شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
رسول الجماعة... رحلة أول مبعوث إخواني إلى تونس في الأربعينيات

رسول الجماعة... رحلة أول مبعوث إخواني إلى تونس في الأربعينيات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 1 مارس 202111:37 ص

صيف عام 1948، كانت تونس تغلي. الناس متحلقون حول أجهزة المذياع الكبيرة في الحوانيت ومحلات الحلاقة يتابعون بوجل أخبار الحرب في فلسطين، والجمعيات الأهلية تحشد المتطوعين نحو الجبهة، والحركة الوطنية مقطعة الأوصال بين المنافي والسجون. في تلك الأثناء وصل إلى البلاد شاب مصري يُدعى توفيق الشاوي، طالب دكتوراه في الحقوق في جامعة السوربون، على ظهر سفينة قادمة من مرسيليا تقل جمعاً من المعلمين جاء إلى "المستعمرة الفرنسية"، في رحلة سياحية نظمتها إحدى الجمعيات.

توفيق الشاوي

لكن الشاوي كان أجنبياً، يحمل هوية زرقاء، لا تخوله النزول إلى تونس إلا بتأشيرة، عجز عن الظفر بها في باريس، الأمر الذي دفعه إلى التسرب من بين المسافرين متسللاً وسط الجموع، فأخطأته عين حرس الحدود في ميناء حلق الوادي، ونجح في الولوج إلى تونس.

كانت المهمة التي جاء من أجلها تستحق ذلك وأكثر. لم يكن سائحاً، شأنه شأن المئات الذين رافقوه على ظهر السفينة، يبتغي شمس تونس الدافئة وشواطئها المرحة، بل كان "رسولاً في مهمة مقدّسة'' كلفته بها جماعة الإخوان المسلمين، التي ينتمي إليها.

فالجماعة المصرية المولد والمستقر لم تكن مكتفيةً بـ"مصريتها" بل تعتقد أن كل العالم ملعبها، ولن تكون تونس اسئتثناءً أمام عقيدتها التوسعية.

قسم الاتصال بالعالم الإسلامي

كثيراً ما تَسقط الدراسات التاريخية التي اهتمت بدراسة الحركة الإسلامية التونسية في اختزال تاريخ وجود الإسلام السياسي بنسخته الإخوانية بظهور حركة النهضة، في نهاية ستينيات القرن الماضي، والتي كانت تسمى حينذاك "الجماعة الإسلامية". بيد أن المحاولات الإخوانية للحضور التنظيمي والدعوي في تونس وفي عموم بلاد المغرب تعود إلى فترة مبكرة، إلى أيام مؤسس الجماعة حسن البنا.

فالجماعة تأسست سنوات قليلة بعد سقوط الخلافة العثمانية، وكانت ردة فعل على ذلك، ووضعت نصب عينيها منذ البداية إعادة بناء هذا الجسم الذي انهار وتقطّعت أوصاله مخلّفة "دولاً قطرية" مفرقة الولاء والمرجعية، حتى أن حسن البنا يقول في مذكراته إنه حاول البحث عن أماكن أخرى في العالم الإسلامي لإطلاق جماعته كاليمن.

وفي هذا السياق، يشير الباحث الراحل حسام تمام في دراسة له حول التنظيم الدولي نُشرت عام 2004 إلى أن البنا "وبمجرد أن بدأت جماعته تستوي على عودها وتستقر قواعدها أسس قسماً خاصاً أسماه قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، كان عمله الأول والوحيد إنشاء فروع للجماعة خارج مصر والتواصل مع الشخصيات والتيارات القريبة من أفكار جماعته ومن هذا القسم بدأت كل علاقات الإخوان واتصالاتهم في كل أنحاء العالم".

ويضيف أنه "عبر هذا القسم اتصلت الجماعة بالطلاب العرب والمسلمين الذين كانوا يدرسون في مصر، خاصة في الأزهر الشريف، وانضم من خلاله عدد من الطلاب صاروا بعد تخرجهم ورجوعهم إلى بلدانهم قيادات إسلامية بارزة وضعت نواة تنظيمات الإخوان في بلدانها. وفي سنوات قليلة استطاع القسم ربط جماعة الإخوان بالعالم وتأسيس عدد كبير من تنظيمات الإخوان في العالم الإسلامي في سوريا ثم الأردن ثم السودان وإندونيسيا والصومال واليمن وأفغانستان."

كان توفيق الشاوي من بين هؤلاء العشرات من شباب الإخوان الذين التحقوا باكراً بقسم الاتصال بالعالم الإسلامي. وبحكم تعليمه الفرنسي ومقامه الباريسي، نجح في ربط علاقات وطيدة مع الطلاب المغاربية في فرنسا، وخاصة مع قيادات الحركات الوطنية المغاربية.

ويروي الشاوي في مذكراته واقعة اختياره ليكون مبعوث الجماعة إلى فرنسا ومستعمراتها قائلاً: "في العام 1945 أخبرني عميد كلية الحقوق محمد مصطفى القللي أن هناك بعثة لأمريكا لدراسة الاقتصاد السياسي، وعندما بدأت أستعد للسفر طلب مني الشيخ حسن البنا أن أجتهد في تغيير البعثة من الولايات المتحدة إلى فرنسا (...) وهذا ما فعلته. لقد غيّرت مسيرة حياتي كلها من أجل العمل الذي كُلّفت به."

قبل رحيله إلى باريس، تعرّف الشاوي من خلال جماعة الإخوان على العشرات من قيادات حركات التحرر الوطني المغاربية الذين استقروا في القاهرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومن بينهم رئيس الحزب الدستوري التونسي الحبيب بورقيبة، والقيادي المغربي علالة الفاسي، والجزائري الفضيل الورتلاني، أحد مؤسسي جمعية العلماء في الجزائر ومؤسس اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر، والذي بايع حسن البنا وأصبح قيادياً في جماعة الإخوان.

في الحي اللاتيني

في خريف عام 1946، وصل توفيق الشاوي إلى العاصمة الفرنسية طالباً، واستقر في الحي اللاتيني حيث جامعة السوربون، وحيث يتجمع الطلبة العرب في مقاهي ونوادي جادة السان ميشال والسان جرمان. وشرع منذ وصوله في ربط علاقات مع طلبة دول المغرب، وتوطدت علاقته بالقيادي في الحزب الدستوري التونسي جلولي فارس، مسؤول الحزب في باريس.

جلولي فارس

ويروي الشاوي أحوال صديقه التونسي في باريس والحذر المتبادل بينهما في النقاشات السياسية قائلاً: "جلولي فارس منذ وصوله إلى باريس لم يستأجر مكتباً يعمل فيه بل كان محله المختار هو قهوة في الحي اللاتيني في شارع سان ميشيل، وكانت تسمى لاماسكوت. كان يجلس هناك ويستقبل أصدقاءه من التونسيين والعرب والمسلمين والفرنسيين أيضاً، ومنهم بعض الصحافيين ولذلك كنت ألتقي به يومياً تقريباً، كلما ذهبت إلى كلية الحقوق القريبة من حديقة لوكسيمبرغ وكان في الأصل كما أخبرني معلماً للغة العربية، ومن أعضاء حزب الدستور الجديد، ومن الجنوب من بلدة واحة تسمى الحامة، وتقدّم في إطارات الحزب حتى أصبح عضواً بالمكتب السياسي، ولذلك اختاروه ممثلاً لهم في باريس".

كثيراً ما تَسقط الدراسات التاريخية في اختزال تاريخ وجود الإخوان في تونس بحركة النهضة، في نهاية ستينيات القرن الماضي... بيد أن المحاولات الإخوانية للحضور في تونس تعود إلى فترة مبكرة، إلى أيام مؤسس الجماعة حسن البنا

ويضيف: "كانت صلتي الشخصية به في باريس وثيقة جداً، لأن الشعور الإسلامي عنده أصيل حيّ وكنّا نتكلم عن الإسلام والمسلمين كلاماً عاماً صريحاً، ولكنّي لم أحاول مطلقاً أن أخرج في كلامي عن نطاق عمله في الحزب الوطني أو أدعوه للتعاون مع الإخوان، بل كان كل حديثنا عن حزبه والأحزاب الأخرى وقياداتها وكانت نقطة الخلاف بيني وبينه دائماً هي مسألة التعاون بين الأحزاب الوطنية الثلاثة حزب الاستقلال في المغرب، وحزب الشعب في الجزائر، وحزب الدستور الجديد في تونس، حيث يعتبر أن كل بلد له ظروفه، ومسألة التعاون هذه غير مجدية لأن كل واحد منّا خاضع لقيادة حزبه في بلده، وهذه القيادة هي التي تقرر مبدأ التعاون ونظامه، وحسب ما يوجهوننا فنحن ملتزمون به، وكنت ألمح من خلال حديثه أنه حتى إذا كان لا بد من حوار حول هذه الوحدة أو التعاون فلا بد أن يكون على مستوى القيادات الحزبية، وأن ممثلي حزب الشعب وحزب الاستقلال في باريس حالياً هم الطلبة، ولذلك لا يمكن أن يناقش هذه النقطة معهم لأنه هو عضو بالمكتب السياسي لحزبه، وإذا كان هناك محل للحوار فيكون بينه وبين زعماء الأحزاب الأخرى، أو أعضاء بالمكتب السياسي بها".

اهتم الشاوي بقضية المنصف باي، أمير تونس المنفي في فرنسا بتهمة التعاون مع النازية. وحاول أن يتخطى الرقابة الأمنية التي فرضتها عليه السلطات الفرنسية في مدينة "بو" في وسط البلاد قرب جبال البرانس، ونجح أخيراً في الوصول إليه ولقائه. ويشير في مذكراته إلى أنه نجح في ذلك من خلال مجموعة من الطلبة التونسيين لهم علاقة بالاتحاد العام التونسي للشغل وزعيمه فرحات حشاد، وهم الذين كانوا يتصلون به ويزورونه ويهتمون بقضيته، ومنهم محمد بن صالح وأخوه أحمد بن صالح، وغيرهم ممّن ليست لهم علاقه وثيقة بحزب بورقيبة.

ويتابع الشاوي: "وفي عطلة الصيف (1947) تطوّع بعضهم لترتيب زيارة لي لمقابلته، وفعلاً ذهبت إلى بو وتوجهت إلى القصر الذي يقيم فيه المنصف باي تحت الحراسة، ورحّب كثيراً بزيارتي، وجلست معه طويلاً، وأصر على أن أتناول الغداء معه، وقدم لي أفراد أسرته المقيمين معه، وكانت من بينهم بنتان صغيرتان التقيت بإحداهما بعد خمسة عشر عاماً في الرباط عام 1961 عندما كانت مع زوجها الذي عُيّن سفيرا لتونس هناك، وذكرتني بذلك اللقاء عندما كانت طفلة صغيرة".

المنصف باي

كان الشاوي يراسل قيادته في القاهرة بالتقارير حول نشاطه الباريسي مقدراً مواقف الحركات الوطنية المغاربية من مسألة التعاون مع جماعة الإخوان المسلمين، وتالياً من قضية القبول بدخول الجماعة إلى هذه البلدان ونشر دعوتها. وقد ظهر في مذكراته محبطاً من الموقف التونسي الحذر و"الانعزالي". فيما كان نظيره التونسي جلولي فارس صارماً، ملتزماً بتوجيهات قيادة الحزب في القاهرة.

لكن الشاوي يتحدث عن حل وسط وصل إليه مع فارس: "أقنعته بأنه من الممكن أن يكون هناك لقاء وتنسيق بين ممثلي الأحزاب في باريس للتشاور وتبادل المعلومات، والتنسيق في العمل المحلي هنا وحتى لا يوجد شقاق أو تعارض، واتفقنا على هذا التعاون في الإطار المحلي فقط مثل حضور اجتماعات بشأن قضية فلسطين أو غيرها من القضايا وهذا أمر كان يتم فعلاً على مستوى القاعدة دون حاجة لقرار من الحزب أو ممثليه".

بعد فشل محاولة الدخول إلى الساحة المغاربية من بوابة الأحزاب الوطنية، عمدت جماعة الإخوان إلى سلوك طريق آخر: ركزت على الأفراد من خلال العمل في صفوف طلبة المغرب العربي في القاهرة واستمالة بعض القيادات ذات الميول الدينية المحافظة

ويضيف: "كنت أحدث فارس بما يصلني من أخبار القاهرة وكانت تأتيه بعض الرسائل من الحبيب بورقيبة وزملائه في القاهرة. والغريب أن تونس كانت أول أقطار شمال إفريقيا التي استطعت دخولها في عام 1948، وهي تحت الاحتلال الفرنسي، وقد أراد الله أن تهيأت لي الظروف كي أشاهدها من أقصاها إلى أقصاها وأصبحت صورة تونس كبلد وكشعب أقرب صورة لشمال إفريقيا في ذهني، في حين كانت قضية الجزائر والحركة الوطنية الجزائرية هي أهم ما يشغلني".

15 يوماً في تونس

وصل الشاوي إلى تونس في ظروف استثنائية جداً. فشلت كل محاولاته في زيارة الجزائر، فقرر أخيراً الذهاب إلى تونس تحت ستار رحلة سياحية دون أن يحصل على تأشيرة، وكان حاملاً معه رسالة شخصية من مسؤول الحزب الدستوري في باريس جلولي فارس إلى قيادة الحزب في تونس. وعبر صديقه التونسي الطاهر قيقة، تمكن الشاوي من ترتيب لقاء مع المنجي سليم، أعلى مسؤول حزبي في ظل غياب باقي القيادات في القاهرة.

المنجى سليم

يروي الشاوي وقائع اللقاء وترتيباته: "توجهت إلى منزل قيقة فقال لي إنني عملت ترتيباً مع منجي سليم لكي يلقاك في هذا الصباح ويرافقك أحد أعوانه وهو الطيب السحباني في الموعد وأخذني إلى منزل قريب من ساحة الغنم (في المدينة القديمة) فذهبنا على أقدامنا إلى أحد المنازل وفتح الباب بمفتاح كان معه، وكان البيت ليس فيه أحد من السكان وجلس معي بعض الوقت، وبعد وقت قصير دق الباب، ودخل المنجي سليم ولم أعرفه ولا رأيته من قبل، وقدّم لي نفسه وحيّاني وقال إنني سمعت عنك من بعض طلابنا في فرنسا، وهم يعرفونك هناك، ويعرفون اهتمامك بقضايانا، ولذلك أنا سعيد بلقائك، وسلمته الرسائل التي أحضرتها.

وفي اللقاء نفسه، استغل الشاوي الموقف كي يطرح على قيادة الحزب القضية الرئيسية التي قطع من أجلها البحر بلا تأشيرة: "وبعد أن بلّغته الرسائل الشفوية التي كلفت بها، قلت له هناك موضوع آخر يهمني أيضاً أن آخذ رأيك فيه، قال ما هو هذا الموضوع، قلت له إنك تعرف أنني من الإخوان المسلمين، وهدفنا هو نشر الدعوة الإسلامية، وخصوصاً بين الشباب والطلاب وحيث أنني مكلف بالتعاون مع الأحزاب الوطنية في تونس والجزائر والمغرب، فإنني لا أستطيع أن أقوم بأي نشاط لصالح الدعوة، وخصوصاً إذا كان يؤدي إلى دعوة الشباب للعمل مع الإخوان، إلا بموافقة هذه الأحزاب والاتفاق معها، وأنا شخصياً أعتقد أنه من المصلحة أن تكون لي فرصة للاتصال ببعض الطلبة أو الشباب هنا، أو في باريس لكي أنشر بينهم فكرة الإخوان المسلمين، وهي لا تتعارض مطلقاً مع الحركة الوطنية، ولا مع أهدافها ولا مع التزامهم نحو الحزب، فقال لي هذه مسألة مهمة، ولا أستطيع أن أعطيك الجواب لأنني لا بد أن أرجع إلى المكتب السياسي وأستشيره، ومن حسن الحظ أننا سنجتمع اليوم وسأرسل لك الرد عن طريق الطيب السحباني في المساء قبل الغروب، وما عليك إلا أن تتفق معه على الموعد والمكان."

عصر ذلك اليوم، تسلل الشاوي نحو منزل صديقه الطاهر، حيث كان الطيب السحباني في انتظاره، ليركبا سيارة أجرة نحو الضاحية الشمالية للعاصمة، وفي أحد المقاهي المطلة على خليج تونس في حلق الواد، وجدوا في انتظارهم الباهي الأدغم، عضو المكتب السياسي لحزب الدستور، والذي سيصبح بعد الاستقلال رئيساً للوزراء.

وبعد التحايا وشرب الشاي الأخضر بالنعناع، استدار الباهي الأدغم نحو توفيق الشاوي وعلامات الأسف بادية على محياه قائلاً: "إن الاقتراح الذي عرضته على السيد المنجي سليم ليس مناسباً في الوقت الحاضر وإن الإخوة أعضاء المكتب السياسي يرون أن هذا قد يتسبب في انشقاق داخل الحزب وأنه يحسن تأجيله، وربما يأتي وقت آخر تكون الظروف أفضل إن شاء الله".

الباهي الأدغم

لكن الطريف في جلسة حلق الوادي التاريخية أن قيادات الحزب الدستوري التونسي لم تخفِ شدة محافظتها، أمام المبعوث الإخواني. وينقل الشاوي طرفة وقعت خلال الجلسة القصيرة: "أثناء جلوسنا جاء شاب ممن يمسحون الأحذية، فقلت له أرجوك أن تنظف لي حذائي، فنظر إلى الحذاء وقال أنت مصري، فقلت له مَن قال لك إنني من مصر، قال لأنك قلت لي نظف الجزمة وهي كلمة مصرية، وليست من كلمات تونس، وقلت له مَن قال لك إنها ليست من لغة المغرب أو سوريا أو غيرها، قال لا إنها من مصر، وقد عرفتها من الأفلام المصرية التي كنت أشاهدها في السينما فقلت له إن هناك بلاداً أخرى مثل سوريا، وهي تستعمل هذه الكلمة. وتدخّل الجالسون معي وصاروا يحدثونني عن أثر الأفلام المصرية في تونس، وأنها تظهر بمظهر لا يعجبهم، وقال أحدهم من المدهش أن نرى في الأفلام كثيراً من المصريات المنتسبات إلى الطبقة الراقية يستعملن كلمة ميرسي وغيرها من المصطلحات الفرنسية، وتظهر فيها مشاهد للمسلمات يرقصن على الطريقة الإفرنجية التي تتعارض مع تقاليد المسلمين وشكوا لي كثيرا من الأثر السيئ الذي تتركه بعض الأفلام المصرية".

لاحقاً، ساح توفيق الشاوي في تونس من شمالها إلى جنوبها، حتى وصل إلى القرى الأمازيغية المنحوتة في جبال أقصى الجنوب على تخوم الصحراء. وقبل أن يغادر تونس أصرّ على لقاء الشيخ الفاضل بن عاشور، أحد رموز الحركة الوطنية، والذي كان قريباً من جماعة الإخوان.

وفي ضاحية المرسى، بلّغ الشاوي الشيخ بن عاشور حصيلة حواره مع قيادة حزب الدستور: "أبلغته خلاصة ما تم بيني وبين المنجي سليم واتصالاتي بالطلبة التونسيين وأنني أرى أنه طالما أنا مكلف بالتعاون مع الأحزاب الوطنية، وأنني لا أستطيع أن أقوم بأي عمل خارج نطاق هذا التعاون، وما داموا رفضوا السماح لي بأن أقوم بهذا العمل بالتعاون معهم، فلن أقوم بشيء، وكل ما أفعله أن أنصح من عرفته هنا بالاتصال بإخوان القاهرة، وإنني سأبلغ الإخوان في القاهرة أن يتصرفوا هم بالطريقة التي يرونها، أما أنا فقد أتممت مهمتي ولم أعد في حاجة إلى أن أتكلم مع أحد بخصوص الدعوة في تونس، فهذا أمر يختص به الإخوان في القاهرة، ومَن يتصل بهم من شباب تونس وشيوخها، وإذا كان لديه ما يمكن أن يقوله للإخوان في هذا الشأن فإنه من الأفضل أن يتصل بهم في القاهرة".

محاولة أخرى فاشلة

بعد فشل محاولة الدخول إلى الساحة المغاربية من بوابة الأحزاب الوطنية، عمدت جماعة الإخوان إلى سلوك طريق آخر: ركزت على الأفراد من خلال العمل في صفوف طلبة المغرب العربي في القاهرة واستمالة بعض القيادات ذات الميول الدينية المحافظة. ونجحت هذه الطريقة نسبياً في صفوف الجزائرين، فيما بقي التونسيون أبعد عن التأثير، رغم العلاقات التاريخية التي جمعت قائد الحزب، الحبيب بورقيبة، بالجماعة في القاهرة.

الحبيب بورقيبة والجماعة

توجهت الجماعة نحو ما تبقى من الحزب الدستوري القديم، الذي انشق عنه حزب بورقيبة ورفاقه عام 1934. ولعبت العلاقة القوية بين حسن البنا والسكرتير العام للحزب القديم محي الدين القليبي دوراً في هذا التوجه.

كان القليبي مقيماً في القاهرة ويدير مكتب اللجنة التنفيذية للحزب وجبهة الدفاع عن شمال إفريقيا. وساهمت نشأته المحافظة وانتماءه الطبقي للأرستقراطية التونسية القريبة من البلاط الحسيني في صياغة توجهه الإسلامي الواضح. فقد كان من المنادين بعودة الخلافة الإسلامية ومعادياً للتوجهات التقدمية للحزب الدستوري الجديد، ووجد في فكر جماعة الإخوان حاضنة له ولما تبقى من حزبه، الذي ورثه عن الشيخ عبد العزيز الثعالبي.

عاد القليبي إلى تونس محمّلاً بأفكار الإخوان، ليبدأ ما عجز عنه توفيق الشاوي. وفي نهاية عام 1948 أسس تنظيماً إسلامياً تحت اسم "حركة البعث الإسلامي" وخلال فترة قصيرة امتد نشاطه نحو أغلب مناطق البلاد مستفيداً من شبكة انتشار فروع الحزب الدستوري القديم، كما مد علاقته نحو طرابلس الغرب.

لكن هذه التجربة التنظيمية ما لبثت أن منيت بالفشل بعد خلافات دبت بين القليبي وقيادات أخرى، عاد بعدها القليبي إلى القاهرة ثم استقر في دمشق حيث توفي في كانون الأول/ ديسمبر 1954، لتظهر الجماعة تنظيمياً مرة أخرى في تونس نهايات الستينيات، تحت مسمى "الجماعة الإسلامية" وسيلعب توفيق الشاوي دوراً كبيراً في مسيرة هذه الجماعة وفي علاقتها بنظام الحبيب بورقيبة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image