شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لم أحظ بحياة القرية قبل أن يغمرها المدّ الوهابي

لم أحظ بحياة القرية قبل أن يغمرها المدّ الوهابي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 29 مارس 202110:32 ص

في القرية، يمكنك أن تكوني متدينة، كافرة، علمانية، ليبرالية، شيوعية، مدنية، مثلية، متصوفة، لكن في رأسك فقط، وضمن الإطار المحدد للعيش ضمن مجتمع القرية. هناك حيث لا أحد يحرس الأفكار أو يقيّمها إلا إذا طرحتها الفتاة علنا، أو مارستها كما هي بطبيعتها، أو ظهرت على سلوكها في الملبس والتعامل مع الآخرين. أما الرجال فلهم الحرية الكاملة في ممارسة ما يريدون من متطلبات التدين، أو في اعتقاد ما يحلوا لهم من أيديولوجيات، مع حفاظهم على آداب القرية وتقاليدها.

يورّث الفرد في القرية صفات عائلته، يكتسب منهم احترام الناس أو عدمه. ويحمل خطاياهم القديمة أو فضيلتهم، دونما تفسير منطقي. ابن الشيخ شيخ حسب فطرة القرية، وابن السارق سارق، وبنت الغريبة –وهي أي امرأة من خارج القرية- غريبة، وبنت الحرّة حرة، وهي من لم تتزوج بعد وفاة زوجها حسب تقاليد القرية.

انحدرت من عائلة محترمة، هكذا كان يظهر في سلوك الناس عندما يتعاملون معنا. وكان الفضل كله لجدي التاجر الفلسطيني؛ جاء إلى القرية فقيراً ومعدماً. وبدأ يعمل ويجتهد ويدّخر من ماله، كي يتمكن من التوسع في تجارته، حتى لُقّب بشهبندر التجار في منتصف السبعينيات. كان متديناً؛ يصلي ويصوم ويكثر من النوافل ويؤدي صلة الرحم. كان كريماً؛ يقدم الطعام لأهل الميت، وصادقاً ينافس في تجارته بشرف وأمانة. لم يعمل في الممنوعات. وكان يُظهر ولائه للدولة الأردنية بشكل لافت. إلا أن أولاده يحملون طباعاً مختلفة؛ كان عمي الكبير فتحاوي، وأبي شيوعي يسجن كل فترة وأخرى. أحياناً كان جدّي يسلمه بنفسه للمخابرات الأردنية. عم آخر كان يتبع الإخوان المسلمين، وآخر كان يحب السفر والمتعة وصرف المال، وآخر كان يعزف على آلة العود ويغني. إلا أنهم أولاد التاجر المحترم؛ صاحب مسجد كبير في القرية، مسجد القدس، مع أن معظمهم لا يصلي، وكلهم تقريبا شاخوا قبل أن يعتادوا على الصيام في رمضان.

ابن الشيخ شيخ حسب فطرة القرية، وابن السارق سارق، وبنت الغريبة –وهي أي امرأة من خارج القرية- غريبة، وبنت الحرّة حرة

كان الرجال في عائلتي يظهرون سلوكاً مرضيا للجميع، ومثلهم نساء العائلة. لم يثر أبي الشيوعي على الحجاب وقمع النساء، ولم يفطر علناً في رمضان. ولم يظهر عمي عازف الموسيقى جانبه المرهف في التعامل مع بناته ضمن الحيز العام، فقد قمع محاولاتهن لعدم ارتداء الحجاب. هكذا حافظوا على احترام القرية عبر كتمانهم لأفكارهم واستخدامها في حيز ضيق؛ في أسرهم أو مع أصدقائهم، كي يظل وجودهم في القرية مرغوباً فيه، واحترامهم من قبل الجميع محققاً، وكي نحظى كأبناء بسمعة "طيبة"، لأن أحداً منهم غير قادر على دفع فاتورة الاختلاف في قرية يعرف كل من فيها الآخر.

كنت أتردد على بقالة لشراء حاجيات البيت، أدخل فتتجمهر الأعين عليّ. أقترب من البائع وأسلم عليه بابتسامة ودودة، فيسألني عن عائلتي "بنت مين إنت يختي". أجيبه، فيطبق فمه بذهول، وعندما أخرج يتبعني بجملة "جدك اللي بنى مسجد، الله يرحمه". كانت نظراتهم نحوي تحمل شكاً وعدم ارتياح. إلا أن سيرة جدي، وأبي الملتزم بتقاليد القرية كانت ترحمني ولو بشكل بسيط.

لا يغريني أن أُحترم من قبل من لا أحترم أفكارهم وطريقتهم في العيش، ولم يكونوا في حياتي السابقة سوى جنود حراسة غبية على لباسي وسلوكي

دفعت أنا وبعض النساء من عائلتي فاتورة عدم التزامنا بتقاليد القرية، بعضنا لم يلبسن الحجاب، وأخريات ارتدين ملابس لا تتسق مع أثواب النساء الطويلة هناك، وأخريات قاومن الزواج بشكله التقليدي. بقية الفتيات خضعن لتعاليم القرية، ومارسن حريتهن خارجها؛ يسافرن فيخلعن الحجاب ويتنفسن الصعداء، ثم يلقينه على رؤوسهن فور دخول القرية من جديد. ها أنا الآن خارج القرية، أنظر إليها بشيء من الشفقة وبالكثير من الاستغراب والعتب.

بعد سنوات من العيش في المدينة، ومن الاستمتاع بعادية أفكاري وشرعيتها في الوجود ضمن الحيز العام مهما كانت، يمكنني أن أقول علنا إن القرية مطحنة لأي سؤال يحتاج للمنطق في إجابته، ومقصلة لكل رأس يشي بما لا يتناسب مع اطمئنانها وسكونها. لقد انسلخت عن القرية تماماً، إلا أن جرحاً في قلبي لن يطيب لأنني حُرمت من الاستمتاع بحياتي فيها ولاحقاً بذاكرتي عنها. أسخر دائماً من تعريفي لنفسي بأنني حفيدة التاجر المتدين، أو ابنة الشيوعي العادي، بينما أنا صنعت نفسي وأفكاري بيدي وقلبي فقط. ولا يغريني أن أُحترم من قبل من لا أحترم أفكارهم وطريقتهم في العيش، ولم يكونوا في حياتي السابقة سوى جنود حراسة غبية على لباسي وسلوكي.

لبسن ما يحلوا لهن من تنانير وفساتين ونثرن شعرهن في وجه الشمس والهواء، من بينهن أمي، التي تذمرت لاحقاً من لباسي وجسدي المكشوف.

ذاكرتي الطيبة عن القرية تعود إلى نساء عشن في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. حدثوني عن عمة والدي التي درست في الجامعة الأمريكية في لبنان، كانت تسافر وتعيش وحدها، ولاحقاً عملت في منطقة بعيدة عن القرية. وفي سنها نساء كثيرات سافرن ليتعلمن في دول الاتحاد السوفييتي، وعدن إلى القرية بشهاداتهن وفرحة الجميع بهن. نساء أخريات لبسن ما يحلوا لهن من تنانير وفساتين ونثرن شعرهن في وجه الشمس والهواء، من بينهن أمي، التي تذمرت لاحقاً من لباسي وجسدي المكشوف.

لم أحظ بفرصة العيش في القرية حين كانت طيبة، وكانت تحتفل ببناتها وأولادها بالطريقة نفسها. يحلف كبار السن أن الدستور الوحيد في القرية كان المحبة والخير والجمال، إلى أن جاء المد الوهابي وطمس العقول، وسكب الجميع في قالب ضيق لا يحتمل.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image