شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أيلول 1987... المباراة التي لم ينقلها التلفزيون السوري

أيلول 1987... المباراة التي لم ينقلها التلفزيون السوري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 3 أبريل 202110:35 ص

معظم البشر يمكنهم الشعور بالفوارق بينهم وبين الآخرين، خاصة إذا كان الأمر متعلقاً بالوضع الاقتصادي، دون الحاجة إلى قراءة كتب ومؤلفات علماء الاجتماع وغيرهم.

في الحقيقة، لم أكن أشعر بهذه الفوارق مع أطفال قريتي الذين هم أكبر أو أصغر منّي بعامين أو ثلاثة، فكلّنا كنّا نعاني من الحرمان، ولا أحد كان يملك دراجة هوائية ولا حتى كرة قدم، ولا نذهب إلى المدينة سوى مرة أو مرتين في السنة، وغير ذلك الكثير.

كرة واحدة في كل القرية

عام 1984، وقبل افتتاح المدارس، أخذني والدي إلى المدينة ليشتري لي مريولاً وحذاءً وحقيبة ولوازم مدرسية أخرى، وحين عدت أخبرت أقراني أن أبي يعرف كل أصحاب المحلات، فكلما دخل إلى محل يسلم على صاحبه الذي يقوم من مكانه إنْ كان جالساً ويردّ التحية، ثم يقول لوالدي "تفضّل ماذا تريد؟"، وأخبرتهم أنه اشترى لي موزة، وكباباً من مطعم "أبو شفيق" في سوق العنابية.

كان من عادة أهلنا أكثر الأحيان أن يشتروا لنا الكباب والموز حين يأخذونا إلى المدينة، ولكن في بعض الأحيان، ونتيجة للظروف المالية السيئة، كنّا نكتفي بشم رائحة الكباب والنظر إلى الموز ونحن نأكل سندويش فلافل.

الحديث الأهم كان عن الألبسة والأحذية الرياضية الفخمة وكرات القدم المعلقة في الشِباك على واجهة المحلات بكل الألوان والأحجام. فنحن في تلك الفترة، وبسبب الفقر، كان أهلنا يشترون لنا من أجل المدرسة حذاءين: الأول جزمة بلاستيكة من أجل الشتاء، والثاني حذاء رياضياً من النوع الرديء جداً، وفي حال تلف الحذاء الرياضي لا يشترون لنا بديلاً عنه، وهذا ما جعلنا نلعب كرة القدم في القرية حفاة.

وبالطبع، لم يكن الحذاء الرياضي يكفينا حتى نهاية العام الدراسي، لأننا كنّا نلعب به كرة القدم في المدرسة وننتعله حين لا يكون الطقس ماطراً.

أما في الصيف، فكانت لدينا أحذية بلاستيكية (شحاطة) إضافة إلى حذاء لا يُسمح لنا بانتعاله إلا في حال ذهبنا لزيارة الأقارب، وبالتالي لا يتعرّض للتلف السريع بسبب قلة استعماله، ويكون مقاسه عادةً أكبر بنمرة أو نمرتين لأن أقدامنا ستكبر من عام إلى آخر.

أما الكرة التي كنّا نلعب بها في القرية، فكانت عبارة عن قطع من القماش العتيقة توضع داخل كيس نايلون متين لتأخذ شكل الكرة. لم يكن في كل قريتنا سوى كرة قدم واحدة يلعب بها مَن هم فوق سنّ الـ15 ولا يُسمح لنا باللعب معهم.

كنّا نعرف من قوانين اللعبة: ضربة الجزاء والتماس والركنية والضربة الحرة في حال قام الخصم بعرقلتنا أو لمَسَ الكرة بيده، والمرمى كان عبارة عن حجرين تفصل بينهما خمس خطوات أو أكثر، بحسب المكان الذي نلعب فيه، والذي غالباً هو طريق القرية الترابي. وكلٌّ منّا كان معجباً بنجم رياضي ومعرفتنا بنجوم الرياضة كانت من خلال برنامج محطات رياضية الذي كان يقدّمه عدنان بوظو على شاشة التلفزيون السوري كل ثلاثاء، أو من أحاديث مَن هم أكبر منّا.

كنتُ صاحب القميص رقم ثمانية الخاص باللاعب السوري عبد القادر كردغلي، وأثناء اللعب ينادونني "عبّوديييي" بياء ممطوطة، وكان على صدري ثلاثة أزرار افتراضية: الأول لونه أحمر والثاني أصفر والثالث أبيض، فحين أقول سأكبس على الزر الأبيض فهذا يعني أني سألعب بالحد الأدنى من المهارات والأحمر كان الحد الأعلى، وكنت أربك الخصم حين أقول: لقد كبستُ على الزر الأحمر.

التحدّي

في صيف 1987، تزوج جارنا فتاة من العاصمة، ومع بداية دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط التي استضافتها اللاذقية في شهر أيلول/ سبتمبر من العام ذاته جاء أهلها الذين يمتلكون سيارتين فخمتين لزيارتها. كنّا نلعب كرة القدم على الطريق حين مرّت السيارتان ولمحتُ داخلهما عدداً من الأطفال.

في اليوم التالي، جاء ستة أطفال غرباء من عمرنا تقريباً معهم كرة قدم، واحد منهم يرتدي لباس المنتخب البرازيلي واثنان المنتخب الألماني، والبقية المنتخب السوري. تحدث صاحب الرقم ثمانية قائلاً: "مين كابتن فريئكن؟"، دون أن يلفظ حرف القاف.

"لم أكن أشعر بالفوارق الطبقية مع أطفال قريتي... كلّنا كنّا نعاني من الحرمان، ولا أحد كان يملك دراجة هوائية ولا حتى كرة قدم، ولا نذهب إلى المدينة سوى مرة أو مرتين في السنة، وغير ذلك الكثير"

كثرة الندوب في قدميَّ وعلى ركبتيّ وساعديّ جعلاني أقول: أنا. ماذا تريد؟ نظر إليّ بازدراء وقال: مبارح نحنا ومارئين بالسيارة شفناكن عم تلعبوا طابة وبدنا نتحداكم بمباراة، موافئين؟ أجبته: موافقين يلا نلعب. فقال: لا يمكننا اللعب اليوم لأننا ذاهبون إلى الشاليه، وبعدها سنشاهد مباريات دورة المتوسط، وسنعود الأسبوع القادم. واشترَطوا أن يكون هناك مكان متسع ومرمى له عوارض، فقلت لهم: نلتقي الأسبوع القادم.

"هدون حرف القاف ما بيعرفو يلفظوه. كيف بدهن يعرفو يلعبو طابة؟"

في اليوم التالي، قمت برفقة عشرة أطفال بالبحث عن مكان متسع ووجدنا أرضاً مستطيلة فيها القليل من العشب والأشواك والحجارة فقمنا بتنظيفها قدر المستطاع، ثم أحضرنا أغصان الأشجار لصناعة المرمى، بعدها اخترتُ خمسة أطفال ماهرين في اللعب ووضعت الخطة التي سنلعب بها: اثنان في الدفاع واثنان في خط الوسط وأنا في الهجوم، ثم قلت: رح نفوز عليهن. هدون حرف القاف ما بيعرفو يلفظوه. كيف بدهن يعرفو يلعبو طابة؟

لم نكن بحاجة إلى علماء الاجتماع لنعرف أننا ننتمي إلى طبقتين مختلفتين، نحن المحرومون حين تمرّ سيارة جارنا "البيك آب" نركض خلفها ونتعلق بها لتحملنا عشرات الأمتار ثم نقفز منها ونُصاب بجروح ونضحك، نحن المهمشون الذين لأول مرة في حياتنا نسمع كلمة "شاليه" وخجلنا أن نسأل ماذا تعني هذا الكلمة! أهي نوع من الألعاب أم مكان ممتلئ بالموز وبمطاعم لصنع الكباب؟

اخلع نعليْك

قال الله للنبي موسى }إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى{ (الآية 12 من سورة طه).

في أيلول/ سبتمبر 1987، خلع ستة أطفال أحذيتهم البلاستيكية خارج الملعب ودخلوا حفاة ليلعبوا مباراتهم المقدّسة. هذه المباراة كانت بلا جمهور ولم تُنقل على شاشة التلفزيون السوري، ولم يكن هناك وقت محدد لها فمَن يحرز هدفين هو الفائز.

"كان من عادة أهلنا أكثر الأحيان أن يشتروا لنا الكباب والموز حين يأخذونا إلى المدينة، ولكن في بعض الأحيان، ونتيجة للظروف المالية السيئة، كنّا نكتفي بشم رائحة الكباب والنظر إلى الموز ونحن نأكل سندويش فلافل"

بعد خمس دقائق، سجّلوا هدفاً في مرمانا. انفطر قلبي وأحسست بمرارة في حلقي، وبذلت مجهوداً هائلاً كي لا أبكي أمامهم.

بعد الهدف، غيّرتُ خطة اللعب على الفور لتصبح: ثلاثة في الدفاع واثنان في الهجوم وبعد نصف ساعة تقريباً أحرز صديقي هدف التعادل.

شعرنا بالحماس بعد التعادل ومضى الوقت بين كرٍّ وفرّ والشمس أوشكت على المغيب وبغيابها ستنتهي المباراة بالتعادل ونحن نريد الفوز! فقلت لأصدقائي من باب التشجيع: الآن، سأكبس على الزر الأحمر وألعب بكل طاقتي. أنتم لديكم على صدوركم زر أحمر يجب أن تكبسوا عليه أيضاً.

بعد أن كبسنا على الزر الأحمر، أصبحنا أكثر ثقة وقمنا بالهجوم على مرمى الخصم، وفي إحدى الهجمات باغتّ حارسهم بتسديدة قوية من بعيد ارتطمت بقدمه واتجهت نحو الرقم ثمانية الذي كان يقف خلف دفاعنا استقبل الكرة بصدره ثم ركض بها عدة أمتار ومن مسافة قريبة سددها... تُرى هل بالغنا في الحلم حين فكرنا في الفوز؟

كان حارسنا يقف في منتصف المرمى وبعده بقليل على الجهة اليسرى كانت الشمس بلونها الجميل على وشك المغيب والكرة تتجه بعلو متوسط باتجاه القائم الأيسر، رأيته يطير ليغطي الشمس ويُبعد بيده الصغيرة الكرة خارج المرمى. صرخت من بعيد: "يااااا وحش... انت بطل... يا إماموو علي ما أقواك!". هذه العبارة كنّا نقولها لنعبّر عن مدى إعجابنا بقوة وشجاعة شخص ما. فمنذ طفولتنا المبكرة سمعنا قصة الإمام علي في غزوة الخندق حين قتل عمرو بن عبد ود العامري، وكيف قسمه بسيفه ذي الفقار إلى نصفين، و"لولا أن الملائكة أمسكت السيف لقُسمَت الأرض إلى نصفين".

استمر التحدّي. في إحدى الهجمات، وصلتني كرة عالية، كان مرمى الخصم خلفي على مسافة قريبة، قفزت في الهواء لأنفّذ ضربة "الدبل كيك". أحسستُ أنّي أطير عالياً أعلى من الشمس التي تَغرُب وبقدمي اليسرى ضربت الكرة أو ربما اصطدمت صدفة بها، لا يهم، طالما أنني أحرزت هدفاً أنهى المباراة لصالحنا.

فوزنا في تلك المباراة هو أحد أسباب حبي للغروب حتى الآن، فوزنا كان هزيمة للحرمان الذي نعيشه، كان بطعم الموز والكباب لا برائحتيهما فقط.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image