وحدها الأقدار الغريبة قررت أن يستقر الفيلسوف الفرنسي الشهير في تونس. حينها لم يكن كما نعرفه أبداً، بل مجرد مدرّس جامعي يصارع من أجل موقع في مشهد فرنسي يزدحم بالفلاسفة.
في صيف عام 1965، وقبل أن يبدأ العام الجامعي، وصل ميشال فوكو إلى تونس للتمتع بالشمس والبحر، واللحاق بصديقه الحميم دانيال ديفيرت الذي كان مفروزاً إلى إحدى المؤسسات الفرنسية في تونس ضمن خدمته العسكرية.
ستشكل هذه اللحظة التونسية، القصيرة في سيرة فوكو الشخصية، لاحقاً، نقطة تحول في مسيرته الفكرية والتزامه السياسي، لكن حالها حال التجارب المجنونة ستكشف عن رجل خارج التصنيفات، يحمل داخله تناقضات ولا يسمح بأن يُقبض عليه بسهولة.
بدافع الحياء أو العناد، كان يكره أن يُسمّى أو يصوَّر أو يُجبَر على هوية ثابتة. فطوال حياته، سعى جاهداً للتحرك والفرار والدوران والتقاطع والتعرج، من الشمال إلى الجنوب، من اليمين إلى اليسار، من الفلسفة إلى التاريخ، من الطب النفسي إلى السياسة، من الأحداث الجارية إلى العصور القديمة، من خلال تكوين صداقات غير متوقعة وفضول متناقض، كما تصفه هلويس ليريتي في دراستها "فوكو الغامض".
مدرّس نحبه ويحبنا
في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في تونس، استقر فوكو مدرّساً للفلسفة، لكنه على خلاف النموذج السائد حينذاك للأستاذة، كانت علاقته بطلبته أفقية. كانت أقرب إلى الصداقة منها إلى علاقة الأستاذ الأبوية الصارمة.
يحكي أستاذ الفلسفة فتحي التريكي عن ذلك، في مذكراته التي تحمل عنوان "الذاكرة والمصير: محطات في مسيرتي الذاتية" (نقلاً عن مجلة "مثاقفات" الفصلية، العدد الأول، لندن 2020)، قائلاً: "كنا نلتقي يومياً مع فوكو في الجامعة وأحياناً في مقهى العالم أو في المكتبات، وكان حريصاً على معرفة ما نطالعه وما ندرسه... وكان يطلق علينا، نحن الأصدقاء الأربعة، سكان الشقة 1 شارع بورقيبة، تسمية ‘أبناء ماركس وكوكاكولا’ فقد كنّا في نظره ليبراليين ندافع عن الحرية في كل شيء والحريات العامة وفي الآن نفسه ننادي بالثورة البروليتارية... لم يكن يعتبر ذلك تناقضاً أو انفصاماً بل هو التمشي الحقيقي في زمن الديكتاتورية... ذات مرة، وبعد أن أتمم درساً حول منزلة الإنسان في الحضارة الغربية، وعندما كان يغادر القاعدة توجهت إليه بالسؤال التالي: ‘لاحظت أنك اليوم كنت ماركسياً في تحليلك’، فأجابني بقولة لن أنساها ‘نحن كلنا ماركسيون حتى النخاع، لذلك يجب أن نفكر بطريقة أخرى عوض أن نبقى نجتر ماركس’... في تلك اللحظة لم أفهم إجابته، أن تفكر بطريقة أخرى، هي طريقة جديدة للإبداع الفكري... عندما فهمت مقصد هذا التعبير أصبح ديدن تفكيري".
وفي مقابلة مع جريدة لابراس التونسية الناطقة بالفرنسية، ذكرها التريكي في مذكراته، قال فوكو إنه "لم يجد طلبةً لديهم من الجدية والتعطش للمعرفة إلا في تونس والبرازيل".
ويشير تلميذه فتحي التريكي إلى أن "الجامعات الفرنسية قبل شهر ماي (أيار/ مايو) 1968 قبلت عضوية ميشيل فوكو في قسم علم النفس ورفضت قبوله في قسم الفلسفة. وعندما جاء إلى تونس، سُمّي لأول مرة في حياته أستاذاً للفلسفة، فكانت الجامعة التونسية بالنسبة إليه انطلاقة تجربته لتدريس الفلسفة. وعلى هذا الأساس، يمكننا قراءة كتابه أركيولوجية المعرفة الذي قد كتبه بسيدي بوسعيد بتونس، وهو كتاب ذو بعد فلسفي تنسيقي واضح قد حاول به فوكو أن يوضح منهجيته التي تختلف في أبعادها وتمظهراتها عن المنهجية البنيوية".
ويضيف أن "اللحظة التونسية قرّبت فوكو من الفكر الفلسفي المنهجي بعدما كان همه البحثي قد تأسس في علم النفس ثم في تاريخ الأفكار. كما درّس في الجامعة التونسية، ديكارت وهوسرل ودرّس في علم النفس وألقى درساً عاماً يحضره المثقفون والطلبة حول ‘منزلة الإنسان في الفكر الغربي الحديث’ كما أعطى، ولأول مرة في تونس، درساً في الجماليات وتاريخ الفنّ وخصصه لشرح النهضة الإيطالية وذلك بجانب قيامه بمحاضرات عامة عديدة".
العمل السريّ
لم تتوقف علاقة فوكو بطلبته عند أسوار الجامعة بل تعدّتها إلى خارجها، حيث كانت مجموعات طلابية يسارية تخوض صراعاً سياسياً ضد نظام الحزب الواحد وقائده الحبيب بورقيبة. انخرط فوكو بقوة في دعم "العمل الثوري" لتجمع الدراسات الاشتراكية المعروف باسم "برسبكتيف"، وهو تنظيم يساري جذري.
وبحلول ربيع العام 1968، دخلت الحركة الطلابية التونسية في موجة تظاهرات واعتصامات تطالب بإطلاق سراح عدد من القيادات اليسارية التي حُكم عليها في محاكم أمن الدولة بأحكام قاسية وصلت إلى أكثر من عشر سنوات.
أثناء تدريسه الفلسفة في تونس، دعم ميشال فوكو الطلاب في حركتهم ضد نظام بورقيبة القمعي، وعندما شكّ البوليس التونسي في إمكانية مساعدته لليسار التونسي "أوعز لميليشيات الحزب الحاكم بضربه في ليلة من ليالي الشتاء"
يتحدث فتحي التريكي عن هذه اللحظة الفارقة في حياة الفيلسوف الفرنسي قائلاً: "تفاعل فوكو مع أحداث آذار (مارس) 1968، التي اندلعت تطالب بإطلاق سراح (القيادي الطلابي اليساري) محمد بن جنّات والمساجين السياسيين القابعين في السجون... وكنت مع ثلة من زملائي وأصدقائي الذين انتخبهم الطلبة في فروع المنظمة الطلابية ‘الاتحاد العام لطلبة تونس’ نسّير الأحداث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية وأعلنّا الإضراب العام في الكلية وفي الجامعة. وقررنا أن نستثني من الإضراب دروس ميشال فوكو لأننا اعتبرناها مكسباً لا مجال لتعطيله فأعلمناه بذلك ووافق".
ويتابع: "كنّا نحضر هذه الدروس حتى نبعد عنه الشبهة والقلق. وفي ذلك الظرف الصعب والخطير حوّل فوكو سكنه في سيدي بوسعيد إلى مقرّ اجتماعات الطلبة المناضلين وقامت حركة ‘برسبكتيف’ بنقل الآلة الناسخة التقليدية إلى دار فوكو، فتمت هناك كتابة المناشير وطبعها بل ذهب فوكو إلى أبعد حد في مساعداتنا فكان يحمل الطالب حاتم الزغلّ في سيارته كل ليلة ليوزع المناشير في أنحاء عديدة من مدينة تونس ويبقى فوكو في سيارته يترصد... كان ذلك كافياً لتفنيد زعم الحكومة بأنها قضت على الحركة وكان ذلك إشارة واضحة لنا بمواصلة النضال. ورغم ذلك فقد شكّ البوليس في إمكانية إعانة فوكو لليسار التونسي فأوعز لميليشيات الحزب الحاكم بضربه في ليلة من ليالي الشتاء".
لاحقاً، وبعد سنوات من انقضاء التجربة، تحدث ميشال فوكو بحنين جارف عن أيامه في تونس وعن كفاح طلبة اليسار، ضد نظام الحزب الواحد، وخاصة عن تأثير هذه التجربة التي عاشها عليه، في حوار طويل مع الكاتب الإيطالي أنتونيو ترومبادورى في باريس، أواخر عام 1978، عقد فيه مقارنة بين الحركة الطلابية الفرنسية ونظيرتها التونسية.
يقول فوكو في هذا المقابلة: "يجب عليّ أن أضيف شيئاً وهو أن هذه التجربة كانت حاسمة بالنسبة إليّ... عشت في بلد غير نامٍ وهو تونس لمدة عامين ونصف العام. لقد كانت تجربة صادمة: قبل أيار (مايو) 1968 بقليل بفرنسا، كانت هناك تحريضات طلابية عنيفة جداً. لقد كان ذلك في آذار (مارس) من السنة نفسها: إضرابات، مقاطعات للدراسة، واعتقالات حدثت واحدة تلو الأخرى على مدار السنة. لقد اقتحمت الشرطة حرم الجامعة وهاجمت طلاباً كثيرين، وجرحت مَن جرحت منهم، وألقت بهم في غياهب السجن، كما أصدرت المحاكم ضد هؤلاء الطلاب أحكاماً بالسجن تتراوح بين ثماني وعشر سنوات، وأربعة عشر سنة... لقد كنت أثناء هذه التغيرات الانقلابية مصاباً بالذهول من هؤلاء الشبان (رجالاً ونساء) الذين عرّضوا أنفسهم لمخاطر حقيقية بسبب كتاباتهم لشعارات على الملصقات أو بسبب توزيعهم لها، أو جراء تحريضهم للآخرين ليقوموا بالإضراب".
ويضيف: "لقد كانت مثل هذه الأعمال كافية لأن تضع حياة أو حرية أو جسد أحد ما في خطر، لقد ترك هذا انطباعاً قوياً عليّ: لقد كان بالنسبة إليّ تجربة سياسية حقيقية".
أثناء تدريسه الفلسفة في تونس، أطلق ميشال فوكو على بعض طلابه اليساريين تسمية "أبناء ماركس وكوكاكولا" فقد كانوا في نظره ليبراليين يدافعون عن الحرية في كل شيء والحريات العامة وفي الآن نفسه ينادون بالثورة البروليتارية
ويتابع أنه "بالنسبة إلى أولئك الشبان الصغار فإن الماركسية لم تكن تمثل فقط طريقة لتحليل الواقع، بل كانت أيضاً نوعاً من القوة الأخلاقية، وفعلاً وجودياً. إنني أحسست أن الوهم قد سقط عنّي، وأشعر أنني مملوء بالمرارة حين أفكر في الفرق الكبير الذي كان بين ما كان عليه الطلاب التونسيين الماركسيين، وبين ما كنت أعرفه عن تشكيلات الماركسية في أوروبا (فرنسا، بولونيا، إلخ). وهكذا فقد مثلت لي تونس بصورة ما فرصة أن أدخل نفسي مجدداً في الجدل السياسي. لم يكن ذلك في أيار/ مايو 1968 في فرنسا، بل في آذار/ مارس 1968 في بلد من العالم الثالث".
وبعد رحيله عن تونس، بقي ميشال فوكو متعلقاً بمصائر هؤلاء الشباب الذين تُركوا في السجون بلا رحمة. وفي هذا السياق، يروي رفيقه الذي ربطتهما علاقة استمرت من عام 1963 حتى عام 1984، أستاذ علم الاجتماع دانيال ديفيرت أن فوكو عاد إلى تونس زائراً وكان يتابع المحاكمات الدائرة وينتقل بين الأحياء يسأل المحامين وذوي الطلبة عنهم، وقبل أن يعود إلى باريس ترك راتبه لدى المحامين نظير أتعابهم.
ويقول ديفيرت في مقابلة نشرتها جامعة أوكسفورد: "لم نتمكن في النهاية من فعل أي شيء لأنهم حُكم عليهم بالسجن لمدة ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاماً. لكن فوكو استثمر الكثير. مكث في تونس لأطول فترة ممكنة ليترك راتبه للأسر، لأن الكثير من الطلبة كانت لديهم منح دراسية يدعمون عائلاتهم من خلالها وقد توقفت بفعل السجن".
حياة حميمة ومتناقضة
فوكو الذي انخرط في العمل السري جنباً إلى جنب مع طلابه ضد نظام الرئيس الحبيب بورقيبة، هو نفسه الذي سيلبّي دعوة من بورقيبة للقائه في قصر الحكم.
ويكشف فتحي التريكي خفايا هذا اللقاء اليتيم بين الرئيس والفيلسوف قائلاً: "استقبله رئيس الجمهورية آنذاك في قصر قرطاج وفي معرض حديثه معه طلب منه أن يدرسّ الطلبة التونسيين ديكارت حتى يتعلم الجيل الجديد قواعد التفكير وذلك ما رواه فوكو نفسه لصديقي (أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية وأحد تلاميذ فوكو) أحمد الحسناوي وقد لبى فوكو هذا الطلب فدرّسنا ‘خطاب المنهج’ وكتاب ‘التأملات’ من خلال قراءة هوسرل". وقد قامت الباحثة التونسية رشيدة التريكي بتحقيق محاضرات فوكو في الجامعة وفي النوادي الثقافية التونسية ونشرها.
وفي عالم آخر موازٍ لعوالم السياسية والفلسفة كان ميشال فوكو يعيش في تونس حياة جنسية صاخبة. اتهمه الكاتب الفرنسي جي سورمان بالاعتداء الجنسي على الأطفال، متحدثاً في مقالة بعنوان "الموهبة لم تعد تبرر الجرائم" عن المغامرات الجنسية المحرمة لفوكو في تونس قائلاً: "ذهب الفيلسوف ميشيل فوكو، النجم الفكري في السبعينيات، إلى أبعد من ذلك، فقد اعتبر أن أي قانون، وأي معيار، هو شكل من أشكال الاضطهاد من قبل الدولة والبرجوازية. باسم التحرير الكامل، الذي طبقه لنفسه لأول مرة، اتخذ لنفسه أولاداً صغاراً في تونس، بحجة أن لهم الحق في التمتع. لم يهتم فوكو بما حدث للضحايا، أو أراد أن يتجاهل أنهم كانوا ضحايا إمبريالي أبيض عجوز".
وكرر سورمان هذه الاتهمات أكثر من مرة وعلى شاشة التلفزيون، وهي التهم نفسها التي نجد لها صدى في كتاب الباحثيين جانيت عفاري وكيفن ب أندرسون المرجعي، "فوكو والثورة الإيرانية/ النوع الاجتماعي وإغراءات الإسلاموية"، إذ يشيران إلى أن فوكو ومنذ أن كان في تونس ثم لاحقاً خلال رحلته إلى إيران أثناء الثورة على الشاه كان يُظهر باستمرار تساهلاً مجرماً ضد هذه الثقافات "الشرقية" التي بدت له مثل الإغريق القدماء، تغض الطرف عن ممارسة همجية كاشتهاء الأطفال.
أسباب الرحيل كثيرة
في أواخر عام 1968، حزم فوكو حقائبه عائداً إلى باريس. لم تكن أسباب الرحيل معروفة، ولم يتحدث لاحقاً عن ذلك أبداً. رفيقه دانيال ديفيرت يرى أن الشرطة التونسية دفعته للمغادرة في صيف عام 1968 بعد نشاطه الكبير في دعم الطلبة المعتقلين، فعاد في أيلول/ سبتمبر 1968 لاستئناف التدريس لكنه لم يلبث طويلاً حتى رحل مرة أخرى وكان رحيلاً نهائياً.
بيد أن المفكر العربي إدوارد سعيد يقدّم رواية أخرى عن أسباب رحيل فوكو عن تونس تتعلق بآثار حرب حزيران/ يونيو 1967. في آذار/ مارس 1974، وصل سعيد إلى باريس للمشاركة في ندوة نظّمها جان بول سارتر ومجلة الأزمنة الحديثة Les Temps Modernes حول السلام في الشرق الأوسط، وهناك التقى فوكو وجرى بينهما الحديث عن أسباب رحيله.
يقول إدوارد سعيد: "كان ميشال فوكو حاضراً، لكنه سرعان ما جعلني أفهم أنه ليس لديه ما يقوله حول موضوع الندوة، وأنه سيغادر بسرعة كبيرة، مثل كل يوم، لينغمس في عمله البحثي في المكتبة الوطنية. ولكن بعد ذلك بوقت طويل (بعد حوالي عقد من وفاته، والذي حدث في عام 1984) توقعت سبب تردد ميشال فوكو في الحديث معي عن سياسات الشرق الأوسط. في السيرة التي كتبها لفوكو، كشف ديدييه إريبون وديفيد ماسي أنه كان يدرّس في تونس عام 1967 وأنه غادر على عجل في ظل ظروف غير عادية بعد وقت قصير من حرب حزيران/ يونيو. وبحسب فوكو، فإن رحيله الطوعي كان بسبب رعبه من أعمال الشغب ضد إسرائيل ومعاداة السامية، لكن أحد زملائه التونسيين في الثمانينيات أوضح أنه طُرد لأسباب أخرى. ما زلت لا أعرف أي سبب هو الصحيح".
عاش فوكو لحظة الخامس من حزيران/ يونيو 1967 في تونس بكل عنفها. كانت البلاد في حالة غليان تصفها المؤرخة التونسية اليهودية صوفي بسيس بأنها "اليوم الحاسم في تاريخ النزوح اليهودي"، فقد شحنت الأخبار القادمة من الجبهة المصرية مشاعر الآلاف شحناً غير مسبوق.
تقول بسيس: "تجمعت في تونس العاصمة تظاهرة، ونزل الطلاب من الجامعة رافعين شعارات معادية للولايات المتحدة الأمريكية محمّلين إيّاها مسؤولية الهجوم الإسرائيلي الخاطف. وقد توجّه المتظاهرون نحو المركز الثقافي الأمريكي الذي كان يقع في وسط المدينة، والذي لم تتمكّن عناصر الشرطة القليلة التي أرسلت بسرعة إلى المكان من الحؤول دون تخريبه وحرق العلم الأميركي للمرّة الأولى في تاريخ تونس. تعاظم الحشد، في حين برز فيه عدد من الهاتفين الدخلاء يتظاهرون برفع صور الرئيس بورقيبة ويسعون إلى السيطرة على المسيرة وتحويل مجراها. فتوجّه المتظاهرون تحت تأثيرهم نحو الكنيس الكبير في العاصمة، مدمّرين في طريقهم واجهات محلات التجار اليهود. وكان عشرات من الطلبة المنتمين للحزب الشيوعي ولحركة بيرسبيكتيف (آفاق) اليسارية الغاضبين من انجراف المظاهرة إلى معاداة اليهود كطائفة، قد كوّنوا سلسلة لمحاولة وقف المخرّبين دون أن يتمكنوا من ذلك. وألقيت كتل ملتهبة على الكنيس الذي بدأ يحترق. أما في محيطه، فقد كان اليهود المتواجدون بأعداد كبيرة في الحي، يحاولون التمترس بسرعة أو البحث عن ملجأ عند أصدقاء مسلمين هرباً من غضب الشارع".
كان فوكو يتابع الحدث تحت وقع الصدمة والخوف. وينقل فتحي التريكي في مذكراته نقاشهم مع أستاذهم في هذه اللحظة: "وقعت بيننا مناقشات حادة حول الوجهة التي أخذتها المظاهرة وفي الأخير اقتنع بوجهة نظرنا التي تجعل من النظام وحزبه وبوليسة المسؤولين الأوليين عما حدث، حتى ولو انساق بعض الطلبة في ذاك المسار".
وقد أثبتت الوقائع التاريخية لاحقاً أن طلبة اليسار لم يكن لهم أي دخل في الهجوم على المواطنين اليهود ومعابدهم بل كانت المظاهرات مدبرة من جناح داخل الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في سياق صراعات داخلية. وقد تحدث الباجي قائد السبسي، وكان في ذلك الوقت وزيراً للداخلية، عن الواقع بتفصيل في مذكراته "الحبيب بورقيبة: الأهم والمهم".
لكن إدوارد سعيد يضيء جزءاً آخر من حياة فوكو ومواقفه. يقول متابعاً الحديث عن مواقف فوكو الغامضة من إسرائيل: "في نهاية الثمانينيات، أخبرني جيل دولوز أن فوكو وهو، الذي كان قريباً جداً منه في السابق، انفصلا بسبب خلافاتهما حول فلسطين، ودعم فوكو لإسرائيل، ودولوز للفلسطينيين. فلا عجب إذن أنه لا يريد مناقشة الشرق الأوسط معي أو مع أحد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.