شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
قرويّات، ندخل المدينة بلا ذاكرة

قرويّات، ندخل المدينة بلا ذاكرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 9 مارس 202108:48 ص

بينما كنت ألعب مع أولاد وبنات الحي أمام بيتنا، عرفت بعض أسرار الكبار؛ تلك التي يفشونها لبعضهم البعض ليلاً ويضحكون بصوت عال، ثم يتولى الأطفال مهمة نقل الكلام الذي دار في جلسات السهر لنا خلال اللعب. في الحقيقة، كنت مثلهم، أنقل الكلام الذي يدور بين أمي وأبي ليلاً أو بينهم وبين زوّار بيتنا. مرة نقلنا كلاماً لصديقتنا في الشارع مفاده بأن أمها ليست ميتة بل هربت مع حبيبها. وأنهم –أي الكبار- جعلوا صديقتنا تعتقد بأنّ جدتها هي أمها. أذكر الحيرة والخوف في عينيها. هربت إلى البيت وهي تصرخ: "يمّا".

في سن صغيرة جداً تشاركنا كأطفال أسماء النساء اللواتي هربن من البيت برفقة أحبتهن، والنساء المنتحرات، وقصص زوجات الأب في الأحجبة والسحر والشعوذة، واسم المرأة التي فقدت صوابها حين تزوّج حبيبها بامرأة غيرها، فصار اسمها مجنونة القرية. لم نكن نفهم الأسرار، لكننا كنا نعرف أن الجميع يهتم بها. كنا نضحك حين يقول ولد لبنت إنه يعرف من هو حبيب أختها، أو أن والدها حب والدتها وكشفوهم الناس. دارت كل هذه الأحاديث بين أطفال لا يفهمون شيئاً ولا يدركون ما يتفوهون به.

في القرية هناك القليل من كل شيء، من خيارات الأصدقاء، من احتمالات الحب، من فرص الزواج، من الحرية، والكثير من القصص المحفورة في ذاكرة الكبار، خاصة قصص الحب القديمة والجديدة، فتُستخدم القصص في وصم الناس أو مدحهم. لا يوجد سيرة تمر مرور الكرام، هناك رفعة أو عار يعنون أي قصة تروى.

قصص الحب محفورة في ذاكرة الجميع. تشيخ المرأة في القرية وقد كانت حبيبة فلان، ويشيخ الرجل ويصبح جَداً بينما تَذكره القرية بالذي لم ينعم بالزواج من عشيقته

صرنا كباراً في القرية، ثم بدأت تتشكل أسرارنا. صار الحديث مع أولاد الحارة مراقباً وممنوعاً. وصارت احتمالات اللقاء تحتاج مساحة سريّة تحميها صديقة أو صديق. هذا أول ما عرفناه عن الحب. لم يكن ثمة خيارات لنا كفتيات أبعد من ابن الجيران أو زميل المدرس.، تبدأ قصة الحب بغمزة عين أو بورقة صغيرة ترميها الفتاة لحبيبها بعد الكثير من المشاورات مع صديقاتها اللواتي سبقنها في التجربة. وبدوره يشارك أصدقائه اسم حبيبته وربما يقرأ لهم رسالتها. هكذا تنفجر الأسرار بين الجميع، ثم يتناقلنها الأمهات في جلسات الصباح والأعراس وبيوت العزاء، بعدها يتولى الجميع مهمة نقل الخبر لمن لم يعلم بعد في القرية، وصولاً إلى الأهل الذين يقلمون بدورهم أظافر تلك العلاقة ويفرضون لائحة قوانين صارمة على الفتاة، وفي أحسن الأحوال يعينون لابنتهم مرافقاً يلازمها في كل مكان.

لا تنتهي قصص الحب في القرية عند رغبات الأهل، وانصياعاً لمخاوفهم من العيب أو العار، بل تظل قائمة إلى أن يقرر طرفا العلاقة بترها. لكن الأمر لا ينتهي هنا أيضاً؛ فقصص الحب محفورة في ذاكرة الجميع. تشيخ المرأة في القرية وقد كانت حبيبة فلان، ويشيخ الرجل ويصبح جَداً بينما تَذكره القرية بالذي لم ينعم بالزواج من عشيقته.

كبنات قرية صغيرة، تتعرف واحدتنا إلى المدينة إذا سنحت لها فرصة الدراسة أو العمل أو المسكن. نتلقى صدمتنا الأولى جراء كثرة احتمالات الحب وسهولة حدوثه، فلقاء الحبيب لا يتطلب تخطيطاً طويلاً، ولا يتسبب بالأرق والارتعاش خوف أن يُفضح. والصدمة الثانية هي انتباهنا إلى أن قصص الحب لا تشغل بال أحد، والصدمة الثالثة نتكبد عناءها إذا فارقنا أحبتنا.

لقد تربينا على أن نحمّل الحب ما لا يحتمل، ونمت على ظهورنا أسنمة تخزن طريقة القرية في الحب، وقد ظننا أن بمقدورنا ألا ننصاع إليها

نغرم بالمدن لكونها مرنة وكبيرة جداً. لا تفصّل لنا ثوباً يصغر علينا، ولا تذكرنا بالمشاعر التي هضمناها، ولا بالصفعات التي تلقيناها من حب سابق، حتى أنها تنسينا الكدمات التي تسببنا بها لشباب القرية ورجالها. في المدن نغتسل من كل شيء؛ قرويات لا يعرفنا أحد، ندخل من دون ذاكرة، ونؤسس حيواتنا ومشاريعنا من الصفر الحقيقي. وإذا وقعنا في الحب، بوسعنا أن نقرر ما نفشيه عن ماضينا، لن يلاحقنا شبح ذاكرة القرية، ولن نوسم بأسماء أحبتنا السابقين، في المدن الحياة تبدأ يوم غد.

تمكننا المدينة من اختبار الخيارات المتاحة، والتفكير بالأنسب والأمتع لنا. شيئاً فشيئاً نتحرر من كل قيد كانت تفرضه القرية علينا، نجرب الحب على طريقة المدينة، ونجده سهلاً وشهياً. لكن مكان ما في لاوعي القروية يصّور الحبيب زوجاً أو عاراً؛ إن انتهت قصة الحب بالزواج فالأمور على ما يرام، وإن لم تنته به فعليه أن يوسم بها وتوسم به إلى أن يموت أحدهما. نصطدم كقرويات بأن المدينة لا تحفظ عشاقها، ولا تحتمل ذكريات لحبيبين اعترفا بحبهما تحت شجرة أو على حافة بئر. ولا تحزن على امرأة لم تتزوج لأن حبيبها اختار امرأة غيرها. لقد تربينا على أن نحمّل الحب ما لا يحتمل، ونمت على ظهورنا أسنمة تخزن طريقة القرية في الحب، وقد ظننا أن بمقدورنا ألا ننصاع إليها.  

  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard