم مغامرة القارئ السخيف: هو يبحث عن مجهول ما في بحر الكتب التي لا يجيد السباحة ضمنها، مع ذلك هو لا يغرق، بل يدهش المتأمل بمقدار حمقه وجديّته المفرطة بخصوص موقفه المبتذل، بهلوان من نوع ما، لا نستطيع إزاحة البصر عنه بسبب فحش حمقه الذي لا يعيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...