جاءوا إلى فلسطين من دول وأمم مختلفة، لكنّهم عاشوا كأسرة واحدة وتعاهدوا على تجسيد الأخوة فيما بينهم. فلغوا فكرة "الأسود العبد" التي كانت سائدة حينذاك في عقليّة المقدسيين. وأنتجوا مكانها فكرة الأسود المقدسي المناضل الذي قد يكون شهيداً أو أسيراً أو مرابطاً أو مدافعاً عن فلسطين. هم الأفارقة المقدسيّون أو المقدسيّون من أصول أفريقية، أولئك الذين وفدوا إلى المدينة المقدّسة لأهداف دينية ونضالية ويبلغ عددهم اليوم قرابة 750 نسمة. اتخذوا من "باب المجلس"؛ أحد أبواب المسجد الأقصى، رمزاً يعبّر عن حارتهم الصغيرة، وحوّلوا "حبس الدم"، الذي كان في يوم ما سجناً عثمانياً، إلى مركز حياة الأفارقة في القدس، والمنطقة التي يعيش فيها الجزء الأكبر منهم.
ضيوف القدس يستقبلهم مفتي المدينة
وينحدر معظم المقدسيين من أصول أفريقية من خمسة دول هي: تشاد والسودان ونيجيريا والسنغال ومصر. أجداد النسبة الأكبر من هؤلاء بدأوا بالقدوم إلى القدس منذ بدايات القرن الماضي وحتى أربعينياته، بحسب المدير التنفيذي لجمعية الجالية الأفريقية موسى قوس وهو سليل هؤلاء الأفارقة، وقد هاجر من دولة تشاد. يقول قوس لرصيف22: "معظم الأفارقة الذين هاجروا من الدول المذكورة كانوا ذكوراً. عاشوا في القدس العتيقة وتزوجوا من أهلها، وسكنوا في أرجائها. لكن الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس خلال فترة الانتداب البريطاني، استخدم نفوذه حينذاك وأجّرهم المبنيين المقابلين لباب المجلس، يدعيان الرباطان المنصوري والصليبي. كانا عبارة عن سجنين خلال فترة الحكم العثماني لمدينة القدس". ويضيف: "هذان السجنان كانا يدعيان خلال فترة الحكم العثماني؛ (سجن الرباط) و(سجن الدم)، لكنهما تحولا فيما بعد إلى مركز لسكن المقدسيين الأفارقة بأجور رمزية، بسبب علاقتهم القوية بالمفتي الحسيني. كما أنّ الأخير تعمد القيام بذلك حتى يكونوا قريبين من المسجد الأقصى بهدف حمايته".
ويشير قوس إلى أنّ أول شهيد مقدسي أفريقي يدعى الحاج عثمان التكروري، ارتقى وهو يدافع عن مفتي القدس أمين الحسيني من الاعتقال على أيدي قوات الاحتلال البريطانية داخل المسجد الأقصى. وأردف قائلاً: "كان للمفتي الحسيني ستّة من الأفارقة المقدسيين كحراس دائمين له. لثقته بقوتهم وولائهم وحبهم للمدينة والمسجد الأقصى".
يعتبر الدفاع عن الأماكن المقدسة أحد أهم الأسباب التي دفعت الأفارقة للهجرة إلى مدينة القدس، حتى أن عددًا منهم تطوعوا في جيش الإنقاذ العربي
لم يجلبوا الكثير من تراث القارّة السمراء
لم يجلب الأفارقة المقدسيون الكثير من تراث بلادهم في القارة السمراء. وليس سوى القليل من كبار السنّ منهم، لا يزال يتحدث بلغات أفريقية، بحسب قوس. فيقول مازحًا: "عندما يريد كبار السنّ تبادل أحاديث لا يريدون للشباب والأطفال أن يفهموها، يتحدثون بلغة أفريقية". ويضيف: "كوننا جالية صغيرة، وأجدادنا قدموا إلى القدس بأعداد محددة، انصهرنا ضمن المجتمع المقدسي وأصبحنا جزءًا منه، فنحن كأجيال متلاحقة بعد الهجرات الأفريقية إلى مدينة القدس لم نشعر سوى أننا فلسطينيون. ما يميزنا في الجالية الأفريقية، الترابط فيما بيننا على أساس الأصل العرقي، وليست عادات أو تقاليد ورثناها من بلادنا في قارة أفريقيا". رغم ذلك، ما زال الأفارقة المقدسيين يحتفظون بعدد من العادات والأكلات والتقاليد الأفريقية. يتحدث قوس عن أكلة "العصيدة" على الطريقة التشادية، مشيراً إلى أنها من الأمور النادرة التي ما زالت تذكره بالبلاد التي جاء منها جده. فيقول عنها: "أشعر أنّ هذه الأكلة هي من تراث أجدادي، أتمنى أن تبقى ويحافظ عليها أبنائي وأحفادي، الفكرة ليست بالأكلة نفسها بقدر ما أنّها رمز لأصولنا وثقافة أجدادنا".
مناسبات الأفارقة المقدسيين، تعد وقت ملائم جداً، كما يقول قوس، لإحياء تراثهم الأفريقي. "خلال حفلات الزفاف الخاصة بأحد أبناء أو بنات الجالية؛ يلبس البعض أزياء أفريقية تقليدية". كما أنّ هناك عادة أفريقية دارجة بين أبناء الجالية في القدس، تسمى (الحطيطة). وهي تعبر عن الدعم والمؤازرة المجتمعية، تهدف لإبداء التضامن والتكافل معنوياً ومادياً بين أبناء الجالية في الأتراح والأفراح"، يقول قوس.
الفنان حسام أبو عيشة، الذي كان من أوائل المقدسيين الذين تزوجوا من امرأة فلسطينية من أبناء الجالية الأفريقية، يقول لرصيف22: : "رغم المشكلات الاجتماعية التي كانت تحاصر مجتمع الجالية الأفريقية، إلا أنني شعرت بأنه مجتمع الجالية كأي بيئة فلسطينية أخرى، تواجه العراقيل نفسها، ولديهم العادات الاجتماعية ذاتها. كما أنهم قدموا للوطن الشهيد والأسير والجريح، لكن ما يميزهم أنهم كالبنيان المرصوص، يدٌ واحدة في السراء والضراء، يجمعهم لون بشرتهم لمشاركة همومهم وأفراحهم. ومن الأمثلة على ذلك، إنشاؤهم لصندوق مالي خاص بأبناء الجالية".
صورة طيبة عن الأفريقي الفلسطيني
رغم أنّ الأفارقة وفدوا إلى مدينة القدس حجاجاً ساعين لنيل القرب من المسجد الأقصى، إلّا أنّ العنصريين من أهل القدس اعترضوا على إقامتهم داخل المدينة. بل ورفعوا كتاباً إلى ما كان يسمى "المندوب السامي البريطاني" يطالبون فيه إجلاء الأفارقة عن القدس، بحسب قوس.
في الحديث عن العنصرية، يقول قوس: "الممارسات العنصرية ضد الأفارقة المقدسيين، رغم بعض العنصريين، لم تصل مستويات خطيرة من قبل أهل المدينة. فلم تكن هناك اعتداءات جسدية ولفظية ضدنا على أساس عرقي. بلّ على العكس، كان وما يزال هناك احترام متبادل، وعلاقات صداقة ونسب، وقضايا تحررية ووجودية توحدنا ضد الاحتلال الإسرائيلي".
يقول حسام أبو عيشة: "في البداية كان كل شيء غريبًا، أهل زوجتي لم يتقبلوني. شعرت بأني غريب عنهم. وهم كذلك. كما لم يتقبل أهلي هذه العلاقة، لكن الحب الذي جمعني بزوجتي جعلنا نتجاوز كل هذه الصعب، وننتصر عليها". فعلى الرغم من عدم تقبل أبناء الجالية له في بداية زواجه قبل قرابة 38 عامًا، إلا أنه بعد فترة قصيرة أصبحوا يعتبرونه واحداً منهم، بل بات يمثلهم ويتكلم باسمهم في بعض المناسبات. يقول أبو عيشة إنه كوّن عائلة تعكس معنى وحدة الشعب الفلسطيني واحترام الإنسان أولاً مهما كان لونه وعرقه وأصله.
انصهرنا ضمن المجتمع المقدسي وأصبحنا جزءاً منه، فنحن كأجيال متلاحقة بعد الهجرات الأفريقية إلى مدينة القدس لم نشعر سوى أننا فلسطينيون
ويقول قوس: "نحن عملنا على أن نعكس صورة طيبة عن الأفريقي الفلسطيني، وغيرنا الفكرة السائدة قديماً بأنّ "كل أسود هو عبد"، حرصنا على أن نُلغي المصطلحات الدارجة في أذهان المقدسيين والتي ارتبطت بالسود بشكل عام مثل كلمة (عَبْيد) أو (فستق عبيد) أو (حبس العبيد). لكن قوس نوه إلى أنّ العديد من العائلات المقدسية ترفض تزويج أبنائها وبناتها للمقدسيين من أصل أفريقي، من منطلق عنصري. ويقول: "الكثير من أبناء الجالية الأفريقية عانوا من العنصرية، لكن ذلك بدأ يتلاشى مع مرور الوقت، مع تطور الوعي وتلاشي الأفكار العنصرية القديمة". أما أبو عيشه فيقول إن العنصرية متغلغلة بشكل عام في المجتمع الفلسطيني، فهناك تفرقة بين فلاح ومدني وابن المدينة وابن المخيم. ويتابع قائلاً: "طالت العنصرية أبناء الجالية الأفريقية، إذ عانوا على المستوى الاجتماعي، فحتى يومنا هذا هناك العديد من العائلات المقدسية التي ترفض مصاهرة أبناء الجالية لعنصريتهم على أساس لون البشرة".
شهداء وأسرى ولاجئون
قدّم الأفارقة المقدسيون على مدار السنين التي سكنوها في القدس، وحتى يومنا هذا، شهداء وأسرى ومصابين. وهم أول الثائرين عند الحاجة. وعن ذلك يقول قوس: "يعتبر الدفاع عن الأماكن المقدسة أحد أهم الأسباب التي دفعت الأفارقة للهجرة إلى مدينة القدس، حتى أن عدداً منهم تطوعوا في جيش الإنقاذ العربي لغرض تحرير الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1948. ولعل أبرز الشهداء الأفارقة المقدسيين الذين ارتقوا دفاعاً عن فلسطين، ابن الجالية بشير إبراهيم جبريل الذي اغتاله جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) في العاصمة اليونانية أثينا عام 1979، كونه أحد رموز المقاومة الفلسطينية من خلال النضال في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بحسب قوس.
شارك الأفارقة المقدسيون أيضاً، كما يشير قوس، ضمن قوات الثورة الفلسطينية في العاصمة اللبنانية بيروت، فاستشهد وأصيب عدد منهم برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي. كما تشير إحصائيات نادي الأسير الفلسطيني إلى أن 80٪ من أبناء الجالية الأفريقية تعرضوا للاعتقال مرة واحدة على الأقل على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي. ويضيف قوس: "كان أبناء الجالية دائماً في الطليعة. وأكبر دليل على ذلك هو أن أول فتاة فلسطينية اعتقلت في العام 1967 كانت من الجالية الأفريقية، وهي فاطمة برناوي، التي حكم عليها في بالسجن وتم إبعادها، ثم عادت إلى الوطن في العام 1994 برفقة الرئيس الراحل ياسر عرفات. وهي الآن مسؤولة الشرطة النسائية الفلسطينية". برناوي هي ابنة أب نيجيري، زرعت قنبلة في مسرح يهوديّ في القدس الغربية في نهاية العام 1967، وحكم عليها بالسجن لمدة 30 عاماً امضت منها 10 سنوات في السجون الإسرائيلية قبل أن يتم إبعادها، كما يقول قوس.
كذلك، لم يسلم الأفارقة المقدسيون من نكبات الشعب الفلسطيني، فنزح عدد لا بأس منهم إلى مخيمات اللجوء. يقول قوس: "ساهم الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس في تقطيع أوصال الجالية الإفريقية، فشُتت قسم لا يستهان به من أفراد الجالية في مخيمات اللجوء الفلسطيني في الدول المجاورة، بعد المجازر التي ارتكبها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني مثل مذابح قبيا وكفر قاسم ودير ياسين وغيرها". ويردف قائلاً: "انعكس ذلك على حجم الجالية الإفريقية المتواجدة في المدينة المقدسة الذي انخفض إلى أقل من الربع. حيث وصل عددهم إلى نحو 750 فرداً في مدينة القدس، يعيش 450 منهم فقط في منطقة الجالية الأفريقية قرب باب المجلس في القدس العتيقة".
ساهم الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس في تقطيع أوصال الجالية الإفريقية، فشُتت قسم لا يستهان به من أفراد الجالية في مخيمات اللجوء الفلسطيني
في القدس؛ في السيادة الإسرائيلية
"الأفارقة المقدسيين يعانون الحرمان من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية شأنهم شأن بقية أبناء الشعب الفلسطيني في مدينة القدس، لكنهم مختلفون كونهم محرومون من أية جنسية"، يقول قوس ويضيف: "إبان الحكم الأردني لم تعاملهم السلطات الأردنية كباقي أبناء الشعب الفلسطيني، بل كأغراب حيث حرمتهم من الجواز الأردني أسوة بباقي المقدسيين، على الرغم من أن الأفارقة موجودون في هذا البلد حتى قبل إقامة إمارة شرقي الأردن عام 1923 واستقلال المملكة الأردنية الهاشمية عام 1946". أما الاحتلال الإسرائيلي فقد عامل الأفارقة المقدسيين كباقي المقدسيين؛ أردنيون مقيمون بصفة دائمة في القدس. فلم يمنحهم الجنسية الإسرائيلية كالفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة عام 1948. وبشأن ذلك، يقول قوس: "كأفارقة مقدسيون، لا نستطيع السفر سوى باستخدام وثيقة سفر إسرائيلية، تتيح لنا فقط السفر الى البلدان التي لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل".
من جهة أخرى، هدفت إسرائيل إلى استمالة الجالية الأفريقية إلى طرفها في العديد من المناسبات، إلّا أن محاولاتها هذه فشلت دائماً. لكن أبناء الجالية دفعوا الثمن، بحسب قوس. ويقول المدير التنفيذي لجمعية الجالية الأفريقية لرصيف22: "علاقتنا مع الاحتلال الإسرائيلي واضحة منذ البداية، وهي أنه محتل، وأننا جزء لا يتجزأ من المجتمع المقدسي الفلسطيني، نعيش تحت وطأة الاستعمار، ونعاني منه. هو موقف نفتخر ونعتز به". ويؤكد أنّ محاولات إسرائيلية عديدة قامت بها إسرائيل، عبر إغراءات لأبناء الجالية، ومحاولة إشعارهم بأنهم مميزون عن باقي الفلسطينيين، لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...