في عام 2018، طرح الجنرال الإيراني المُغتال قاسم سليماني فكرة ذكية لتهريب النفط الإيراني إلى سوريا عبر الممرات الملاحية وضمان تدفق الأموال على الميليشيات الموالية، وذلك للالتفاف على العقوبات الأمريكية. وفي نفس الوقت؛ وضع الإسرائيليون أيضاً خطة مضادة.
نجحت الخطة الإسرائيلية في تخريب حوالي 20 سفينة تابعة لإيران، ولم تعلن طهران عن هذه الخسائر التي تُقدر بنصف مليار دولار، لأن ذلك سيكون اعتراف أمام شعبها بقدرة تل أبيب.
في 30 آذار/مارس 2021، كتب الصحافي الإسرائيلي يوسي ميلمن في صحيفة "هآرتس"، أنه تم تسريب عدة تقارير عن الأضرار التي لحقت بإيران، فأصبحت طهران في حرج شديد ومجبرة على الرد، وهو ما قامت به إيران في الغالب. لكن السؤال: من سرب هذه التقارير وأجبر الإيرانيين على استهداف سفن إسرائيلية؟ هل كانت الإدارة الأمريكية؟
فكرة سليماني
في منتصف عام 2018 شجع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ورئيس الموساد يوسي كوهين، الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، وفرض عقوبات مؤلمة على إيران.
مثّل قرار واشنطن الاستراتيجي الأحادي، ضربة كبيرة للاقتصاد الإيراني، لا سيما في مجال تصدير النفط الذي يعد عماد ذاك الاقتصاد.
كان الألم الاقتصادي واضحاً أيضاً بين المنظمات التي ترعاها إيران، بما في ذلك الميليشيات الشيعية العاملة في سوريا، وحزب الله في إيران.
نجحت الخطة الإسرائيلية في تخريب حوالي 20 سفينة تابعة لإيران، ولم تعلن طهران عن هذه الخسائر التي تُقدر بنصف مليار دولار، لأن ذلك سيكون اعتراف أمام شعبها بقدرة تل أبيب.
هاتان المجموعتان كانتا محط أنظار سليماني، كجزء من جهوده لتأسيس تكتل خاص بهم في الشرق الأوسط، سعياً إلى خلق هيمنة استراتيجية، وأسمت المخابرات الإسرائيلية تلك الخطة بـ"رؤية سليماني".
تؤكد هآرتس في تقريرها أن تدهور الوضع الاقتصادي الإيراني، أجبر طهران على تقليص الدعم المالي للميليشيات وحزب الله. وتقدر المخابرات العسكرية الإسرائيلية أن دعم إيران لميزانية حزب الله - حوالي 700 مليون دولار سنويًا - ولكن عانى من تخفيضات كبيرة منذ عام 2018.
أدى ذلك إلى تخفيض رواتب عشرات الآلاف من مقاتلي ونشطاء حزب الله، وتقليص المدفوعات لعائلات المقاتلين الذين قتلوا أو أصيبوا في الحرب الأهلية السورية، وتدريبات أقل وقوضت الاستعداد واللياقة العسكرية.
بسبب العقوبات، واجهت إيران صعوبة أيضاً في توجيه الأموال التي تم تخصيصها بالفعل في ميزانية الدولة نحو دهم الميليشيات الموالية لها في الخارج، وباتت تفتقر إلى العملة الأجنبية. وحتى عندما تجد الموارد، فإنها تواجه عقبات في تحويل الأموال إلى وجهتها.
إذ شددت الولايات المتحدة من رقابتها على أنظمة التحويل الدولية، وهددت بفرض عقوبات على أي حكومة أو شركة أو منظمة خاصة تتورط في نقل الأموال أو مساعدة طهران في الالتفاف على العقوبات. ومن أبرز الضحايا كانت بنوك في لبنان تعمل بمثابة خطوط أنابيب لغسيل الأموال وتحويلها إلى حزب الله.
وكان سليماني مسؤولاً عن مهام عسكرية خاصة في عهد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، حتى اغتيل على يد المخابرات الأمريكية في بغداد في كانون الثاني /يناير 2020.
كما كان سليماني من أكثر الأشخاص شعبية في إيران، واعتُبر من رعايا خامنئي. وعلى الرغم من قيادته لفيلق القدس الصغير نسبياً، إلا أن نفوذه كان واسع النطاق. وكان يُعتبر من أجرأ الاستراتيجيين، وحظى باحترام كبير في مجتمعات المخابرات الأمريكية والإسرائيلية.
على خلفية هذه العقوبات وعقبات التمويل، توصل سليماني إلى فكرة يصفها مليمن بـ"الذكية"، إذ أنشأ وحدة مخصصة للالتفاف على العقوبات وتهريب النفط وبيعه في سوريا.
واستخدم في ذلك ناقلات إيرانية يديرها طواقم إيرانية أو أجنبية مدفوعة الأجر، وكذلك شركات تأمين إيرانية. وتم تحميل النفط بمهارة في الموانئ الإيرانية باستخدام شركات وهمية، وتهريبه باستخدام ناقلات تم تغيير أسمائها. واستخدمت كل الوسائل الممكنة لتضليل منظمات التجسس الغربية وشركات الشحن العالمية.
واشترى التجار الإيرانيون والسوريون واللبنانيون، النفط، وفي المقابل دفعوا للميليشيات الشيعية وحزب الله بالليرة السورية. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا قبل 10 سنوات، تراجعت قيمة الليرة بنسبة 2400 في المائة، لكنها تظل عملة سائلة حتى في لبنان.
في البر والجو والبحر
يقول يوسي ميلمن وفقاً للتسريبات التي وصلت إليه، أن تحركات سليماني المعقدة شكلت تحدياً لإسرائيل، التي بدأت في البحث عن طرق للتعامل معها. ففي 2017 وجه رئيس الأركان آنذاك غادي آيزنكوت، بتعطيل أهداف إيران الرئيسية الثلاثة وهي: البرنامج النووي، ومحاولة تحقيق الهيمنة الإقليمية، والجهود المبذولة لترسيخ نفسها في سوريا من أجل منح حزب الله جبهة أخرى ضد إسرائيل.
كانت الفكرة العامة هي بدء حملة وقائية واسعة النطاق باستخدام الأدوات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والنفسية. وتُرجِم ذلك إلى عشرات من عمليات جمع المعلومات الاستخبارية السرية من قبل المخابرات العسكرية (الشين بيت) ووحدات الموساد.
كذلك تم تنفيذ آلاف الغارات الجوية على أهداف مرتبطة بالميليشيات الشيعية، وحزب الله، والحرس الثوري الإيراني، وفيلق القدس، وكان معظمها في سوريا. وأخرى على الحدود العراقية. وزُعم أيضاً أن بعض هذه الهجمات وقعت في لبنان.
ثم امتدت المعركة بين إسرائيل وإيران من الأرض والجو والأمن السيبراني إلى البحار. وما جعل الأمر أسهل بالنسبة لإسرائيل، هو أن طرق الشحن من الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط عبر البحر الأحمر كانت معروفة جيداً للبحرية الإسرائيلية، إذ تعمل في هذه المسارح البحرية منذ عقود، مستخدمة جميع القدرات المتاحة لها سواء الكوماندوز البحري أو قوارب الصواريخ وحتى الغواصات.
ضرر من دون تدمير
وعلى عكس العمليات السابقة التي كانت تُغرِق السفن التي تحمل أسلحة للجماعات الفلسطينية، أو عمل إنزال على الشواطئ، كما حدث في سوريا ولبنان وليبيا وتونس والجزائر، التي قامت فيهم البحرية الإسرائيلية بتخريب الموانئ، كان التحدي العملياتي والاستخباراتي هذه المرة مختلفاً.
كانت المهمة ضد إيران عدم إغراق السفن أو الاستيلاء عليها، بل خلق ضرر لهذه السفن المحملة بالنفط دون التسبب في وقوع إصابات أو كارثة بيئية.
من الناحية الاستخباراتية، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، كانت هناك حاجة إلى معلومات دقيقة حول الناقلات التي تنقل النفط إلى سوريا من أجل تمويل نشاط الميليشيات الشيعية وحزب الله حصراً، والتي كانت مرتبطة بمعاملات النفط في سوريا. ويمكن أن تجمع تل أبيب هذه المعلومات من قبل عملاء الموساد وجماعات التنصت على المكالمات الهاتفية والأمن السيبراني للجيش الإسرائيلي.
90 % من حركة البضائع من وإلى إسرائيل تتم عن طريق السفن. ويصف ميلمن البحر بـ"بطن إسرائيل الناعم" أي نقطة الضعف، وأكد قادة البحرية مراراً على الأهمية الاستراتيجية للقوات البحرية.
من الناحية التشغيلية، يتطلب تخريب الناقلات دون التسبب في غرقها الاستخدام الدقيق للألغام والقنابل. وبعد تعرضها للتلف، تبحر هذه الناقلات إلى موانئها الأصلية للإصلاح، أو يتم سحبها إليها.
هذه هي الطريقة، التي تم تبنيها خلال فترة آيزنكوت وتم تعزيزها خلال فترة رئيس الأركان الحالي أفيف كوخافي، ونجحت بشكل جيد، إذ تم تخريب نحو 20 ناقلة إيرانية، وكانت هناك أيضاً ناقلات لم يتم تحديد مكانها ووصلت إلى وجهتها. وتقدر الخسائر التي لحقت بفيلق القدس وحزب الله والميليشيات الشيعية خلال عامين ونصف العام - جراء هذه التدخلات الإسرائيلية- بأكثر من نصف مليار دولار.
وكانت هناك معلومات استخباراتية مكنت من تخريب السفن التي تحمل أسلحة أو مكونات لتحسين دقة الصواريخ الإيرانية.
التسريب
رأى المخططون العسكريون الإسرائيليون الذين ابتكروا هذه التكتيكات أنه طالما تم الحفاظ على السرية في هذه العمليات، فلن يسرع الإيرانيون في الاعتراف بأن "عدوهم" نجح مراراً وتكراراً في اختراق أنظمته وكشف نقاط ضعفها.
حدث ما حذر منه هؤلاء المخططون، إذ تسربت تقارير بغزارة تتحدث عن هذه العمليات الإسرائيلية، مما أجبر إيران على إدراك أنها لا تستطيع أن تغض الطرف، واستجابت بسرعة.
قام الكوماندوز البحري التابع للحرس الثوري بتخريب سفينتين مملوكتين لرجال أعمال إسرائيليين لأولى لإيهود أنجيل المعروف باسم "أودي" والثانية لأبراهام أنغار المعروف باسم "رامي".
يعد رامي صديق شخصي لرئيس الموساد يوسي كوهين، وتبرع بالمال لمعبد كوهين اليهودي. أما أنجيل فهو الشريك التجاري لعائلة عوفر التي تمتلك أسطولاً من السفن وناقلات النفط.
باتت موجة التقارير تزعج دوائر الشحن أيضًا، التي بدأت تعرف بالصراع، وتشعر بالخوف من زعزعة الاستقرار، ما يرفع تكاليف التأمين على السفن الإسرائيلية المتخوفة من إيران. بالإضافة إلى ذلك، تدرس الإدارة الأمريكية الجديدة سياستها تجاه إيران وتحاول تحديد كيفية العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات.
ويقدر مسؤولون في وزارات جيش الاحتلال والاستخبارات الإسرائيلية أن هذه التسريبات أضرت بالفعل بالأمن القومي، وأجبرت إيران على الرد - على حد زعمهم- بتخريب السفن التي يملكها إسرائيليون. وزاد ذلك بدوره الضغط على إسرائيل من قبل الولايات المتحدة وشركات الشحن الدولية وشركات التأمين للكف عن المشاجرات في البحار المفتوحة.
يشرح مسؤول عسكري إسرائيلي سابق شارك في صنع القرارلهآرتس: "طالما كانت المهمات التخريبية تتم سراً، كان من الملائم بالنسبة لإيران تجاهلها كما لو أنها لم تحدث، لكن في اللحظة التي بدأت فيها الثرثرة، كان من الواضح للقيادة الدبلوماسية والعسكرية الإسرائيلية أن هذه لعبة خطيرة ذات تأثير مرتد... حرب التخريب البحري هي آخر ما تحتاجه إسرائيل".
90 % من حركة البضائع من وإلى إسرائيل تتم عن طريق السفن، ويصف ميلمن البحر بـ"بطن إسرائيل الناعم" أي نقطة الضعف، وأكد قادة البحرية مراراً على الأهمية الاستراتيجية للقوات البحرية.
هنا يطرح ميلمن سؤالاً آخيراً وهو؛ هل كانت الإدارة الأمريكية الجديدة هي مصدر نشر هذه التقارير؟ وتحاول أن تشير إلى إسرائيل بالتوقف عن عملياتها؟ أما الأسوأ، هل كان مصدر التسريبات هو كبار مسؤولي الجيش الإسرائيلي والموساد، كجزء من معارك "الأنا" الخاصة بهم حول "من منهم" صاحب عمليات التخريب؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين