"دعوا التُرك، يؤمنون ويعيشون كما يشاؤون". هذة مقولة لمارتن لوثر (ت. 1546)، صانع أول ثورة دينية حقيقية على المسيحية بنسختها الرومانية.
لوثر، على أي حال، ديني صرف، لا يمكن أن يرى الحقيقة بنسبية معرفية، لكن ظرفه التاريخي ولحظته الاعتقادية وضعته في مسار قبول وجود مغايرين، أو على الأقل تفهم ذلك، على الرغم من إيمانه بحقيقة مطلقة تمثلت في صلواته للإمبراطوريات المسيحية بالنصر على الخلافة العثمانية. إنه يشبه بدايات الأديان والأنبياء قبل امتلاكهم "الحكم" أو قبل وصول أتباعهم إلى النفوذ.
بعد لوثر بحوالي قرنين ونصف، جاء محمد بن عبد الوهاب (ت. 1791)، ليقدّم مقاربة تاريخية مختلفة اختصرتها مقولته "مَن لم يُكَفِّر المشركين، أو شَكَّ في كفرهم، أو صحّح مذهبهم، كفر". اختصر أبو الوهابية لحظة غاضبة فانطلق بعيداً في استعادة دور للجزيرة العربية رأى أن الآستانة التركية قد سلبته منها، فذهب متطرفاً في التكفير، شاملاً المسلمين أنفسهم بصفة الشرك، صانعاً منهجاً يخصه في موازاة رؤية العثمانيين عن الإسلام. وكان سلاطين بني عثمان قد عانوا لشرعنة خلافتهم، ولم يجدوا سوى رأي إمام المذهب الحنفي، أبو حنيفة لدعم مساعيهم، إذ نُقل عنه أنه لم يشترط في الخلافة العروبة.
الاثنان، لوثر وابن عبد الوهاب، ثارا على الداخل قبل الخارج، وحاربا من أجل فرض رؤيتيهما ضد السلطة الدينية الرسمية، سواء الموجودة في إسطنبول أو تلك القائمة بجوار روما.
يقدم عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" مقاربة أكثر براغماتية لابن عبد الوهاب، إذ اعتبر أن الجانب العقائدي ليس الوحيد في تكوين ظاهرته، بل هناك الاقتصاد. ففي زمنه، تطور "مفهوم" الغزو من فعل محدود تقوم به قبائل لأسباب اقتصادية صرف، إلى فعل واسع محاط بشرعية العقيدة والفقه، هو الغزو الإسلامي نفسه.
الماضي بين اللوثرية والوهابية
قد تبدو المقارنة بين ابن عبد الوهاب ولوثر غير واقعية وربما صادمة إذا ما تعاملنا مع الأمر بحسب البيئة المنتجة للاثنين. فلا قياس بين لوثر القائل "دعوا الأتراك (المسلمين) يؤمنون ويعيشون كما يشاؤون" وابن عبد الوهاب الذي وسع دائرة مفهوم الشرك لتشمل الكثيرين من المسلمين، ودعا إلى هدم القبور وكفّر زوارها، واستُخدمت آراؤه لتكفير كثيرين ممن لم يكفّرهم أسلافه.
لكن هذه المقارنة، من ناحية أخرى، مثمرة، إذ عمد الاثنان إلى تجريد الأديان من "الإضافات" أو "الابتداع"، والعودة إلى الزمن الأول أي إلى النص وكلام السلف. الدعوتان تشابهتا في طبيعة النظر إلى الماضي.
كشف الشبهات للمؤلف الشيخ محمد بن عبد الوهاب
الزمن الأول بالنسبة إلينا هو مجرد رواية من قبل الموجودين في الأزمنة اللاحقة له.
ومهم القول إن العودة إلى الماضي منهجية طوباوية، لأن الزمن الأول بالنسبة إلينا هو مجرد رواية من قبل الموجودين في الأزمنة اللاحقة له، وبالضرورة إن ما روي عن زمن سابق مشوب بروح وإسقاطات وابتداع وأكاذيب الأزمنة اللاحقة. وهو أيضاً تفسير بشري ليس أكثر.
الاثنان بشر وما يقولانه باعتباره شرحاً لنص، إلهياً كان أم من صنع الإنسان، هو بشري وإضافة أخرى رفضت الإضافات السابقة. مع ذلك وبمعزل عن الطوباوية، فإن الدعوتين خلقتا واقعين "اعتقاديين" شديدي التأثير في بيئتيهما الدينية.
وعلى الرغم من أن اللوثرية، وامتدادها الكالفني، صارت جزءاً من الصراع المذهبي وعمليات التطهير الطائفية، إلا أنها تفاعلت مع تحولات اجتماعية وفكرية وسياسية واقتصادية عميقة في المجتمعات الغربية، بدءاً بالثورة الصناعية، مروراً بالاستكشافات الجغرافية والاكتشافات العلمية مع كوبرنيكوس وغاليلي والانقلاب الفلسفي على يد جيوردانو برونو وفرانسيس بيكون ورينيه ديكارت وباروخ إسبينوزا، وانتهاء بالمجمع الفاتيكاني الثاني في ستينيات القرن الماضي والذي قام بإصلاحات على مستوى القبول بمساحة أوسع من الحريات الدينية والنظر بعين إيجابية إلى أساسيات الأديان والمذاهب غير الكاثوليكية.
"دعوا التُرك، يؤمنون ويعيشون كما يشاؤون"، قال مارتن لوثر، صانع أول ثورة دينية حقيقية على المسيحية بنسختها الرومانية، ولكن محمد بن عبد الوهاب أفتى بأن "مَن لم يُكَفِّر المشركين، أو شَكَّ في كفرهم، أو صحّح مذهبهم، كفر"
وعلى الجانب الآخر، لم تكن دعوات الإصلاح الديني الإسلامية، ومن بينها الوهابية، رغم كثرتها، قادرة على صناعة تحولات جوهرية متقدمة، بل كانت في الغالب تحولات أصولية لا حداثة فيها، وإنما هي ضد الحداثة. ولم تصاحب تحولاتٍ داخلية بحجم تلك الأوروبية. وجلّ التقدم الذي شهدته بلدان العالم الإسلامي مع مطلع القرن العشرين، أتى نتيجة لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وبناء الدولة الحديثة من قبل البريطانيين والفرنسيين، أو بفضل البعثات الدراسية إلى أوروبا، المعتمَدة منذ عهد محمد علي باشا في مصر. العنصر الخارجي لعب الدور الأبرز.
التشابه بين "ماضوية" الدعوتين واعتمادهما على العودة إلى النص المؤسس، يمثل نقطة شروع موحدة تكشف في الوقت نفسه عن الاختلافات في الخطوات اللاحقة. وتعود تلك الفوارق الى عاملين أساسيين، هما المكان الذي ظهرت فيه كل منهما، والنص المعتمَد.
الجغرافيا الإسلامية والمسيحية
الدعوة الإصلاحية المسيحية كانت مؤهلة لخوض التغيير دون الحاجة إلى تفسير أن المسيحية هوية أصيلة للمكان، بينما لو ظهرت في الشرق الأوسط، وتحديداً في أرض الجليل، لصار الأمر صعباً عليها ومثيراً للقلق.
وتأسيساً على هذا المعطى، حاولت المسيحية المعاصرة إضفاء طابع مسيحي على الهوية الأوروبية، بمعنى أن أوروبا والمسيحية هوية واحدة لا يفصل بينها شيء أو هوية أخرى. فقد سعى البابا بندكتس السادس عشر إلى البرهنة على أن القارة العجوز كاثوليكية وليست متعددة، وهو وعي عميق بخطورة ما تعنيه الجغرافيا التي كانت مقسمة قبل الكاثوليكية بين الوثنية وفلسفة العقل.
أما دعوة "الإصلاح" الوهابية، فقد انتمت إلى ذات البقعة التي خرج منها النبي محمد. بمعنى أن محمد بن عبد الوهاب، امتداد للنبي في طبيعة المكان. وهذا مكّنها من ممارسة تأثيراتها العميقة والكبيرة في بنية المجتمع، دون أن تخضع للنقد، لأنه مسكون بالنص المؤسس والماضي. بتعبير أدق هو مسكون بذات التاريخ رغم تغيّر الزمان، فالمكان واحد.
لم تلقَ دعوة ابن تيمية الرواج لأنها ظهرت في بلاد الشام، وهي ليست بيئة النص.
مثلاً، لم تلقَ دعوة ابن تيمية، السابقة على الوهابية، وأفكاره، الرواج، لأنها ظهرت في بلاد الشام، وهي ليست بيئة النص. كما أن تأثير المرجعية الأولى للاثنين، أحمد بن حنبل، لم يستمر طويلاً في بغداد، على الرغم من أن ناشرها هو أحد الخلفاء البغداديين في القرن الثالث الهجري، بل انتشرت في الجزيرة العربية، كونها تمثل الماضي الأصيل لابن حنبل الرافض لما يسمى بالبدع ودور العقل وخلق القرآن. بغداد ظلت مدينة لصراع التأويلات بين المعتزلة والشيعة والحنفية. وما يزال المذهب الغالب على سنّة العراق هو مذهب أبو حنيفة القائل بالعقل وليس مذهب ابن حنبل.
القرآن والعهد الجديد
من ناحية أخرى، الاختلاف بين النصين، المسيحي والإسلامي شاسع. طبيعة المسيحية، في أناجيلها الأربعة، ذات منحى روحاني وقيمي، بقليل من القوانين أو "الواجبات"، في حين أن الإسلام في القرآن، لم يقتصر على ذلك، بل اعتمد شمولية صنعها انتقال من المعارضة إلى السلطة، ومن المواجهة الفردية إلى الحروب الجماعية.
النسخة الأصلية لترجمة لوثر للكتاب المقدس عام 1534.
لذا، حين رجعت اللوثرية إلى الإنجيل بعيداً عن الإضافات، وترجمه مؤسسها إلى الألمانية في تحدٍّ غير مسبوق، عادت نحو نص لم يكن حاملاً لضرورات الحرب والانتشار بالسيف، بينما عادت الوهابية الى نص مقدس مليء باستحقاقات الحرب والسلطة والصراع. النصوص الأولى المؤسِسة للمسيحية جعلت منه دين دعوة لا ينزع إلى العنف بنسبة كبيرة، بينما لم يكتفِ القرآن بالدعوة إنما غادرها إلى الطابع الحربي.
الاثنان، مارتن لوثر ومحمد بن عبد الوهاب، ثارا على الداخل قبل الخارج، وحاربا من أجل فرض رؤيتيهما ضد السلطة الدينية الرسمية، سواء الموجودة في إسطنبول أو تلك القائمة بجوار روما... فلماذا اختلفت النتائج؟
هذان العاملان إضافة إلى البيئة، يفسران حجم الفارق. لوثر خضع لطبيعة نص معارض للنزعة اليهودية العنيفة والثيوقراطية، بينما مثّل ابن عبد الوهاب الامتداد للرؤية الإسلامية التي تتضمّن الحرب بما تعنيه من عنف وتوسع وإكراه، والتي تشابهت في أكثر من جانب مع نزعة العهد القديم لثبات القوانين والتشريعات الصارمة.
من هنا، يكمن الاختلاف في الدينين، وأي مقارنة أو مقاربة ينبغي أن تعتمد على قراءة المسيحية والإسلام. فقد انتقل الإسلام من المعارضة العقائدية للوثنية إلى الدولة، والانتقال جرى في زمن النبي المؤسس، بينما ظلت المسيحية حبيسة الاضطهاد حوالي ثلاثة قرون، ولم تنتقل إلى السلطة على يد مؤسسها، بل على يد هوية سياسية أخرى هي الرومانية. لذلك، من المتاح للمسيحية دائماً أن تتأقلم مع التحولات السياسية وتعيد إنتاج نفسها بما ينسجم مع عصرها السياسي، كونها لم تحمل سمات سياسية بقدر ما أعطت دروساً في الأخلاق وثورة قيم ضد اليهودية والوثنية.
أما الإسلام فهو جزء من بيئته السياسية المساهِمة بتشكيله، ما يجعل محاولة إصلاحه سياسياً أو عقيدياً مرهونة بالماضي، بما يُعرف بدولة الرسول وحروبها وقوانينها التي تصل إلى القتل والحرق وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف.
ولا يجد المرء في النص الإنجيلي آيات تتحدث عن قتل المخالفين، بينما هي موجودة في النص القرآني، ولا يوجد فيه ما يدفع نحو إقامة الحدود بينما هناك الكثير منها في الإسلام، ولم تتدخل المسيحية في تحديد المواريث وقوانين الأحوال الشخصية، إلا بالعودة إلى العهد القديم، بينما هي موجودة في الإسلام بدون الحاجة للعودة نحو الدين الأم، اليهودية. واحتفظت المسيحية بصورة المسيح الأولى التي دعت إلى قيم التسامح والعفو وعدم رجم الزانية كون مَن سيرجمونها فعلوا ما فعلته، بينما تعددت صور النبي محمد بين التسامح وعدم العفو.
محمد بن عبد الوهاب عاد إلى اللحظة الأكثر شراسة في تاريخ الجزيرة العربية، لحظة الغزو والحروب، لحظة تحوّل الإسلام إلى سلطة. بينما سعى مارتن لوثر إلى التخلص من الزمن الروماني الأكثر شراسة وسلطوية ليعود إلى المسيح الذي أخفق في أن يصبح قائداً سياسياً، ليُقتل مظلوماً قبل أن يَتلبس القيادة السياسية فيلبس معها ثوب جلّاده.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...