"أنا كمواطن أتساءل: متى تنتهي أزمة السكة الحديد؟". قائل هذه العبارة هو رئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أعلن تساؤله الحائر بينما يقف إلى جواره وزراء التعليم العالي والصحة والسكان والتضامن الاجتماعي، في مؤتمر صحافي عاجل عقد مساء الجمعة 26 أذار/مارس، في مستشفى سوهاج الجامعي التي استقبلت عدداً من مصابي وضحايا حادث تصام قطارين، وقع ظهر اليوم نفسه.
تساؤل رئيس الوزراء المحتار أجاب عنه وزير النقل اللواء كامل الوزيري صباح السبت 27 أذار/مارس، محدداً حزيران/ يونيو 2024 موعداً لانتهاء أعمال تطوير مرفق "السكك الحديدية" في مصر. إلا أنه اضاف أيضاً نقطة تستحق التوقف، وهي أنه لحين انتهاء اعمال تطوير المرفق، ستُفعِّل وزارة النقل خاصية الأمن الإلكتروني المثبتة في معظم القطارات، والتي كشف الصحافي الاستقصائي المصري أحمد رجب في سلسلة تغريدات أنها كانت معطلة بقرار من الوزير نفسه.
نداء رحيل أبو عامر على صديقيه الغائبين "حسين ومحمود"، تكرر في فيديو بلغت مدته نحو 34 دقيقة، نقلت خلالها كاميرا هاتفه المحمول مشاهد الموت والذهول.
يا حسين... يا محمود، صاحبي فين؟
نداء ملتاع ارتفع وتكرر من حنجرة "رحيل أبو عامر" الشاب المصري الذي يبدو من مظهره أنه بلغ نحو العشرين من العمر، والذي كان بثه الحي ظهر الجمعة 26 مارس، هو الكاشف عن حجم كارثة اصطدام قطاري ركاب في نطاق قرية "الصوامعة غرب" الواقعة إدراياً في نطاق مركز طهطا بمحافظة سوهاج، وهي من أكثر محافظات مصر فقراً حسب تقارير التنمية البشرية المحلية والدولية التي ترصد الوضع في مصر.
نداء رحيل أبو عامر على صديقيه الغائبين "حسين ومحمود"، تكرر في فيديو بلغت مدته نحو 34 دقيقة، بدأ بثه من داخل عربة القطار المقلوبة التي وقف فيها الشاب المغطى بالغبار والدم، يدور وهو ثابت في مكانه لتنقل كاميرا هاتفه المحمول مشاهد لرفاق من الركاب، قليل منهم أحياء. أجسادهم محشورة تحت حديد القطار، تغطيهم الدماء ويعلو وجوههم ذهول صامت، فإذا انتبه أحدهم للكاميرا بعد ثوان طويلة صرخ: "طلعوني".
بعد ثماني دقائق من مشاهد الدماء والجثامين وصرخات الاستغاثة من داخل عربة القطار المميز 157، المنطلق من الأقصر نحو الأسكندرية، خرج رحيل، وتعالى بكاؤه للمرة الأولى منذ بداية الفيديو وهو يقول "لقيت بيادة صاحبي بس وملقيتهوش... صاحبي كان جنبي وملقيتهوش". يقترب رحيل في مشهد - ربما لم يتنبه هو إلى رمزيته - من أمين شرطة يقعى على الأرض متألماً. وأمين الشرطة في مصر هو أكثر ممثلي السلطة بروزاً في الشارع بين البسطاء، ورمزاً لحضور السلطة وسيطرتها، يسأل رحيل أمين الشرطة: "فين المسؤولين يا باشا؟ فين المحافظ؟". ينظر له أمين الشرطة ذاهلاً ثم يترك جسده يتداعى على الارض مطلقاً آهة ألم.
تتوالي المشاهد الصادمة والدالة طوال 34 دقيقة في الفيديو الذي كان هو الأكثر تداولاً في مصر يوم الجمعة، احتلت معظم شريط صرخات رحيل، الذي يعلم عبر حسابه الخاص على فيسبوك أنه مجند يؤدي خدمته العسكرية بالقوات الخاصة في الجيش المصري.
في فيديو آخر نشرته قناة "راديو حريتنا" على يوتيوب، قال شاهد عيان في منطقة الحادث إن أولى عربات الإسعاف وصلت بعد الحادث بأكثر من أربع ساعات، مؤكداً أن أهالي القرى المحيطة بالحادث هم من قاموا بعمليات الإنقاذ الأولى لحين وصول سيارات الإسعاف ومعدات الإنقاذ الرسمية بعد خمس ساعات تقريباً من الحادث، ووصول المسؤولين وأولهم محافظ سوهاج.
أمين الشرطة في مصر هو أكثر ممثلي السلطة بروزاً في الشارع بين البسطاء، ورمزاً لحضورها وسيطرتها. يسأل رحيل أمين الشرطة: "فين المسؤولين يا باشا؟ فين المحافظ؟". ينظر له أمين الشرطة ذاهلاً ثم يترك جسده يتداعى على الأرض مطلقاً آهة ألم.
شاهد العيان نفسه واسمه – حسب الفيديو- الحاج محمد محمود السيد، وهو من سكان مركز المراغة القريب من موقع الحادث، شهد هو والمحيطون به من المشاركين في الإنقاذ، من هيئة السكك الحديدية المسؤولة عن تشغيل وصيانة خطوط القطارات والقطارات العاملة عليها، ما جرى، والتي قامت بتنفيذ نظام غلق إلكتروني قبل عام من الحادث، وتساءل: "الحاجات دي مشتغلتش ليه؟".
من المسؤول؟
تساؤلات الحاج محمد محمود السيد تحيل إلى التساؤل الذي انقسم الناس في مصر في الرد عليه إلى ثلاثة أفرقاء. الفريق الأول عبر عنه بيان هيئة سكك حديد مصر الذي صدر بعد دقائق من الحادث متهماً "مخربين" لم يسمهم بالمسؤولية عن الحادث من خلال "العبث في بلف الامان" الخاص بالقطار وشارك هذا الفريق تيار سارع لاتهام جماعة الإخوان المسلمين بالمسؤولية، والفريق الثاني برز سريعاً على منصات التواصل الاجتماعي في مصر متهماً الحكومة بالمسؤولية وصولاً إلى رئيس الجمهورية، أما الفريق الثالث فغردت فيه النيابة العامة المصرية خارج السرب عندما اصدرت بياناً يطالب مؤسسات الدولة (ومنها وزارة النقل وهيئاتها التابعة) بعدم إصدار أية بيانات تستبق انتهاء التحقيق.
وبعيداً عن اتهام الإرهاب وجماعة الإخوان المسلمين، استعاد صحافيون ومواطنون تصريحات قديمة للرئيس عبد الفتاح السيسي أعلن فيها رفضه إنفاق مليارات على تطوير منظومة النقل عبر القطارات (السكك الحديدية) في مصر باعتبارها ستمثل فرصة استثمار ضائعة. هذه التصريحات التي تلاها بعد عدة سنوات حصول الدولة على بضعة قروض من البنك الدولي لتطوير منظومة السكك الحديدية، كان أحدثها حزمة بـ440 مليون دولار، أعلنت في مطلع الشهر الجاري.
إلا أن سلسلة تغريدات نشرها الصحافي الاستقصائي المصري أحمد رجب كشفت عن صراع دار بين وزير النقل اللواء كامل الوزيري، المقرب من الرئيس عبدالفتاح السيسي، وسائقي القطارات بسبب رفض الأخير تفعيل منظومة الإيقاف الإلكتروني التي من شأنها أن تحد من حوادث القطارات.
نوفمبر 2020:وزير النقل يوافق على حل مشكلة تأخير القطارات بايقاف نظام تأمين المسير الإلكتروني بيحمي القطارات من التصادم.
— Ahmed Ragab (@Ragab) March 27, 2021
مارس 2021:تصادم قطارين يؤدي لوفاة 19 مواطن
مارس 2021:الوزير يقرر العودة لنظام تأمين المسير حفاظا على الأرواح.
هل في محاسبة في مصر؟
مجلس الوزراء 27 مارس 2021. pic.twitter.com/Z56IkHls0h
يعود الخلاف بين وزير النقل وسائقى وعمال السكك الحديدية إلى دأب الأجهزة الأمنية والقضائية في مصر على محاسبة السائقين والعاملين دوماً على الكوارث التي تقع في منظومة السكك الحديدية والتي تبلغ مئات الحوادث سنوياً، بعضها حوادث كبرى.
كان أكبر تلك الحوادث هو انفجار جرار بمحطة رمسيس، محطة القطار الرئيسة في مصر، إذ ترك في أذهان المصريين مشاهد مروعة. وتلاه حادث تصادم قطارين في روض الفرج في 12 آذار/ مارس 2020، وسارعت التحقيقات الأولية إلى إلقاء تبعية الخطأ كلياً على أحد الموظفين، ما أطلق غضب السائقين الذين بادروا إلى تفعيل جهاز ATC - حسب ما كشفه أحمد رجب استناداً إلى أخبار صحافية منشورة- وهو جهاز يتحكم في سرعة القطار أوتوماتيكياً، ولتداعي خطوط السكك الحديدية، تكرر توقف القطارات بسبب نظام التأمين الإلكتروني، فتدخل الوزيري وفرض على السائقين توقيف نظام التأمين الإلكتروني الذي يمنع وقوع الحوادث حتى يعود زمن التقاطر إلى سرعته المعهودة.
إلا أن حادث اليوم دفع وزير النقل إلى إعادة تفعيل الـATC، وقال اللواء كامل الوزيري في مؤتمر صحافي صباح اليوم: "الدولة رصدت 225 مليار جنيه لتطوير سكك الحديد في مصر، ونحاول المواءمة بين متطلبات التشغيل وتطوير السكك الحديدية. استحملونا لحد ما نخلص التطوير علشان نوديكم أشغالكم وما نقفلش السكة الحديد".
القيامة الآن
يأتي حادث قطار سوهاج وسط طوفان من الحوادث التي وقعت في مصر خلال أيام قليلة، بدأت بجنوح حاملة "إيفرجرين" لتسد مجرى قناة السويس، ثم حادث القطار، ثم سقوط عمارة صباح السبت 27 آذار/ مارس بحي جسر السويس بالقاهرة ليفقد نحو 100 من سكانها مأواهم ويفقد اثنان منهم حياتهم حسب التقديرات الاولية، ثم أتى سقوط روافع خاصة بكوبري يبنى في منطقة العمرانية بالقاهرة، إلا أن الأخير لم يسفر عن خسائر بالأرواح.
توالي الحوادث جعل مصريين يتساءلون إذا كانت القيامة قد حان موعدها في مصر، إلا أن الحوادث الهائلة الناجمة في معظمها عن تفشي الفساد وغياب الرقابة عن أجهزة الدولة، باتت واقعاً يومياً يعيشه المصريون آملين خلاص القيامة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين