سحابة كبيرة من الجدل مرت فوق سماء الجزائر لتصل إلى المغرب بعد إعلان وزارة الثقافة والفنون الجزائرية، في بيان، سحب الملف الذي تقدمت به الجزائر للمنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو)، لتصنيف موسيقى الراي ضمن التراث العالمي اللامادي.
فسرت وزيرة الثقافة مليكة بن دودة هذا القرار بأنه أتى بعد ملاحظة ضعف الملف المودع من الوزارة عام 2016، الذي لم يكن متكاملاً وتخللته أخطاء تقنية تضعف موقف الجزائر.، مضيفةً أن لجنة من الخبراء والباحثين من المركز الوطني للبحوث، إلى جانب جمعيات وشخصيات بارزة مهتمة بالبحث في التراث اللامادي، تشتغل على تدعيم ملف تصنيف موسيقى الراي بعناصر جديدة، بإشراك المجتمع المدني، قبل إيداعه نهاية أذار/مارس الجاري، ومؤكدة أن الجزائر لن تتنازل عن حقها في تصنيف الراي كموروث شعبي جزائري.
صراع سياسي بين الحرس القديم والجديد بقبعة ثقافية
أشارت وزيرة الثقافة إلى أخطاء تقنية تضمنها الملف، لكنها لم تشر إلى طبيعتها ولا عددها، بل اكتفت بذكر "أخطاء تقنية"، وهو ما يجعل المتابع الجزائري في حالة تساؤل دائم لمعرفة أي خطأ هذا قد تقع فيه وزارة الثقافة في ملف مهم يحظى باهتمام بالغ على المستويين الرسمي والشعبي، مثل تصنيف فن الراي كتراث لا مادي جزائري.
محمد علال الصحافي المختص في الشأن الثقافي يعلق على الموقف لرصيف22: "أرى أن الحسابات السياسية طغت على قضية تصنيف الراي كتراث جزائري، اختباء وزيرة الثقافة وراء الأسباب التقنية، لا يعدو كونه غطاء فضفاضاً تعودناه، وقولها إن الملف سيرفض، يعد حكماً قاسياً مسبقاً على الملف الذي أودعته الجزائر عام 2016، في حقبة وزير الثقافة الأسبق عز الدين ميهوبي، وحسب معلوماتي فقد كان ملفاً مقبولاً إلى حد كبير".
ويختتم: "أرجح بأن هناك حالة من التسابق بين الحرس القديم والجديد، فالإدارة الجديدة تريد أن تظفر بشرف تسجيل الراي باسم الجزائر في حقبتها".
يرفض الفنانون الجزائريون فكرة مزاحمة المغرب لبلدهم في تصنيف الراي، ويؤكدون أنه فن جزائري خالص. ومنهم المغني الشاب أنور، الذي وجه نداء للسلطات، عبر رصيف22، يناشدها فيه حماية هذا التراث اللا مادي
أما الكاتب والصحافي الجزائري إدريس بوسكين فيؤكد أن سحب ملف الجزائر من يونسكو لا علاقة له بالصراع الداخلي في الجزائر وإنما هو نتاج التحركات الدبلوماسية المغربية في فرنسا، وسط تأثير اللوبي اليهودي هناك.
المغرب تدخل خط سباق التنافس على فن الراي
بعيداً عن الصراع الداخلي بين الجزائريين، دخل المغرب على خط السباق لمزاحمة الجزائر على تنصيف الراي كتراث لا مادي مغربي.
جاء هذا التحرك على يد الدكتور محمد عمارة رئيس جمعية "وجدة فنون" التي تنظم المهرجان الدولي للراي بوجدة، إذ أعلن أن جمعيته قدمت طلباً لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) من أجل إدراج ثقافة الراي ضمن لائحة التراث العالمي الإنساني كفن مغربي.
ورغم أن الرباط لم تودع ملفاً رسمياً باسم الدولة، لكن هذه التحركات، كانت كافية لتثير حفيظة وزير الثقافة الأسبق عز الدين ميهوبي، الذي سارع لإيداع ملف جزائري.
المزاحمه مرفوضة
يرفض الفنانون الجزائريون فكرة مزاحمة المغرب لبلدهم في تصنيف الراي، ويؤكدون أنه فن جزائري خالص. ومنهم المغني الشاب أنور، الذي وجه نداء للسلطات، عبر رصيف22، يناشدها فيه حماية هذا التراث اللا مادي قائلاً: "بدأت الغناء وأنا صغير جداً، ومنذ ذلك الحين لم أسمع يوماً أن فن الراي مغربي، ظهر الراي في مدينة شاباط بعين تيموشنت، التي كانت تابعة لولاية بلعباس آنذاك. نتحدث هنا عن موروث شعبي تغنى به شيوخنا قديماً، وأوصله مطربونا حديثاً إلى العالمية، في أوروبا وأمريكا وآسيا وإفريقيا، ويعود الفضل إلى الشاب خالد والشاب مامي، وهذا معروف ولا يمكن لأحد أن ينكره. لذا أدعو السلطات المعنية إلى أن تضاعف جهودها لكي يتم تصنيف الراي كموروث عالمي في اليونيسكو باسم الجزائر".
هل يمكن تصنيف الراي؟
"الراي بحر واسع وفن في حالة تطور دائمة، وهذا ما يجعل من تصنيفه وتأطيره، مسألة معقدة". هكذا يستهل الموسيقار بحر بن سالم حديثه مع رصيف22، مضيفاً: "موسيقى الراي نشأت في بيئة بدوية غرب الجزائر العاصمة، وتأثر كغيره من الفنون بالطبيعة المحيطة به، ومع تراكم الأجيال تولدت لدى الإنسان أذن موسيقية، خرجت من رحم العلاوي والرڨادة، وهما رقصتان فلوكلوريتان، عرفتا في منطقة الغرب الجزائري، بلعباس وعين تيموشنت ووهران.
في البداية كان هذا الفن يعتمد على الڨصبة ( آلة تشبه الناي) والڨلال ثم مع مرور الوقت أدخلت عليه آلات موسيقية أخرى مثل الدربوكة والرباب ثم الڨيتارة والأكورديون. وفي مرحلة ما تأثر الراي بالموسيقى الشرقية فأدخل عليه العود والناي والكمان. وظل تطور هذا الفن متواصلاً ومتفاعلاً بما يدور حوله من أحداث، فتأثر بالرومبا بعد إنزال القوات الأمريكية في شمال إفريقيا، كما تأثر بالطابع الإسباني والفلامينكو.
ويعتمد فن الراي على عدة مقامات، أبرزها بالنسبة لبحر بن سالم هي الخماسي مثل أغنية "أنا العربي "، والنهاوند مثل أغنية " عبد القادر يا بوعلام"، والعجم مثل "مول الكوتشي"، والبياتي مثل أغنية "صلوا على النبي وصحابو".
الجدل القائم حالياً في مسألة تصنيف فن الراي بين الجزائر والمغرب راجع حسب الخبراء إلى غياب مراكز البحث والتأريخ في المنطقة، وخاصة في الجزائر، حيث ترك المجال شاغراً، وتراكم التاريخ فأضحى من الصعب التمييز بين الطبوع الفنية المتقاربة في الإيقاع.
لكن أستاذ الموسيقى وليد بوڨرة يؤكد على جزائرية فن الراي، مستدلاً بتطوره خلال قرنين من الزمن، يقول: "الجزائر زرعت بذور الراي، واعتنت بها وحصدتها في الأخير بوصوله للعالمية، على عكس المغرب الذي كان يعيد ويستنسخ كل ما هو جزائري، ولم يعمل على تطوير هذا الفن بالرغم من التقارب الجغرافي والتشابه في التقاطع في هذا الموروث الثقافي. ويمكن الفصل في هذا الجدل من خلال العودة بعجلة التاريخ إلى الوراء، بالاستعانة بأرشيف الصحافة والتسجيلات، فالجزائر حولت ذلك الطابع البدوي إلى فن الراي المعروف بصيغته الحالية، وإلى صناعة حقيقية، بثورة في الإنتاج بين الثمانينيات والتسعينيات، ويعود الفضل أيضاً في تلك الحقبة إلى استوديو Disco maghreb بمدينة وهران.
رحلة الراي بالجزائر
مغنّو الراي لقبوا لفترة طويلة بلقب "الشيخ والشيخة"، قبل أن يظهر لقب جديد في أواسط السبعينيات، وهو "الشاب والشابة" كإشارة للتجديد الكبير الذي ظهر على هذا الطابع الموسيقى.
في السبعينات من القرن الماضي، تألقت موسيقى الراي ووجدت لها موضوعاً خصباً في الملاهي الليلية لكورنيش وهران، وتغنى فنانو الراي بمغامرات الحب والغرام وكل ما يحلم به الشباب، حتى اشتهر بـ"الفن الممنوع " الذي لا يتناسب وطبيعة المجتمع الجزائري المحافظ.
فترة الثمانينيات شهدت ظهور فرقة "راينا رأى" من سيدي بلعباس، وقد كانت علامة فارقة في الغناء الجزائري، أما العصر الذهبي لأغنية الراي، فقد كان في تسعينيات القرن الماضي رغم توتر الأوضاع السياسية ودخول الجزائر مستنقع الدم بسبب العشرية السوداء، إذ تعرض العديد من الفنانين للاغتيال، أبرزهم المرحوم الشاب حسني.
الجدل القائم حالياً في مسألة تصنيف فن الراي بين الجزائر والمغرب راجع حسب الخبراء إلى غياب مراكز البحث والتأريخ في المنطقة، وخاصة في الجزائر، حيث ترك المجال شاغراً، وتراكم التاريخ فأضحى من الصعب التمييز بين الطبوع الفنية المتقاربة في الإيقاع
الأسطورة حسني أحدث ضجة بأغانيه، وكان له الفضل في إدخال أغنية الراي إلى البيوت الجزائرية، فلُقّب بملك الأغنية الرومنسية دون منازع.
بعد حادثة اغتياله، هاجر الشاب خالد والشاب مامي من الجزائر، واستقرا بفرنسا وهناك كانت نقطة تحول الراي الذي خرج من رحم الجزائر إلى العالمية.
منطقة شمال إفريقيا... تقاطع في الثقافات والأكلات والأزياء
مخاوف الجزائر من "تحركات المغرب" الذي يزاحمها في عدة موروثات شعبية تقليدية، تجد ما يعللها، وأفضل دليل على ذلك، ما حدث مع طبق الكسكسي الشهير، ( أكلة شعبية تصنع من طحين القمح) إذ سجلت منظمة اليونيسكو في 16 كانون الأول/ديسمبر 2020، طبق الكسكسي ضمن قائمتها للتراث العالمي غير المادي، إثر تقديم أربع دول مغاربية هي الجزائر والمغرب وموريتانيا وتونس، للمرة الأولى، ملفاً مشتركاً بعنوان "الكسكسي: المعارف والمهارات والطقوس".
مخاوف الجزائر من "تحركات المغرب" الذي يزاحمها في عدة موروثات شعبية تقليدية، تجد ما يعللها، وأفضل دليل على ذلك، ما حدث مع طبق الكسكسي الشهير
كذلك يدور هذا النقاش حول الألبسة التقليدية، كالقفطان والقندورة والمفتول والجابادور، وهذا راجع إلى تقاطع الحضارات والثقافات بين البلدان المغاربية، التي لم تكن تفصلها حدود جغرافية، وفي الحقيقة هي عناصر تعزز قيمة الترابط بين هذه البلدان في شمال إفريقيا، لولا الخلافات السياسية.
مصالحة الذات والتاريخ
خبراء في مجال موسيقى الراي يؤكدون أن تصالح الجزائريين مع تاريخ هذا الفن الشعبي، أهم بكثير من الركض وراء تصنيف اليونيسكو. ومنهم الشاب الموسيقار طارق قادم، الذي يعد واحداً من الأسماء اللامعة في مجال الموسيقى الجزائرية، يستهل طارق حديثه مع رصيف 22 قائلاً: "في 2021 تطل علينا وزارة الثقافة لتقول إن فن الراي جزائري، هذا جميل وإنما يجب أن نحدد المفاهيم جيداً، ما هو تعريف الراي؟ هل هو ذلك الفن الذي قدمه أحمد وهبي وبلاوي الهواري في مدينة وهران؟ أم ما قدمته الشيخة ريميتي في مدينة بلعباس؟ هل هو ذلك الموروث الذي كان يطلق عليه اسم "العروبي" أم هو "الرڨادة" الذي يعد تراثاً مشتركاً بين الجزائر وبين المغرب؟ أم يقصد به الراي الذي أدخله الشاب حسني للبيوت لتسمعه العائلات بعد أن كان ينظر إليه كفن ساقط ومحظور في التلفزة والإذاعة والأعراس؟ أم هو الراي الذي حمله الشاب خالد للعالمية من خلال أغنية "دي دي" و"عايشة" وهما أغنيتان من تلحين وتوزيع فنانين أجانب.
ويصف الملحن الشاب تجربته واحتكاكه مع فنانين مغاربية ونظرتهم إلى أصل وتاريخ الراي قائلاً: "الفنانون المغاربة يطلقون إسم " فن مغربي" على الطبوع الفنية كافة، ولو كانت متقاربة في إيقاعها مع الراي، خاصة أن الإيقاع الحديث يعتمد على التكنولوجيا، أو ما يعرف بالإيقاع الإلكتروني، أي تم الاستغناء عن الآلات الموسيقية القديمة التي تستخدم في الراي. ولهذا أرى أن هذا النقاش يدور داخل حلقة مفرغة، وهو نقاش سياسي داخلي بين الجزائريين والجزائريين، فحتى الفنانون في المغرب مقتنعون بأن فن الراي جزائري وليس مغربياً".
وبعيداً عن الانقسامات الداخلية والصراعات الإقليمية، وكائناً من كان الفائز باعتراف اليونيسكو، فالمؤكد أن الموسيقى سوف تظل بلا حدود، ولا تخضع لمنطق الصراعات السياسية، التي تبعد الفن عن جوهره، كجامع للشعوب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...