في ٩ يوليو من عام 2006، كنت أنا وعائلتي مجتمعين أمام شاشة التلفاز نتابع بشغف مجريات المباراة النهائية من كأس العالم المقام آنذاك في ألمانيا. كان لذلك اليوم خصائص عدة، منها أن المباراة النهائية تجمع بين المنتخب الذي نشجعه جميعنا في المنزل، ألا وهو إيطاليا وبين فرنسا؛ الفريق الذي لا يحبه أحد من عائلتنا، بالإضافة إلى وضع أبي الصحي السيء، فقد كان مصاباً بداء السكري وكان قد أجرى مسبقاً عملية تبديل الشرايين في عام 2004، وآخر هذه الخصائص هو أن المباريات كانت تُجرى على أرض ألمانيا؛ المنافس الأوروبي الوحيد لإيطاليا، فكل من الفريقين كان لديه ثلاثة ألقاب عالمية. والفرحة الأكبر كانت في أن إيطاليا استطاعت إخراج ألمانيا من نصف النهائي، فاقترب تحقيق الحلم. علت الأصوات والهتافات، وعانقنا بعضنا البعض، إيطاليا تربح، وفرنسا تخسر، كأس العالم لنا.
قبل عام 2006، كان المنتخب الإيطالي بالنسبة لي ولأخوتي هو الخيار الثاني دائماً. فأنا وأخي الأكبر كنا نشجع البرازيل، وأخي الأوسط كان يشجع ألمانيا. ولم نكن نشارك أبي حبه وولعه بالمنتخب الآتزوري. أما أمي فلم تكن تحب كرة القدم وتقول لنا دائماً إن هذه اللعبة "تهز البدن" و"ترفع الضغط". ومع ذلك، فقد كانت تتابع معنا أحياناً بعض المباريات، خاصة تلك التي يلعب فيها المنتخب الإيطالي، لأنها تدعم أبي في وقت الهزيمة قبل وقت الانتصار.
كان يهرب من المدينة ومن الروتين ومن كل خيبات الحياة، ليجلس أمام شاشة التلفاز ليهتف ويشجع ويصرخ بالصلوات واللعنات، وفي الوقت نفسه أحياناً
يصف إدواردو غاليانو مشجع كرة القدم وأجواء التشجيع في كتابه "كرة القدم بين الشمس والظل" بالكلمات التالية: "يهرب المشجع من بيته مرة كل أسبوع إلى "الاستاد"، ترفرف الرايات، تدوي النواقيس الخشبية والألعاب النارية والطبول، تهطل أمطار من الشرائط والقصاصات الورقية الملونة. المدينة تختفي، والروتين يُنسى، ولا يبقى أي شيء سوى المعبد. وفي هذا الحيز المقدس، تعرض ألوهيتها الديانة الوحيدة التي لا وجود لملحدين بين معتنقيها". كان أبي من معتنقي ديانة كرة القدم، بل أستطيع القول إنه كان متعصباً للمنتخب الإيطالي. وكان يهرب من المدينة ومن الروتين ومن كل خيبات الحياة، ليجلس أمام شاشة التلفاز ليهتف ويشجع ويصرخ بالصلوات واللعنات، وفي الوقت نفسه أحياناً.
كنا أنا وأخوتي من منتقدي ذلك الفريق، على الرغم من أنه الخيار الثاني لنا في التشجيع. ذلك لأننا أحببنا في بادئ الأمر المنتخبات التي تلعب ضمن خطة هجومية، والمنتخب الإيطالي كان وما زال مشهوراً بمدرسته الدفاعية العظيمة. أما أبي فلم يكن من مناصري نظرية "أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم"، بل كان يقول إن أفضل وسيلة للدفاع هي الدفاع فقط، ومن ثم اقتناص فرص الهجمات المرتدة وتسجيل الكثير من الأهداف.
في ذلك العالم، وخلال الحرب، وعند وقوع مجزرة قانا الثانية، رأيت دموع أبي لأول مرة في حياتي، كان يبكي ضعف جسده وتراجع حالته الصحية. وكان يبكي خيبات الحرب والذكريات
عاصرنا مع أبي تتويجاً وحيداً للمنتخب الإيطالي في كأس العالم عام 2006. أما أبي فقد عاش تلك اللحظة من قبل، ففي عام 1982 تم تتويج الفريق الإيطالي بالكأس على حساب المنتخب الألماني؛ الغريم الأوروبي التقليدي للطليان. كان أخي الأكبر حينها يبلغ أشهراً فقط.
لسبب ما، حدث لأبي الكثير من خيبات في العام 2006، أي في عام فرحته بالمنتخب الإيطالي، عدت إلى تاريخ عام 1982 وسألت أمي عن مجريات كأس العالم آنذاك، فروت لي ما حدث في ذلك العام وكانت الأحداث صادمة بالنسبة لي. في ذلك العام وبعد تتويج المنتخب الإيطالي بأشهر قليلة، استدعي أبي للخدمة الاحتياطية إلى الحدود اللبنانية السورية، بعد تفاقم الحرب الأهلية في لبنان والذي كان يلعب فيها الجيش السوري دوراً أساساً. لحسن الحظ، لم يشارك أبي في القتال والتزم الجيش مواقعه على الحدود فقط. ولكن بغياب أبي عن البيت، كان أخي الأكبر البالغ من العمر بضعة أشهر على وشك الموت إثر إصابته بالخُنَّاق، لكنه نجا.
وفي عام 2006، وبعد تتويج المنتخب الإيطالي بكأس العالم بثلاثة أيام فقط، وفي 12 تموز/ يوليو، بدأت الحرب الإسرائيلية اللبنانية المسماة بحرب تموز. في ذلك العالم، وخلال الحرب، وعند وقوع مجزرة قانا الثانية، رأيت دموع أبي لأول مرة في حياتي، كان يبكي ضعف جسده وتراجع حالته الصحية. وكان يبكي خيبات الحرب والذكريات. لم يكن يشعر أنه بخير. قال لي "أتمنى انتهاء هذه الحرب بأسرع وقت وبأقل الخسائر، فلبنان بلد تعب من الحروب والصراعات". في يوم 11 آب/ أغسطس من نفس العام وقبل انتهاء حرب تموز بثلاثة أيام، رحل أبي عن هذه الدنيا، بعد أن خذله قلبه إثر ارتفاع حاد للسكر في الدم. رحل أبي بهدوء بعد عام من الفرح والخيبات في آن واحد، فرح الانتصار بكرة القدم وخيبات الحرب والمرض، كما حدث معه عام 1982.
في ذلك العام، كانت عائلتي كلها تشجع إيطاليا، كان خيارنا الأول ولا ثان بعده. كنا نراقب تردي حالة أبي الصحية، ولم نكن نشجع إيطاليا اقتناعاً منا بأنه الفريق الأفضل، بل كان تشجيعاً لأبي؛ نريده فرحاً، منتصراً على آلامه، منتصراً على قسوة الحياة. منذ عام 2006، أصبح المنتخب الإيطالي منتخبنا المفضل، رمزاً لحب وعاطفة وشغف أبي، رمزاً للخيبات والهزائم والانتصارات، رمزاً للفراق والمرض، رمزاً لصيحات أبي مع كل هدف إيطالي يهز شباك الخصم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...