كُتب كثيراً عن المؤخرات، كمدخل للحديث عن "الأنوثة"، حتى أننا نجد ما يتجاوز الـ43 مليون نتيجة إذا ما بحثنا عنها على محرك البحث جوجل، باعتبارها مادة تغري المواقع الصفراء المهتمة بسفاسف الأمور، وباعتبارها منطقة من مناطق انهيار الرجال في مجتمعاتنا الفاضلة.
نتحدث عن امرأة اختُزلت في قطعة من ظهرها، وتم التعامل معها كخادمة حتى عصروا لحمها وجفّت، فتركوها لمصادفة قاتل مفلس يبحث عن ضحية. ليس هذا فحسب، بل إنها كامرأة تعمل في مهنة التمثيل؛ مباحٌ إذن أن يتناولها رجال الدين وأتباعُهم وأن يحرّموا مهنتها، مُستعينين بمشهد تمثيلي أدته في أحد أفلامها فتعاطوا معه على أنه نبوءة على نهايتها الدموية. إنها الممثلة المصرية وداد حمدي، التي قتلها ريجيسير كان يفتش في جيوب الآخرين عمن ينقذه من العوز. إنها حتمية المصير يا وداد.
قيل الكثير حول المرأة ذات المؤخرة الممتلئة. فهي الأكثر ذكاء والأوفر صحة، وبالطبع فهي الأكثر جاذبية للرجال المهووسين باللحم الغزير. وقيل الكثير حول وداد حمدي من هذا "المنظور المؤخّراتي" المقدس لدى ذاكرة المراهقين، ممن عاش منذ أيام الأبيض والأسود حتى الأيام الملونة. وداد حمدي في الذاكرة ليست كوميديانة كبيرة، لكنها تختلف عن كثيرات من أصحاب الدور الثاني أو الثالث. الشغّالة/ الخادمة، صديقة البطلة، لكن النظرة التجارية حيالها سيطرت بشكل فج، بإظهار أدائها إيروتيكياً، لإيقاظ خيال المشاهد؛ زبون شباك التذاكر. لذا صُوّرت وداد حمدي دائماً وفي كل أدوارها تقريباً بفستان ضيق لامع، محبوك عند وسطها، فتُلتقط مشاهد لها من الخلف، وهي تمشي بخطوات متقنة لهز الردفين، اللذين كلما اهتزا حُجزت تذاكر أخرى. فتزيد المَشاهد: مرة وهي ذاهبة إلى الباب لتفتحه، أو تغلقه وراء الممثلين، ومرة وهي تنادي على "ستّها" أو "سيدها" لترد/ ليرد على التليفون. مشاهد كان يمكن حذفها بسهولة من السيناريو، لكن مَن قال إن مثل هذه المشاهد يمكن حذفها تجارياً؟ لقد كانت أساساً للصناعة التي ترغب في الربح من تصوير العجيزة الفصيحة، التي تُعتبر مركز شهرة وداد حمدي وسر إقبال المنتجين عليها.
النظرة التجارية حيالها سيطرت بشكل فج، بإظهار أدائها إيروتيكياً، لإيقاظ خيال المشاهد؛ زبون شباك التذاكر
ربما اختلاف الزمن فقط هو ما أدى بوداد حمدي إلى الوقوف في الصفوف المتأخرة من النجومية. فلو عاشت أيام السوشيال ميديا ودعاية أجمل مؤخرة، لزلزلت العالم. ولنتذكر هنا أن فنانة مصرية أخرى تم تخليدها عبر التاريخ بوضع اسمها على أحد موديلات أفخم سيارة في الزمن المعاصر، المرسيدس، إنها الفنانة هياتم، التي أطلق اسمها على موديل السيارة مرتفع الحقيبة الخلفية، تماماً كـ"خلفية هياتم".
"وداد"، كانت نموذجاً للمرأة العفيّة، صوتاً وشكلاً وبناءً. احتفظت بصحة جسدها لأطول فترة من سنوات عمرها. فلاحة حيوية ومرنة، حتى عندما دخلت الشيخوخة لم يضرب جسدها من اتجاهاته، بل بقيت مشدودة القوام حتى نهايتها المأساوية. هذه الصحة الجسدية كانت دافعاً للرجال للتقدم للزواج منها، فاقترنت بالموسيقار محمد الموجي، والممثل المصري صلاح قابيل، والفنان محمد الطوخي والد المطربة والممثلة المصرية إيمان الطوخي.
وداد، إن صح تعبيرنا، مثال على الجسد صاحب التعبير الذكي؛ شديد الخصوبة والتأثير. تراها كتلة من اللحم تتحرك من جهة التعبير الحركي مدعومة بصوت بلدي رنّان، علاوة على العفوية المفرطة، التي ربما تصل إلى حد التبجح التعبيري المقبول.
كل هذا لا يغرقنا كثيراً في جسد وداد حمدي بقدر ما يدفعنا إلى مناقشة ما وراء جسدها، واقتران ذلك بهوس الناس في الحكم على مهنة كاملة كالتمثيل، من خلال الجسدانية. تموت وداد حمدي مقتولة، فيفسر العاديون من أبناء الدين موتها على أنه جزاء على عملها الذي لم يرض الله، فتكون نهايتها على أسوأ حال.
في عام 1950، أنتجت السينما فيلم "قمر 14" بطولة الفاتنة كاميليا والفاتنة على الطراز المصري وداد حمدي. نقصد بالطراز المصري هنا الملاءة اللف، وتكوين الجسد الشعبي بأردافه الغنية البارزة. في هذا الفيلم صُور مشهد بين كاميليا ووداد، وفيه تقول الأولى لثانية "يا رب تنضربي بالسكينة في قلبك" وتقول الثانية للأولى "يا رب تتحرقي".
كل هذا لا يغرقنا كثيراً في جسد وداد حمدي بقدر ما يدفعنا إلى مناقشة ما وراء جسدها، واقتران ذلك بهوس الناس في الحكم على مهنة كاملة كالتمثيل
تقول مصادفات الواقع إن كاميليا ماتت محترقة بالفعل في حادث انفجار طائرة في أغسطس 1950، أي بعد تمثيل المشهد الشهير بشهور قليلة. وماتت ووداد مقتولة عام 1994 على يد الريجيسير "متى باسيليوس" طعناً بالسكين، طمعا منه في مالها بعد فشله في العثور على الفنانة يسرا وقتئذ. لكن أهل السوشيال ميديا، ممن يمتلكون ناصية الدين وأحكام الآخرة والمؤخرات، يقولون إن موتها بهذه الطريقة يؤكد أن السماء كانت مفتوحة لدعوة كاميليا في المشهد التمثيلي بينهما قبل مقتل وداد بـ44 سنة.
يا لها من سيناريوهات إلهية يضعها بشر أرضيون! بلحظة واحدة ينقلب ميل الرجال إلى فاتنتهم فيتحولون إلى قضاة يحكمون على الضحية المقتولة. ولم يتوقف الحكم عليها من مواطنين عاديين، بل امتد إلى وسائل إعلامية. فهذا موقع إلكتروني مرموق يكتب عن قصة موت وداد حمدي بدعوة مجابة. إلى هذا الحد تنجرف العقول إلى تحليل الأمور وأسبابها بسطحية مركبة، استناداً إلى حديث نبوي يقول نصه: "لا يَرُد القضاءَ إلا الدعاء"، والذي قال فيه الفقيه السعودي السلفي عبد العزيز بن باز إنه لا يعرف حال سنده.
فجأة يستدعي الوعي الشعبي، في تناقض مرعب، حُرمانية التمثيل من خلال نهاية دموية لها أسبابها الإجرامية أرضياً ولا علاقة لها بالسماء وآلهتها. لكنه تأثير الدين، الذي عدَّه ماركس "تنهيدة المضطهد"، فهو صاحب التأثير الضخم في توجيه عقل الجمهور وعاطفته، وهو ملاذ كل مَن لا يُعمل العقل، والمُسكّن والمبرر لأي هلوسات تجعل البشر يفسرون كل شيء بما هو سماوي وأُخروي، بعكس ما تُحتّم معيشتنا على هذه الأرض من التعامل مع الراهن بكل مسبباته العقلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...